النصّ الكامل لمحاضرة النقيب جورج جريج عن “الآداب والمحاماة “
حاضر نقيب المحامين السابق جورج جريج في “بيت المحامي” حول المحاماة وآداب المهنة، في حضور النقيب ناضر كسبار وأعضاء مجلس النقابة ولجنة إدارة صندوق التقاعد ومحامين عاملين ومتدرّجين. وقدّمه رئيس محاضرات التدرّج، عضو مجلس النقابة المحامي الكسندر نجار.
بعد النشيد الوطني اللبناني ونشيد نقابة المحامين، تكلّم المحامي نجار فقال:
« سعادة نقيب المحامين في بيروت الأستاذ ناضر كسبار،
زميلاتي وزملائي،
أوّد أن أشكر بدايةً سعادة النقيب الأستاذ ناضر كسبار على دعمِه الدائم لمحاضرات التدرّج كما أشكر الحاضرين معنا اليوم سواء في القاعة أو عن بعد Online وعددهم يفوق الـ/350/ محامٍ،
كانت المحاماة أيام الرومان المهنةَ الأبرز والألمع بين المهن، وكان المحامون أمثال Cicéron يتميّزون بالفن الخطابي ويلعبون دوراً كبيراً في الحياة الإجتماعية والسياسية.
إن هذا الإحترام المرتبط بمهنة المحاماة النبيلة يعود إلى أن المحاماة ترمي إلى تحقيق رسالة العدالة وتساهم في تنفيذ الخدمة العامة كما جاء في المادتين الأولى والثانية من قانون تنظيم مهمنة المحاماة.
والمُلفت في المادة الثانية من هذا القانون أنها ربطت الحصانات والضمانات التي يتمتّع بها المحامين بالموجبات المفروضة عليه ، أي أن الإمتياز الذي مُنِح للمحامي هو مقابل إلتزامه بمجموعةٍ من القواعد التي يَفرِضُها القانون أو تَلْحَظُها الأنظِمة الداخلية للنقابة والكفيلة بالمحافظة على آداب المهنة ومستواها حتى في أحلكِ الظروف كالظروف الكارثية التي نَمُرُّ بها حيث نرى الوضع الإقتصادي والإنهيار المالي والإضرابات المتتالية تُنهك المحامي وتُعرقل مهامَه أو تحثّه على الهجرة .
يقول المحامي Jacques Hamelin في كتابه Les règles de la profession d’avocat :
“ Du fait qu’ils appartiennent à un Ordre, les avocats sont soumis à une discipline et à des devoirs qui sont la justification de cet ordre organisé lui-même dans l’intérêt de la justice et des justiciables.
« (…) L’Ordre des avocats repose sur des principes de probité, de désintéressement, de modération et de confraternité ».
أي ” إن المحامي، بحكم انتمائه إلى نقابة المحامين، يصبح خاضعاً لنظامٍ ولموجبات تبرّر وجود هذه النقابة المنظّمة لمصحلة العدالة والمتقاضين. وترتكز نقابة المحامين على مبادئ النزاهة والترفّع والإعتدال والزمالة “.
يكفي هذا القول لإبراز أهمية محاضرة اليوم التي سيلقيها النقيب السابق الأستاذ جورج جريج بعنوان “الآداب والمحاماة “.
زميلائي وزملائي ،
لعب النقيب جورج جريج دوراً بارزاً في تاريخ نقابة المحامين في بيروت فعُرِف بنشاطه المستمرّ وبإعتماده على أفضل الخُبُرات في النقابة وتميّز بالمشاريع الكبرى التي أنجزَها ، وقد بقي ، بعـد نـهاية ولايتـِه، أباً وأخـاً لعـددٍ كبيـرٍ مــن المحاميـن ، بفضـل انـدفاعه الدائم وصُدقه ووفائه – هذه الميزة التي أصبحت عملةً نادرة – بالإضافة إلى انفتاحه على الجميع من دون أي تمييز طائفي أو حزبي أو مناطقي على الإطلاق. ولعلّ أهم صفة يتمتّع بها، إلى جانب صفاته العديدة ، هي التواضع ، التي قال عنها الشاعر إيليا أبو ماضي أنها ” شيمةُ الحكماء “.
وبإختصار، لقد أثبت النقيب جريج أنه فعلاً من طينة النقباء الكبار الذين تركوا بصمةً لا تُنتسى في نقابة المحامين.»
بعدها ألقى النقيب جورج جريج الكلمة الآتية:
«حضرة النقيب، حضرة أعضاء مجلس النقابة وأعضاء صندوق التقاعد،
حضرة رئيس محاضرات التدرج الزميل الدكتور الكسندر نجار على ما أنت عليه من حضور لبناني وعالمي تتوقف عنده النقابة.
الزميلات والزملاء الحاضرين وعبر الـ Online،
أنقى ما في العَدَسَةْ، وأصدقُ ما في القلبْ، أن تعودَ لرؤيَةِ روما من تحتْ بعد أن رأيتَها من فوقْ.
أعترفُ أمامكُمْ أن نقيبَ المحامين، مهما بلغَ نفوذُه، يسقطُ اذا لم يبقَ أولاً محامياً ثم نقيباً.
يسقطُ اذا اعتزلَ المحيطْ، أو انعزل في بُرجِهِ،أو اختزل الشراكةَ بمحمياتٍ تزولُ قبلَ زوالِ الولايةْ.
هذه بعضُ سلوكياتِ نقيب المحامين غير المكتوبةْ، هي أدبياتٌ وليست تشريعاتٍ، لكنها، أمضى فعلاً من أي قانونٍ آمر.
الأكيدْ أنَ لكل نقيبٍ أسلوبُهُ، ولكلِ نقيبٍ فريقُهُ، ولكل نقيبٍ برنامجُهُ، لكن هذه القاعدةْ cette norme لا يمكنُ أن يشذَ عنها نقيبٌ والا صارَ عقيماً لا نقيباً.
أوصي النقيبَ المقبلْ أن تكونَ هذه القاعدةْ سيرةَ سنتين من عمرِه.
وأحيي النقيب الاستاذ ناضر كسبار الذي تَمَسَكَ ومجلسَ النقابة بهذهِ القاعدةِ الذهبيةْ، ولا أذيعُ سراً، أنَّ النقيب كسبار وأنا تخرجنا في العام 1982، وانتسبنا وأقسمنا اليمين ودخلنا النقابة معاً في العام 1983. ترشحنا الى عضويةِ مجلسِ النقابة وفزنا معاً ودخلنا مجلسَ النقابة خلال ولايةِ النقيب بطرس ضومط في العام 2006. ترافقنا في مجالسْ نقابيةْ مختلفة، توافقنا وتنافسنا، وكان النقيبُ خيرَ سندٍ لي في ولايتي، عضواً فاعلاً وعاملاً، وأعتقد أنني لستُ الا كذلك.
الزميلات والزملاء،
لا توجد مهنةٌ دونَ أدب، بل يوجدُ مهنيونَ دونَ أخلاق.
لا مهنةْ على الارض، مجرَدَةٌ من الأخْلاقياتْ، خاليةٌ من الادبياتْ، فكيفَ اذا كانت مهنةً رسوليةً كالمحاماةْ، أمُّ المهنِ الحرة.
أنا هنا في صرحِ العدالةِ ورحابها، لن أرتديَ أمامَكُم القفّازاتْ (الكفوف)، ولن أرتديَ ثوبَ الواعظ، بل ثوبي الحقيقي، ثوبَكم الحقيقي روب المحاماة لأقولْ:
ثلاثةْ تحكُمُ مهنةَ المحاماة: الحقيقةْ، والحريةْ والكتابةْ.
وثلاثةْ نلتزمُ بها:
الالتزامُ بالاشفّ، وهذه هي الشفافية.
والالتزامُ بالادقّ، وهذه هي الدقة.
والالتزامُ بالاحقّ، وهذا هو الحق.
إن اليمينَ التي يؤديها المحامي، أساسٌ في أخلاقياتِ مهنةِ المحاماةْ، التي يأتي في طليعةِ أهدافِها، تحقيقُ رسالةِ العدالة، كما جاءَ في المادةِ الأولى من قانونِ تنظيمِ مهنةِ المحاماة.
فالمحاماةُ رسالةٌ ووظيفةٌ عامة، للدفاعِ عن الحقِ الخاصِ والعام، وركنٌ أساسيُ في العدالةْ، والمحامونَ يُقسِمونَ على احترامِ العدلِ والقضاء.
بل هي مهنةٌ تَهْدِفُ الى استخدامِ القوى النافعةْ للانسان، كما يقولُ البرفسور بالمر Palmer.
مهنةٌ تُمارَسُ بروحِ الخدمةِ العامة، وهو البعدُ المعطى للمهنةِ في الفكرِ الأنكلو ساكسوني.
ولهذا، استعجلَ جوسران، واضعُ قانونِ الموجباتِ والعقود، وَضْعَ نظامٍ خاص للمحامين. وجاءَ في أحدِ الاحكامِ الصادرةْ قديماً عن القضاءِ الفرنسي، أن مجلسَ نقابةِ المحامين، المنعقدْ كهيئةٍ تأديبيةْ، يجب أن تشملَ صلاحياتُهُ، الافعالَ ذات العلاقةِ بالحياةِ الشخصيةْ، اذا كانت تمسُّ بكرامةِ المحاماة.
الزميلات والزملاء،
سَتُرَكِزُ مداخلتي في قسمِها الاول، على تجوالٍ سريعْ على النصوصِ الآمرةْ بسلوكياتِ المهنة، المنصوصِ عليها في قانونِ تنظيمِ مهنةِ المحاماة، وفي نظامِ آداب مهنةِ المحاماة ومناقبِ المحامين، وفي النظامِ الداخلي لنقابةِ المحامين، وسأكتفي بالاهم منها، لأنتقل منها الى القسمِ الثاني لمحاكاةِ الواقع، ومعالجةِ المسؤوليتين الجزائية والتأديبية، التعاقدية والتقصيرية.
القسم الاول: في النصوص الآمرة بسلوكياتِ المهنة :
في الشكلْ، تُمثِّلُ الأناقةُ علامةً فارقةْ، لا أقصدْ اللباسَ الـ signé بل أناقةَ المظهرِ اللائق، والأناقةْ في ارتداءِ روبِ المحاماة، والأناقةْ في شكلِ اللوائحِ ومضمونِها كتابةً وقانوناً، هي الأناقةُ في الخطابِ الشفهي والعريضةْ المكتوبةْ.
هي الأناقةْ في فنِ المنافسةِ في الانتخابات النقابية التي أريدُها الأبعد عن الموائدِ والمكائدِ ومخاطبةَ العقلِ لا المعدةْ، والأقربْ الى جُوّانيةِ المحامي وفكرِه ومشروعِه واستعدادهِ للنُسكِ في صومعةِ النقابةِ سنتينِ كاملتينْ.
في الأساسْ، المحاماةُ شرفٌ واستقامةٌ ونزاهةْ، وليست هذه كلماتٍ للاستهلاك، بل مبادىءْ على المحامي التقيدُ بها وَفْقَ نصِ المادة 80 من قانونِ تنظيمِ المهنة.
والمحاماةُ كرامةٌ واستقلالْ، ونقيضُ التبعيةِ والوصايةِ والدونية، وقد مَنَعَتْ المادة 15 من قانونِ تنظيمِ المهنة الجمعَ بين المحاماةِ والأعمالِ التي تتنافى واستقلالَ المحامي أو لا تتفقْ وكرامةَ المحاماة.
والمحاماةُ سجلٌ عدلي، فهي ليست بيتاً للراحة، أو مستودعاً للمنفيين من أسلاكٍ أخرى، حيثُ اشترطَ النظامُ لممارسةِ المحاماة أن يكونَ طالبُ الانتسابِ الى النقابة غيرَ مصروفٍ من وظيفةٍ عامة أو مهنةٍ سابقة لسببٍ يُخلُ بالشرفِ والكرامةْ (م5).
كما لا يُقبلُ تسجيلُ القاضي في نقابةِ المحامين اذا أُنهيتْ خِدْماتُهُ لسببٍ تأديبي يُخِلُّ بالشرفِ والكرامة (م.27).
ومهنتُنا ليستْ مادةً للتسويقِ أو للدعايةِ والاعلانْ، فالمحاماة ETUDE تقصُدُها بداعي الثقةِ والكفاءةِ والعلم، وليست محلاً يَجْذُبُكَ اليه باعلاناتِه وتنزيلاتِه، وليستْ واجهةً أو VITRINE تَعْرِضُ حُليَّها ومجوهراتِها، فجوهرُ المحاماةِ رصانتُها ورقيُها، علوُها وسموُها، وهذا ما عبرّتْ عنه المادتان 85 و86 بمنعِهِما المحامي من السعيِ لاكتسابِ الزبائنْ بوسائلِ الدعاية، أو باستخدامِ الوسطاءِ أو السماسرة، أو الاعلانِ عن نفسِه وإضافةِ الالقابِ الى اسمه.
والمحاماةُ خطابٌ راقٍ، والتزامُ جانبِ الاعتدالْ في مخاطبةِ الزملاءِ والمحكمة. وحقُ الدفاعِ المكرّسِ في المادة 74 من قانونِ تنظيمِ المهنة لا يتنافى واعتمادَ الكلام الراقي الذي يجبْ أن يصدرَ عفواً عن المحامي من دونِ الحاجةِ إلى إعمالِ نصِ المادة 495 من قانونِ أصول المحاكمات المدنية التي تعطي المحكمةَ حقَ شطبِ العباراتِ النابية والجارحةْ والمخلّةِ بالآداب.
والمحاماةُ حفظٌ لسرِّ المذاكرة، فلا يَفشي المحامي ما اؤتُمِنَ عليهِ أو عَرِفَهُ عن طريقِ المهنة (م. 92).
ومهنةُ المحاماةِ مهنةٌ كريمة LIBERALIS، وتنصُ المادتان 60 و66 على المدافعةِ عن اشخاصٍ مجاناً، وهذه ميزةٌ خاصة بنقابةِ المحامين، فالمتقاضي المُعْوَز ضيفٌ كريمْ يَحُلُّ على نقابةِ المحامين التي عليها حسنُ ضيافتِه وتكريمِه واعانتِه دون مقابل. رسالةُ المحاماةِ هذه تعبّرُ عنها لجنةُ المعونة القضائية وبرنامجُها.
والمحاماةُ وقتٌ ثمين، وعلى المحامي واجبُ عدمِ التسببِ بإهدار الوقتِ واطالةِ أمدِ المحاكمة،
وعليه واجبُ عدمِ قبولِ وكالةً في دعوى كان أحدُ زملائِه وكيلاً فيها دونَ موافقةِ الزميلْ أو دون إذنٍ من النقيب (93).
وعدمُ قبولِ المحامي وكالةً ضدَ زميلِه أو اقامةِ دعوىً شخصيةْ عليه قبلَ حصولِه على إذنٍ من النقيب (94)
ومن غيرِ المقبولِ أن يُحاكَم المحامي غيابياً، هذا دليلٌ على إهمالِ الوكالةِ التي ارتضى الدفاعَ عنها.
ومن غيرِ المقبولِ أن يَعلَمَ الموكلُ بالحكمِ الصادرِ قبل الوكيل، هذا دليلٌ على عدمِ الاهتمام.
وفي تجوالٍ على نظامِ آدابِ مهنةِ المحاماةِ ومناقبِ المحامين المكمِّلِ لقانونِ تنظيمِ المهنة وللنظامِ الداخلي، نرى أن هذا النظامَ عالجَ علاقةَ المحامي مع موكلِه على أساسِ الصدقِ والثقةِ والاحترام، والاعتدالِ في تحديدِ الاتعاب، فالمحامي ليس أسيرَ أتعابِه.
كما نظّمَ علاقةَ المحامي مع المحامي الزميلْ على أساسِ أدبِ المخاطبةِ كتابةً أو شفاهةً، وحظّرَ الذمَّ والتجريحْ. فالمحامون أمامَ القوس، متنافسون لا متخاصمون، منحازون كلٌّ لموكلِه، ثائرون دفاعاً عن وكالتِهم، لكنّهم في النهاية مسافرون في مركبٍ واحدْ هو مركبُ القانون، ومتجهون الى مرفأٍ واحد هو مرفأُ العدالةِ والحق.
أما علاقةُ المحامي مع القاضي، فتنهضُ على أساسِ الشراكةِ في انتاجِ العدالة، والتوازنِ بين جناحَيْها، وحمايةِ هيبةِ وقدسيةِ القضاءِ والمحاماة. فالمحامي، هو القاضي والمحامي معاً المتكاملانِ في ارساءِ العدالة، ولا طلاق بينهما، ويقول المحامي بول لومبار:
Il n’y a pas de divorce possible entre la défense et la justice.
لكنْ اذا كنّا أمامَ تعاونِ السلطتينِ النقابيةِ والقضائيةْ، الا أَننا أمامَ فصلِ السلطتينْ، وأمامَ فرضِ المحامين علمَهُمْ الوارد في لوائحِهم على القضاةْ بحيثُ لا يُتركُ مجالٌ للقاضي بإهمال الردِّ على كلِّ الطلباتِ القانونية المدلى بها.
والمحاماةُ مواجهةٌ مهذبةْ من خلالِ عدمِ الرضوخِ لإستعجالِ القاضي في مرافعاتِ المحامين ومقاطعاتِه المعروفة ” شو مطالبك يا استاذ “، مع عدمِ تحويلِ هذه المرافعاتْ الى معلّقاتٍ لا نهاية لها.
في ختامِ هذا القسمِ الاول، أقولْ إنه يجبْ العملُ سويّاً لاسقاطِ القاعدةِ الواردة في كتاب L’avocature التي تقوّضُ مفهومَ التضامنِ المفترضْ بين أهلِ القانون:
” Le concept d’une solidarité entre les juristes n’existe pas. Chaque famille se constitue en bastille rivale .”
وأضيف Ce qui n’est pas vrai.
وما حدثَ من تباينٍ بين القضاءْ والنقابةْ في الفترةِ الأخيرةِ لا يعدو كونَهُ تبايناً في المقارباتْ، من منطلقِ استقلاليةِ النقابةْ ودرايتِها ورسالتِها في تبني القضايا العامةْ والدفاعِ عن حقوقِ الجماعات مثلَ توخي الحقيقةْ والعدالةْ في جريمةِ تفجير المرفأ، وحمايةِ حقوقِ المودِعينْ، الأمرْ الذي لا يمكنُ للقضاءِ مجاراتُه بالقدْر الذي تعطيهِ المحاماة، ما يجعلُ التباين قائماً وأحياناً فاقِعاً بين السلكين، وهذا دليلُ عافيةْ، بل تسقطُ المحاماةْ اذا صارتِ الخاصرةَ الرخوةْ للقضاء.
القسم الثاني: في المسؤوليتين الجزائية والتأديبية، التعاقدية والتقصيرية :
ان الإخلالَ بواجباتِ المحامي تعرضُّهُ للمساءلةِ القضائيةْ والتأديبيةْ كما سيُصار بيانُه.
1 – في مخالفة الواجب المهني.
ان الحفاظَ على سمعةِ المهنة وكرامتِها واجبٌ مقدس لدى المحامي، وأيُّ تهاونٍ يعرّضُهُ للمساءلةِ التأديبية والقضائية.
فالمحامي الذي يستعينُ بسمسارٍ لاكتسابِ الزبائن، يتعرضُ لعقوبةِ الحبسِ والغرامة، بالاضافةِ الى عقوبةٍ تأديبية تقضي بالمنعِ موقتاً من مزاولةِ المهنةْ، ويصبحُ المنعُ نهائياً في حالِ التكرار (99).
ولم يكتفِ المشترعْ بترتيبِ المسؤوليةِ الجزائية على المحامي، بل عرّضَه للمسؤوليةِ التأديبية، المسؤوليةُ الاولى تقضي بها المحاكم الجزائية، والمسؤوليةُ الثانية يقضي بها المجلسُ التأديبي التابعْ لنقابةِ المحامين.
أما مخالفةُ الواجبِ المهني لجهةِ استعمالِ المحامي زبائنَه المسجونين لكسب زبائنَ آخرين في السجن مقابلَ وعدٍ بخفضِ الاتعابِ لمن يقومُ منهم بهذا المسعى، فتشكلُ إخلالاً بواجباتِ المهنةِ العامة وتحُطُّ من كرامتِه وكرامةِ المهنة.
(تمييز مدني فرنسي- قرار صادر في 15 تشرين الثاني من العام 1977)
2- في مسؤولية المحامي تجاه موكله.
اذا ما توغلنا في عمقِ الأدبياتِ المهنيةِ، يتبينُ أن على المحامي أن يأخذَ مسافةْ من موكِلِه ويصوغَ لائحتَه التي تعبّرُ عن مصالحِ الموكل لكن باللغةِ القانونيةْ، مع احاطةِ الأخير بنقاطِ القوةِ والضعفْ في الدعوى وبالمصاعبِ التي قد تعترضُ سيرَ الدعوى، واياكم أن تَعِدوا الموكلَ بالربحِ الأكيد طمعاً بملفٍ او كسباً لزبون. هذه أيضاً من أدواتِ الشغل في المهنة ولصيقةُ أدبياتِها وسلوكياتِها.
للأسف، ان التقنياتِ الحديثة في المجتمع جعلتِ الانسانَ سواءٌ أكان محاميًا، قاضياً، عاملاً أم موظفاً يقيسُ المسألةَ بمقياس بمقياسِ الربح والخسارة لدرجة ان القانونَ صار مهدَداً بالخروجِ عن دورهِ في تحديدِ الحق، في تبيانِ الصح من الخطأ، الى دورٍ ناظمٍ لمسألةِ التبادلِ بين البشرْ على قاعدةِ المنطقِ التجاري والمعادلةِ الربحية la logique marchande.
واذا كان المحامي مسؤولاً تُجاهَ موكلِه وفقاً لمضمونِ وكالتِه، كونَها وكالةَ تمثيلْ Mandat ad litem فهذا يعني القيامَ بواجبِ المشورةِ والحيطةِ والعنايةِ والارشادْ، وأيُّ إخلالٍ بأحدِ هذه العناصرْ يرتبُّ مسؤوليةَ المحامي، وهي مسؤوليةٌ تعاقدية تجاهَ الموكل، وتقصيريةْ تجاهَ الغير.
لكن لا يُلزَمُ المحامي بالتقيدِ بتوصياتِ موكلِه الا بقدْرِ ائتلافِها والضميْر ومصلحةْ الموكل (المادةَ الثالثة من قانون تنظيم المهنة).
ومن صُورِ الاخلالِ بواجبِ المشورةِ مثلاً ارسالُ المحامي الى موكلِه صورةً عن الحكمِ البدائي دون ارشادهِ إلى امكانيةِ استئنافِه ضمنَ المهلةِ القانونية، وعن كيفيةِ الطعنِ بالحكم.
ومن أوجهِ الاخلالِ ايضاً، امتناعُ المحامي عن اتخاذِ اجراءٍ وقائي يضمنُ حقوقَ موكلِهِ، كأنْ يكتفي برفعِ دعوى أمام قضاءِ العجلةْ دونَ إقامةِ دعوى أمام محكمةِ الأساسْ لإثباتِ وجودِ عيبٍ في المبيعِ مثلاً، ثم تُرَدُ دعوى الأساسْ وقتَ يُقررْ تقديمَها لاحقاً لإنقضاءِ المهلة، كونُ دعوى العجلةْ لا تقطعُ مرورَ الزمن.
وتفرضُ الحيطةُ على المحامي إتباعَ توصياتِ موكله، والامتناعَ عن القيامِ بتصرفاتٍ قانونيةْ مثلَ المصالحة والتحكيم في الحقِ المدعى به، وتوجيهِ اليمينِ الحاسمة وقَبولِها وردِها، والتنازلِ عن الحكمْ وعن أيِّ طريقٍ من طرقِ المراجعة، ورفع ِالحجز، والتنازلِ عن التأمينات رغمَ بقاءِ الدين، دونَ تفويضٍ خاصْ صادرٍ عن الموكل.
كما تترتبُ مسؤوليةُ المحامي المدنية لإخلالِه بواجبِ الحيطةْ اذا تجاوزَ وكالتَه التمثيلية S’IL OUTREPASSE SON MANDAT AD LITEM ويُحكمُ عليه بالعطلِ والضرر لتجاوزِه حدودَ الوكالة.
أما إذا تعارضَ رأيُّ المحامي مع رأيِ موكلِه، وأصرَّ هذا الاخير على اتخاذِ اجراءٍ معيّن لم يوافقْ عليه المحامي، وَجُبَ عليه اعتزالُ الوكالة.
ومن واجبِ المحامي إعادةُ المستنداتِ الى موكلِه في حالِ طلبَها، اذ أن حيازةَ المحامي للمستنداتْ حيازةٌ ناقصةْ أوجَبتْها مهمتُه التمثيلية لموكلِه تجاهَ الخصمِ أمام القضاء ، وحقُهُ عليها يقتصرُ على استعمالِها دون امتلاكِها.
والوكيل لا يعدو كونَه “وديعاً” Dépositaire وهذا واجبٌ سلوكي يُعرِّضُ المخالِف لعقوبةٍ تاديبية. علماً أن حقَ الموكلْ باسترجاعِ مستنداتِه يسقطُ بمرورِ خمسِ سنواتٍ على انتهاءِ القضية.
3- في دعاوى الاتعاب.
ان تحديدَ بدلِ الاتعاب للمحامي مسألةٌ يتقاسمُها الضميرُ أولاً، والقانونُ ثانياً، فبدلُ الأتعابِ حقٌ للمحامي (68)، ويُحَّدَدُ باتفاقٍ بين المحامي وموكلِه. وبغيابِ اتفاقيةِ الأتعاب، تخضعُ المعاييرُ القانونية للفصلِ في النزاعْ لقاعدةِ النسبية، استناداً الى أهميةِ القضية، والوقتِ الذي استغرقته، والجهودِ التي قام بها المحامي، وحالةِ الموكل المادية… مع حقِ القضاء في خفضِ البدلْ اذا تجاوزَ العشرين في المئة من قيمةِ المنازَع فيه في القضايا المدنية.(استئناف مدني-بيروت- الغرفة العاشرة- قرار رقم 1527 تاريخ 9 تشرين الثاني 2002).
ان تقديرَ الاتعابْ المتوجبة للمحامي تخضعُ حكماً لرقابةِ مجلسِ نقابةِ المحامين، صاحبِ الرأيِ الاستشاري في الموضوعْ، وأيضاً صاحبِ الاختصاص في شأنِ تقديرِ الأتعاب الناجمة عن أعمالِ المهنة، وان رأيَ مجلسِ النقابة يشكلُ سابقاً الزامياً Préalable obligatoire لفصلِ النزاع من قبل المرجع القضائي.
وفي ضوءِ الانهيارِ الكبيرْ وغيرِ المسبوقْ في سعرِ الصرفْ، لا شكَ في أنَّ أتعابَ المحامي تمرُّ بمنعطفٍ استثنائي، وقد تكونُ مهنتُنا آخِرَ من اعتمد الدولرة في تحديدِ الأتعاب، والتعاميمُ والقرارات التي تصدُرْ عن النقيب ومجلسِ النقابة بهذا الخصوص وحيث تدعو الحاجة، تشكلُ السندَ الصالحْ للاستئناسِ بهِ وتحديدِ الأتعابِ على أساسِه.
4- في المعونة القضائية.
لعلّ ما تقومُ به نقابةُ المحامين في بيروت من احتضانِ المعونةِ القضائية وتَحَمُّلِ أكلافِها، لدليلٌ ساطع على المحاماة – الرسالة. والقرار الذي يصدرُ بمنحِ المعونةِ القضائية وفقَ نص المادة 425 من قانون أصولِ المحاكماتِ المدنية يُبلَغّْ الى نقيبِ المحامين الذي يُعيِّنُ محامياً للدفاعِ عن مصالحِ من استحقَّ المعونة، وتتحملُ النقابة الأتعابَ كافة.
وقد ازدادت طلباتُ المعونةْ القضائية بسببِ الوضعِ الأمني والإقتصادي والنزوحِ الكثيف، وأذكُرْ ان عددَ طلباتِ المعونة ازداد خلال ولايتي النقابية نحو 1000 حالة أي ما كلفته 400 ألف دولار تحملتها راضيةً نقابةُ المحامين في حينه، فكم هي الحال أكثر صعوبة اليوم مقارنة مع الأمس البعيد والقريب !!!
أيها السادة،
ان أدبياتِ المهنة تشكلُ في مكانٍ ما نقيضَ الذكاءِ الاصطناعي، بل ان السلوكياتِ تَجْهَلُ حقيقةَ انَ الحقوق لا تُصانُ بمجردِ تطبيقِ القانون، بل بأنسنةِ تطبيقِه من خلال قراءتِه وفهمِه بالاستناد الى المصدر الذي هو الانسان، والى الهدف الذي هو الانسانُ أيضاً. نعم السلوكياتُ هي الألف والياء L’Éthique est l’alpha et l’oméga de notre Droit
وهنا لا بدّ من مقاربةٍ عاقلةْ لموضوعِ التعديلاتِ التي وضعها مجلس النقابة ولم يخلُ الأمرُ من مادة سجالية مستمرة. شخصياً، أطمحُ الى رقابةٍ ذاتيةْ يُمارسها المحامي على ذاته قولاً وكتابة، حضوراً وظهوراً. أَذْكرُ وأُذَكِرُّ بأن مجلسَ النِقابةِ الذي انعقدَ في خلوةٍ اداريةْ في مستهلِ ولايتي النقابية بتاريخ 29/3/2014، طرحَ موضوعَ حمايةِ الحريات الاعلاميةِ المسؤولةْ، وتوقفنا عندَ المسار الذي تسلكُهُ نقاباتْ المحامين في الديمقراطياتِ العريقةْ، حيث تتجهُ القـواعدْ من مستوى إملائي imperative الى بعدٍ تفاهمي وتواصلي dimension interrogative من منطلقْ ان الأدبياتْ تُعالجْ اكثرْ بالتفاهمْ والتواصلْ أكثر منها على الطريقة الآمرة، فالانسانْ الحرْ اي غير المقيّدْ هو الأكثرْ جاهزيةْ للفعلِ الجيد Le bien agir.
وقد أجرَت وسائل اعلامية عدة اتصالات بي لحملي على التعليق على قرار مجلس النقابة، فكان جوابي بعقدِ الحوارِ داخلياً ومباشراً مع النقيب ومع مجلس النقابة. وعليه أقترح اليوم تحديد يوم حوار داخلي مع النقيب ومجلس النقابة تُطرح فيه كل الهواجس والمخاوف المتعلقة بالظهور الاعلامي. ويبقى القضاء الملاذ الآخر والأخير وبعيداً عن الاعلام.
وفي نهايةِ المطافْ، لا ننسى ان نقابتَنا هي نقابة متحفظة قد تشكو من بطءٍ في التأقلم السريعْ مع تطور مفهوم العمل ودورِ الاعلام والاعلان في عملِ المنتمين الى نقاباتِ المهنِ الحرةْ. لكن بين إِدراجِ نقابةَ المحامين في بورصةِ التجارةْ، والتدليلْ على الملفاتِ وربحِ الأحكام وعرضِ العضلاتْ والمعلوماتْ أمام الشاشاتْ، وبين موجِبِ التحفظْ، أشهدُ أنني مع التحفظْ بما يحفظ وقار المهنة، مع التأكيدِ على أن الحرياتْ الشخصيةْ والعامةْ خطٌ أحمر.
الزميلات والزملاء،
ان مهنةَ المحاماةِ في لبنان لا تزالُ دونَ الاعتبارِ المطلوبْ لجهةِ دورِها وأهميتِها، بحيثُ يُستغنى عن استشارةِ المحامي في الوقتِ المناسب، ثم يُستدعى على عَجَلٍ بعدَ حصولِ الضرر: ان المحاماةَ رسالةٌ وقائية بقدْرِ ما هي علاجيةْ، تماماً كالطبِ الوقائي.
نحن المحامين نعيش في زمن صعب جداً الآن مثلماً نعيشُ في بيت واحد، ونقرأ في كتاب واحد، نتجاورُ ونتحاورُ كلَّ لحظة، وبالتالي وبالرغم من كل ظرف عصيب تحكُمنا آدابُ التواصلِ والتعاملِ والتفاعلْ.
أتقدّم منكم بتقديري واحترامي. وأشكركم.
“محكمة” – الثلاثاء في 2023/4/4