النيابات العامة ترتكب أيضاً جرم حجز الحرّية!
كتب علي الموسوي:
كثيراً ما تتشدّد النيابات العامة التمييزية والاستئنافية والعسكرية والمالية عند إعطائها إشارة ما إلى الضابطة العدلية طالبة توقيف الشخص الخاضع للتحقيق الأوّلي، إذا كان الجرم المنسوب إليه يتطلّب مثل هذا التوقيف الضروري في حالات جرمية معيّنة، وهذا مكوّن أساسي في عمل هذه النيابات العامة التي يفترض بها أن تكون قاسية بحكم عملها كحامية للمجتمع، وهذا لا يعني أنّها فاقدة للإنسانية كما يسعى بعضهم إلى تصويرها.
ولا شكّ أنّه يتوجّب الإلتفات إلى حالة الشخص المعرّض للتوقيف من ناحية سنّه وصحّته وما إذا كان مسؤولاً بالذات عن الجرم المحكى عنه، وما إذا كان هذا الجرم يستوجب التوقيف والملاحقة، ففي نهاية الأمر لا بدّ من التعاطي بحكمة وروية مع المعلومات المعطاة من الضابطة العدلية حول وضع هذا الشخص، وليس الإكتفاء بتوقيفه فقط لمجرّد أنّه يواظب على التنفّس!.
أو لأنّه صودف وجود هذا الشخص في مسرح الجريمة من دون أيّة علاقة له بها، أو تحدّثه أو مصافحته للمرتكب الحقيقي قبل لحظات قليلة من قيامه بعملية السرقة داخل متجر ما كما حصل ذات مرّة مع إمرأة صبية وأصرّ المحامي العام الاستئنافي(…) على توقيفها ثلاثة أيّام على الرغم من أنّ الشرطة القضائية أبلغته مراراً أنّه لا صلة لها بعملية السرقة كما اتضح من التحقيقات القاسية معها، ولو لم يقم كاتب هذه السطور بالإتصال بالنائب العام التمييزي آنذاك القاضي حاتم ماضي وإخباره بتصرّف المحامي العام غير القانوني لما خرجت هذه المرأة من خلف قضبان التوقيف. لم أكن أعرفها على الإطلاق، ولكنْ استفزّني سلوك هذا القاضي المريب والذي تعاطى مع حالتها إنطلاقاً من كونها من طائفة أخرى بعدما استنجدت بي محاميتها!.
وهنالك حالات كثيرة لا يتسع المجال لتعدادها عن استعمال النيابات العامة حقّها بالتوقيف بطريقة تعسفية حتّى تصل إلى حجز الحرّيّة، وهو ما يتعارض والقانون ويجب الإنتباه إلى خطورته والتخفيف منه قدر المستطاع إنْ لم نقل إلغاءه نهائياً.
ويقتضي التأكيد على ضرورة النظر بعين الرحمة إلى الحالة الإنسانية عند وجودها لدى من يخالف القانون بالذات، وأخذها بعين الإعتبار بحسب المقتضيات، حتّى ولو كان المقرّبون من الشخص المتقدّم في العمر ومن صلة رحمه، أمعنوا في مخالفة القانون، وقد احتموا خلفه لاعتقادهم بأنّ كبر سنّه قد يحول دون إهانته والتطاول عليه أو توقيفه.
ولذلك يجب أن يكفّ بعض قضاة النيابات العامة عن اتباع أسلوب غير قانوني في التوقيفات، إذ يحوّلون التوقيف إلى حجز حرّيّة وهو جرم جنائي، وذلك بتوقيف إبن، أو إبنة، أو أخ، أو أخت، أو والد، أو والدة الشخص المفترض توقيفه لجرم ما يشتبه بحدوثه أو أنّه قام به بالفعل، وذلك بهدف الضغط عليه لتسليم نفسه، كمن يضع الآخر تحت أمر واقع، أو كما تفعل “المافيات” وقطّاع الطرق في الأفلام البوليسية، وليس في القانون نصّ يجيز هذا التصرّف غير الإنساني وغير القانوني على الإطلاق، لا بل هو جرم يجب محاسبة كلّ قاض يرتكبه، لكي يبقى القضاء منزّهاً عن كلّ تصرّف مريب أو مسيء إلى العدالة الحقّة.
ومن يمعن من قضاة النيابات العامة في ممارسة سلوك توقيف الشخص غير المعني بالمخالفة أو الجرم، لإجبار الفاعل الرئيسي على تسليم نفسه، ليس مكانه في القضاء.
وثمّة نصّ قرآني واضح وصريح يقول:”وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ”، أيّ أنّه لا يمكن تحميل شخص ما، نتائج فعل إرتكبه نسيبه حتّى ولو كان من أصوله المشتركة ومن الدرجة الأولى، فكلّ إنسان هو مسؤول، بالذات، عن أعماله، ولا يؤاخذ إلاّ هو نفسه بالتحديد، على عمله، ولا يمكن سلوك طرق غير سوية للوصول إليه خلال ملاحقته لتوقيفه باقتياد أقرب الناس إليه وحجز حرّيتهم لإجباره على الإستسلام. وقد تكرّرت هذه الحالات المشوّهة لروحية العدالة في غير مكان من لبنان، فمتى يجري التوقّف عن الجريان وراء ما يؤذي سمعة القانون والعدالة؟.
فأيّ نصّ قانوني يقول بهذا الفعل الجرمي؟ ومن قال إنّه يحقّ للنيابات العامة أن تلتفّ على القانون باسم الحقّ العام وبذريعة “السهر على راحة المجتمعات”، مع العلم أنّ معظم النيابات العامة تتغاضى عن جرائم ترتكب ضدّ المجتمع والوطن والإنسان من مسؤولين في الدولة، ولا تحرّك ساكناً لتوقيف أحد منهم أو من حاشيتهم والمتلطّين بهم، إلاّ إذا رُفع الغطاء السياسي عنهم، وقرّر الزعيم المُرتكب في وضح نهار مشمس، التضحيةَ بهم، وثمّة شواهد كثيرة في هذا المضمار وهي محفوظة عن ظهر القلب، وليس فقط في ملفّات تآكلها العفن والغبار في المحاكم ودوائر التحقيق و”نيابات حفظ الملفّ”.
إنّ محاولة تشريع هذا التصرّف الغريب للنيابات العامة، بالممارسة الفعلية، في غير مناسبة وفي غير ملفّ، وتكريسه عرفاً أو قاعدة، مرفوض بالمطلق، ولن نرضى بالإلتفاف على القانون بحجّة حماية القانون، لأنّ هذه الحماية لا تكون بالتعدّي على الإنسان، فالقانون في الأساس وضع لصون الإنسان، ومن أجله، وليس لضرب سلامته الروحية والجسدية.
وإذا كانت النيابات العامة تمثّل الحقّ العام، إلاّ أنّه عليها في المقابل، أن تحترم الرأي العام، ولا تقترف ما يوحي باعتداء على الإنسانية والحرّيّات الملتزمة كلّ الأطر والقرارات والأنظمة القانونية المعمول بها.
ويبقى الأمل في تصحيح هذه الصورة على بعض “القضاء الجالس”، لكنّه في أحيان كثيرة، يتجاهل ويتبرأ “بالنسيان”، لئلاّ يثير”القضاء الواقف”، وهذا أضعف الإيمان، ولا يمتّ إلى العدالة بشيء.
(نشرت في “محكمة” – العدد 21 – أيلول 2017)