النظام القانوني اللبناني لشركات شحن الأوراق النقدية والمعادن الثمينة/سابين الكك
د.سابين الكك*:
تتصل عمليات شحن الأموال والذهب في لبنان تشيغليًا بالقطاع التجاري المصرفي والمالي، وتنتظم قانونًا تحت أحكام قانون النقد والتسليف، القانون رقم 2001/347 المتعلّق بتنظيم مهنة الصرافة، بالإضافة إلى القرار الأساسي رقم ٧٩٣٣ تاريخ 2001/9/27، والقرار الأساسي رقم ٨٠٢٤ تاريخ 2002/1/11 المعدّل بالقرار الوسيط رقم ١٠٧٢٦ الصادر بناء على قرار المجلس المركزي تاريخ 2011/5/18.
تشكّل عمليات شحن النقود والمعادن الثمينة حلقة واحدة من سلسلة حلقات مالية، متشابكة بطبيعتها، متصلة بإجراءاتها ومتداخلة بنتائجها، من هنا، تبدو إشكالية النظام القانوني لشركات شحن الأموال والمعادن ضرورية لتوضيح المعايير التي تضفي المشروعية على هذا النشاط التجاري ولتحديد القيود القانونية الواجبة التطبيق.
أوّلًا- شركات شحن الأوراق النقدية والمعادن الثمينة… مؤسّسات صيرفة من الفئة -أ-
لم يعرّف القانون اللبناني هذه العمليات تعريفًا محدّدًا، غير أنّه يستفاد من القانون 2001/347 التمييز الواضح بين ماهية عملية نقل وشحن الأوراق النقدية والمعادن الثمينة (من وإلى لبنان) وبين ماهية كلّ من: عمليات الصرافة، عمليات تحويل الأموال وعمليات حراسة الأموال المنقولة. مع العلم، أنّ هذا التمايز لا يطال بالمقابل الشركات المجاز لها ممارسة هذه العمليات، بحيث تنحصر مشروعية نقل النقود والذهب بمؤسّسات الصيرفة العاملة أصولًا.
تعتبر عملية نقل الأموال والسبائك، خدمة مكتملة وناجزة بحدّ ذاتها وقوامها، عملية شحن[i] ، داخل الأراضي اللبنانية أو خارج حدودها الإقليمية وبالإتجاهين، إذ يتمّ بموجبها، استلام وتحميل وتفريغ وتوضيب وتسليم بضائع تكون عبارة عن: أوراق نقدية، وهي من المنقولات الورقية التي تمثّل، بشكلها ونوعها وجنسها وكمّيتها وقيمتها، إحدى العملات القابلة للتداول في لبنان، و/أو، القطع والسبائك والمسكوكات من المعادن المصنّفة ثمينة.
تجاز، عمليات شحن النقود والمعادن بموجب المادة الأولى من القرار الأساسي ٨٠٢٤ المعدّلة بالمادة الثالثة من القرار الوسيط ١٠٧٢٦ إلى مؤسّسات الصرافة من الفئة “أ” التي لا يقلّ رأسمالها عن ٥ مليارات ل.ل.، دون سواها من شركات الصرافة أو المؤسّسات المالية الأخرى.
وتصنّف مؤسّسات الصرافة من الفئة -أ-، كلّ مؤسّسة صرافة واردة تحت رقم تسجيلها على اللائحة الصادرة عن مصرف لبنان، المستوفية لشروط التأسيس القانونية، والتي، بحسب المادة ٣ من القانون ٣٤٧، يكون “موضوعها شراء وبيع العملات الأجنبية مقابل أيّ عملة أجنبية أخرى أو مقابل العملة اللبنانية، أوراقًا نقدية كانت أم قطعًا معدنية، وشراء وبيع القطع والسبائك المعدنية والمسكوكات والتحاويل والشيكات والشيكات السياحية”. إلّا أنّه يشترط على شركات شحن الأموال، ولكونها مؤسّسات صرافة في أساسها، أن تقوم بفصل تام للقيود المحاسبية العائدة لكلّ نشاط على حدة.
تخضع شركات نقل الأموال إلى نظام رقابي خاص، أقرّه مصرف لبنان، وأناط بموجبه:
• الرقابة الخارجية مباشرة بلجنة الرقابة على المصارف.
• الرقابة المالية الداخلية بمفوّض مراقبة تعيّنه الشركة خصيصًا لهذه المهمّة.
• رقابة الإمتثال، أيّ انطباق ومواءمة العمليات المالية والمصرفية مع أحكام قوانين تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، بوحدة امتثال داخلية برئاسة “ضابط امتثال” حائز على شهادة مؤهّلة CMAS- Certified Anti-money Laundering Specialist
• التدقيق الداخلي على العمليات، بوحدة مكننة داخلية في الشركة، مهمّتها حفظ؛ كافة المعلومات الخاصة بعمليات الشحن وتحديثها بالأسماء، وإبلاغها دوريًا إلى لجنة الرقابة على المصارف وعند الحاجة إلى هيئة التحقيق الخاصة.
أمّا عن إثارة إشكالية خضوع شركات شحن الأوراق النقدية والمعادن الثمينة لموجب السرّية المصرفية، فهي تبقى غير مسندة إلى حجّة قانونية متينة لأنّ:
• السرّ المصرفي، سرّ مهني من نوع خاص، ذات طبيعة قانونية استثنائية ومحدودة في إطار العلاقة العقدية بين المصارف وعملائها[ii] .
• شركات شحن الأوراق النقدية والمعادن الثمينة هي مؤسّسات صرافة، غير خاضعة أصلًا لقانون سرّية المصارف الصادر بتاريخ 1956/9/3 والملزمة بالمقابل، بمسك سجّلات خاصة بعملياتها التي تفوق الحدّ المقرّر من قبل مصرف لبنان[iii] . الأمر المتوافق أيضًا مع نصّ المادة ٤ من القانون ٣٤٨ المتعلّق بمكافحة تبييض الأموال، ومع التعاميم الصادرة عن مصرف لبنان التي تؤكّد المؤكّد بفرضها على شركات شحن الأوراق النقدية والمعادن الثمينة الإجراءات الخاصة بالمؤسّسات التي لا تخضع للسرّية المصرفية لناحية مسك سجّلات لعملياتها والإحتفاظ بها لمدّة ٥ سنوات، بالإضافة إلى إلزامها بتعبئة نماذج مخصّصة، تتضمّن اسم العميل، وإبلاغها شهريًا إلى لجنة الرقابة على المصارف وهيئة الأسواق المالية[iv].
• شركات الصيرفة تعامل معاملة مصرفية متشدّدة، تخرجها إلى حدّ بعيد من إطار السرّية المصرفية الخاصة بها وبحساباتها وحسابات أصحابها والمساهمين فيها ومدرائها والمفوّضين بحساباتها وأفراد عائلاتهم، وهي ترضخ بذلك إلى رقابة استثنائية، مسبقة ودورية من قبل لجنة الرقابة على المصارف خلافًا لأحكام السرّية[v] .
ثانيًا- القيود القانونية على عمليات شحن النقود الورقية والمعادن الثمينة
تظهر جلية، الخلفية الإجرائية الإلزامية للشركات المجازة بشحن النقود والمعادن، بدءًا من انتظامها في هيكلية إدارية ورقابية خاصة وصولًا إلى تقييد سياقها القانوني بشكل مترابط ومتصل، حصرًا، مع واحدة من العمليات المنصوص عنها بالمادة ١٢ من تعميم مصرف لبنان الوسيط ذات الرقم 2016/411:
• إصدار شيك باسم العميل يدفع للمستفيد الأوّل.
• أمر تحويل إلى حساب العميل في مصرف لبناني أو خارجي، إلّا أنّ طلبات التحويل إلى أشخاص ثالثين تنحصر داخل لبنان فقط وضمن شروط التحوّط من عمليات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
• تسليم مبالغ نقدية و/أو معادن ثمينة، وفقًا للحالة.
ممّا يعني عمليًا، أنّ عمليات الشحن الخارجي تتصل لزامًا بعملية مصرفية تسبقها، على أن تنحصر هذه العملية إمّا بحوالة مصرفية من حساب عميل إلى حساب خارجي يعود له دون أيّ شخص آخر، أو بأمر دفع صادر بموجب شيك مصرفي لا يدفع إلّا للمستفيد الأوّل. وبالتالي، تكون مخالفة للقانون، كلّ عملية شحن ونقل أموال خارج لبنان غير موثّقة تشغيليًا، بحوالة مصرفية من حساب العميل وإلى حسابه أو بشيك مصرفي غير قابل للدفع إلّا للمستفيد الأوّل.
في هذا الإطار، تبدو جلّية محاولات الأجهزة المصرفية والمالية في لبنان ضبط عمليات شحن العملات النقدية العابرة للحدود، بالأموال الداخلة في الحسابات المصرفية لما تخضع له بطبيعة الحال من إجراءات امتثال وتحقّق، منعًا من تحويل شركات الصيرفة التي تقوم بشحن النقود ملاذًا آمنًا لأموال غير مشروعة أو غير معروفة المصدر[vi] .
أمّا، عن تسليم المبالغ النقدية أو المعادن الثمينة مباشرة إلى العميل فهي بحسب النصّ تقديرية “وفق الحالة”، دون أيّ تحديد أو توضيح إضافيين. على أنّه، يحظّر[vii] على مؤسّسات الصرافة من الفئة “أ” القيام بأيّ عملية شحن تفوق مبلغ/١٥٠٠/دولار أمريكي عن طريق استلام مبالغ نقدية من عملائها وتحويـلها عبر حساباتها لدى المصارف إلى أشخاص ثالثين سواء في لبنان أو في الخارج.
إذًا، يحتفظ مصرف لبنان لنفسه، كهيئة ناظمة، بسلطة تقديرية، استنسابية، ممّا يفترض خضوع هذه الحالة لإجازة خاصة مسبقة، ومثبتة، بالمستندات والوثائق التي تنفي عنها نفيًا قاطعًا كلّ ريبة أو شكّ على خلفية عمليات تبييض أموال أو تمويل إرهاب أو أيّ جريمة أخرى معاقب عليها في القانون اللبناني، سيّما وأنّ تحريك دعوى الحقّ العام في جرم تبييض الأموال يبقى قائمًا وخاضعًا للقواعد الإجرائية المطبّقة على سائر الجرائم، دون حاجة للتحقيق الذي تجريه هيئة التحقيق الخاصة في إطار صلاحياتها في مكافحة تبييض الأموال[viii] .
يقع عبء إثبات خلو العملية من المخالفات واقعًا بالدرجة الأولى على عاتق شركة الشحن وثمّ على كلّ من يظهره التحقيق، شريكًا، متدخّلًا أو محرّضًا، كالأشخاص أصحاب الأموال والمعادن المنقولة عبرها. ذلك أنّ، القيود القانونية الخاصة بعمليات شحن الأموال والذهب مفروضة على الشركة المجازة وهي المولجة بإثبات التزامها الكامل بالقانون وهي أيضًا صاحبة المصلحة المباشرة بدحض أيّ شكّ أو ريبة لناحية قواعد الإمتثال كما، كافة القواعد المرعية الإجراء، ويبقى من البديهي مثلًا، استحصال الشركة على تبرير من الهيئة الناظمة صادر حسب الأصول، مطابق لقيود الشركة والبيانات الموجودة بحوزة لجنة الرقابة على المصارف، كما حِرفية ودِقّة البرامج المعتمدة لقاعدة المعلومات الممكننة لديها.
في هذا السياق، يمكن الجزم بأنّ مسألة مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب هي في طليعة سلّم الأولويات عند بحث قانونية أيّة عملية شحن لأموال نقدية أو لمعادن ثمينة من وإلى لبنان، لما لهذه الجرائم من تأثير عام وانعكاس مباشر على امتثال القطاع المالي والمصرفي للضغوطات الدولية.
هوامش ومصادر:
[i]على أن تواكب بحراسة خاصة تؤمّن عبر شركات مرخّص لها بموجب القرار رقم ١٣٨ الصادر عن وزير الداخلية بتاريخ 2001/3/9 إستنادًا للمرسوم الاشتراعي رقم 83/92.وتعتبر مؤسّسة حراسة وحماية كلّ مؤسّسة تقدّم خدمات غايتها تأمين وحماية أموال منقولة أو غير منقولة.
[ii]ناصيف إ.، الحساب الجاري في القانون المقارن، ص.١٦١:”تشمل السرّية زبائن المصرف في علاقتهم معه، ولا تتعدّى إلى أكثر من ذلك.”
[iii]جرمانوس ب.، حالات عدم التقيّد بالسرّ المصرفي، المنشورات الحقوقية صادر، ٢٠٠٦، ص.٦٤
[iv]المادة الرابعة من القرار الوسيط 2011/10726:”على مؤسّسات الصرافة التي تقوم بـشحن الأوراق النقدية و/أو “المعادن الثمينة” من وإلى لبنان أن تقوم بتزويد لجنة الرقابة على المصارف ومديرية الأسواق المالية”.
[v]المادة العاشرة من القرار الأساسي ٧٩٣٣: “يحظّر على أيّ مؤسّسة صرافة فتح حسابات مصرفية لدى أيّ مصرف يكون لأحد أصحابها أو شركائها أو مساهميها أو مدرائها أو مفوّضي التوقيع عنها حساب مصرفي فيه ويعتبر بحكم الشخص الواحد زوجة وأصول وفروع هؤلاء الأشخاص إذا كانوا على عاتقهم. تستعمل حسابات مؤسّسة الصرافة لدى المصارف للقيام حصريًا بعمليات الصرافة”.
[vi]المادة السادسة عشرة من القرار الأساسي ٧٩٣٣: “على مؤسّسات الصرافة التقيّد بالقوانين النافذة وبالأنظمة الصادرة عــن مصــرف لبنان وبصورة خاصة تلك المتعلّقة بمكافحة تبيــيض الأمــوال وتمويل الإرهاب بما فيه تعريف وتحديد هويّة صاحب الحقّ الإقتصادي”.
[vii]المادة الثالثة عسرة من القرار الأساسي رقم ٧٩٣٣ المتعلّق بالنظام التطبيقي لقانون مهنة الصرافة في لبنان.
[viii]الهيئة الاتهامية في بيروت، قرار صادر بتاريخ 2008/11/13، العدل 2009،عدد 2، ص 883: “قد يكون التحقيق الذي تجريه هيئة التحقيق شرطًا لازمًا لإثبات عمليات تبييض الأموال ولكنّه ليس شرطًا لتحريك دعوى الحقّ العام”.
*دكتوراه دولة في القانون المصرفي، أستاذة محاضرة في كلّية الحقوق – الجامعة اللبنانية.
“محكمة” – الأحد في 2021/4/25
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً على أيّ شخص، طبيعيًا كان أم معنويًا وخصوصًا الإعلامية منها، نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، كما يمنع نشر وتبادل أيّ خبر بطريقة الـ”screenshot” ما لم يرفق باسم “محكمة” والإشارة إليها كمصدر، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.