“الهيركات” ممنوع لأنّ الملكية الفردية بحمى الدستور/نقولا فتوش
المحامي الدكتور نقولا فتوش*:
الملكية الفردية التي قصدها الدستور هي الملكية لكافة الحقوق العينية والمالية وكافة الأموال المنقولة وغير المنقولة التي تعود للإنسان.
ومنها الودائع المصرفية التي تعتبر حقوقاً مقدّسة ممنوع تأميمها أو حجزها غصباً وانتهاكاً أو املأ كيفية التصرّف بها.
هل يمكن عن طريق التشريع فرض “الهيركات” و”الكابتل كونترول” على أصحاب الودائع لدى المصارف وفي حال حدث ذلك على سبيل الإفتراض المستحيل، ما هو مصير القانون الذي يتعرّض للملكية الفردية بأيّ عنصر من عناصرها ولا سيّما الودائع المصرفية.
نصّت الفقرة ومن مقدّمة الدستور اللبناني على ما حرفيته:”النظام الإقتصادي حرٌّ يكفل المبادرة الفردية والملكية الفردية وقضى المجلس الدستوري في قراره رقم 97/2 تاريخ 1997/9/12.
“المبادئ الواردة في مقدّمة الدستور جزءاً لا يتجزأ منه وتتمتّع بقيمة دستورية وجاءت المادة 15 من الدستور تنصّ على ما حرفيته:”الملكية في حمى القانون، فلا يجوز أن يُنزع عن أحد ملكه إلاّ لأسباب المنفعة العامة “في الأحوال المنصوص عنها في القانون، وبعد تعويضه منه تعويضاً كاملاً.
وقد قضى المجلس الدستوري في قراره رقم 1997/2 تاريخ 1997/9/12 ما حرفيته:
“وبما أنّه إذا كان مجلس النوّاب يتمتّع بصلاحيات شاملة على صعيد التشريع “باعتبار أنّ الدستور قد حصر به وحده سلطة الإشتراع، فإنّ المجلس في ممارسته “لهذه السلطة يبقى مقيّداً باحترام الدستور والمبادئ والقواعد ذات القيمة “الدستورية.
وقد قضى المجلس الدستوري في قراره رقم 2000/4 تاريخ 2000/6/22: “وبما أنّ حقّ الملكية هو من الحقوق الأساسية التي يحميها الدستور، في الحدود “التي لا تتعارض مع المصلحة العامة والتي وحدها تبرّر انتزاع الملكية الفردية في “إطار القانون مقابل تعويض عادل.
وحول المواثيق الدولية، فقد قضى المجلس الدستوري في قراره رقم 2001/5 تاريخ 2001/5/10 “المواثيق الدولية المعطوف عليها صراحة في مقدمة الدستور تؤلف مع هذه “المقدمة والدستور جزءاً لا يتجزأ.
وعليه فقد نصّ الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان تاريخ 1948/12/10 في المادتين 17 و30 على ما حرفيته: نصّت المادة 17 من شرعة حقوق الإنسان على ما حرفيته:
1- لكلّ شخص حقّ التملّك بمفرده أو بالإشتراك مع غيره.
2- لا يجوز تجريد أحد من ملكه تعسفاً.
كما نصّت المادة 30 من شرعة حقوق الإنسان على ما حرفيته:”ليس في هذا الإعلان نصّ يجوز تأويله على أنّه يجوز لدولة أو جماعة أو فرد أيّ “حقّ في القيام بنشاط أو تأدية عمل يهدف إلى هدم الحقوق والحرّيات الواردة فيه.
والأمر الثاني هو أنّ الفقرة (ج) من المقدّمة ذاتها ذكرت أنّ الجمهورية اللبنانية تقوم على مجموعة من المبادئ الديمقراطية الأساسية، ومن بينها العدالة الإجتماعية.
كما نكتفي إلى ما ورد في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية(1966/12/16) بشأن تمتّع الشخص الإنساني بحقّ الملكية وبحقوقه المدنية والسياسية والإجتماعية والإقتصادية، حيث جاء في ديباجة هذا العهد: “وإذ تدرك (الدول الأطراف) أنّ تهيئة الظروف المناسبة لإتاحة تمتّع كلّ إنسان بحقوقه المدنية والسياسية مثل تمتّعه بحقوقه الإقتصادية والإجتماعية والثقافية هي السبيل الوحيد، وفق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لتحقيق المثل الأعلى المتمثّل في الشخص الإنساني الحرّ المتمتّع بالحرّية المدنية والسياسية والمتحرّر من الخوف والعوز.”
وحول مفهوم العدالة الإجتماعية، يرى بعض الفقه الدستوري في لبنان أنّه، نظراً لاتساع مدلوله، فهو، على الأقلّ، يستوعب ضمن دائرته بعض الحقوق ذات القيمة الدستورية لأنّها لصيقة بالحماية الإجتماعية التي على الدولة الديمقراطية أن تقوم بتأمينها.
نقرأ حول هذا الموضوع:”هذا التحول بدّل مفهوم الدولة في الأنظمة الليبرالية ووسّع دائرة وظائفها فتحوّلت إلى دولة رعاية، وعمّق مفهوم الديمقراطية فلم تعد تقتصر على المضمون “السياسي… إنّما تجاوزت المضمون السياسي إلى المضمون الإقتصادي والإجتماعي، المتمثّل بالحقّ بالعمل ضمن شروط ملائمة، والحقّ بالسكن، والحقّ بالطبابة “والإستشفاء، والتعلّم والرعاية الإجتماعية وغير ذلك من حقوق. وأصبح على الدولة أن تضمن هذه الحقوق، وتعتمد السياسات التي يمكن المواطن من التمتع بها. وبدا “من التجربة أنّ حقوق الإنسان في بعدها السياسي والإقتصادي والإجتماعي وحدة لا تتجزأ.(عصام سليمان – رئيس المجلس الدستوري، الحقوق السياسية والإقتصادية والإجتماعية من منظور دستوري، منشور في المجلس الدستوري، الكتاب السنوي 2009، ص 407-408.(
من المتفق عليه أيضاً، أنّه في صدارة واجبات الدولة الديمقراطية احترام حقوق الإنسان، وصونها، والحثّ على احترامها كلّها، من دون أيّ استثناء.
حول ذلك نقرأ:
“L’état n’a pas seulement des obligations négatives – des obligations d’abstention- il a des obligations positives – des obligations de faire. Il doit respecter, protéger et faire respecter les droits de l’homme, tous les droits de l’homme.
– Emmanuel Decaux, ustice et droits de l’homme, 28 congrès de l’institut international de droit d’expression et d’inspirations françaises p.37.
على الدولة كذلك، بمؤسّساتها كافة، وفي طليعتها المؤسّسة التشريعية، أن تكون حريصة على الأمان التشريعي الذي يحول، في وجه من وجوهه، دون زعزعة الأوضاع القانونية المستقرّة.بهذا المعنى:
“Pour assurer la sécurité uridique, il faut que l’ordre établi ne puisse pas être sans cesse remis en cause et que les situations uridiques ou de fait acquièrement au bout d’un certain temps une stabilité suffisante…
– ean Lois Bergel, Le droit et le temps, ap. ean-Louis Bergel -, théorie générale du droit, Paris, Dalloz, 4è édition 2003, 374 p., pp. 119-142.
منذ أوائل الثمانينات وصاعداً، راح المجلس الدستوري الفرنسي يصدر سلسلة من القرارات بلور من خلالها الحدّ الفاصل ما بين سلطة البرلمان السيادية في إقرار التشريعات وبين الحقوق الأساسية الممنوحة لبعض فئات المجتمع معتبراً أنّه ليس بمستطاع أي تشريع جديد أن ينال من تلك الحقوق أيّ أن يعدّل القوانين المتعلّقة وأن يخفض الضمانات المعطاة في تشريعات سابقة أو يعمد إلى إلغائها، كلّ ذلك لأنّها تتمتّع بالحماية الدستورية التي تلجم سلطة البرلمان السيادية في هذا المضمار.
كما أنّه لم يميّز المجلس الدستوري الفرنسي بين وجوب حماية الحقوق والحريات الأساسية (Fondamentales) وحماية الحقوق والحريّات ذات القيمة الدستورية أو ذات الطابع الدستوري.
جاء في أحد قراراته:
” “Que le parlement” ne peut abroger les dispositions législatives (garantissant les libertés fondamentales) sans remplacer par d’autres, efficacité équivalente “.
-L. Favareu, L. Philip, les grandes décisions du conseil constitutionnel, Paris Dalloz, 12? édition 2003, n.35, P. 579.
وفي قرار آخر:
” Qu’il n’en serait autrement que si cette abrogation avait pour effet de porter atteinte à l’exercice d’un droit ou d’une liberté ayant valeur constitutionnelle ”
-Décision n 84 – DC, 18 anvier 1985, Rec. 36.
على غرار نظيره الفرنسي، وازن المجلس الدستوري اللبناني بين صلاحية السلطة التشريعية التي يعود لها حقّ التقدير والملاءمة لدى إقرار القوانين في الوقت التي تراه مناسباً، وبين الضمانات الدستورية المكرّسة في قوانين نافذة، ورأى أنّ رقابته تتناول التشريع الجديد من منظور الحفاظ على تلك الضمانات.
بهذا المعنى نقرأ في قرار المجلس الدستوري الصادر بتاريخ 2014/8/6:
“وبما أنّ تنظيم هذه العلاقة هو من صلاحيات السلطة الإشتراعية ويعود لها حقّ التقدير، وليس من صلاحيات القضاء الدستوري النظر في الملاءمة، غير أنّه من غير الجائز للمشترع أن يتجاوز الضمانات التي نصّ عليها الدستور، وتبقى “القوانين خاضعة لرقابة القضاء الدستوري من أجل الحفاظ على هذه الضمانات.
إنّ المجلس الدستوري الفرنسي بَلورَ الحدّ الفاصل ما بين سلطة البرلمان السياسية في التشريع وبين الحقوق والحريّات الأساسية، ورفض تقليص الضمانات المعطاة في قوانين سابقة أو إلغاءها لتمتّعها بالحماية الدستورية التي تلجم سلطة البرلمان في هذا المضمار.
وعليه فما هو مصير القانون الذي ينتهك حقّ الملكية المكرس بالدستور؟
إنّ رقابة المجلس الدستوري على دستورية القوانين (المادة 18 / من قانون إنشاء المجلس الدستوري رقم 93/250) تُنتج إبطال القانون المطعون فيه كليّاً أو جزئياً إذا كان مخالفاً للدستور (المادة 22 من القانون ذاته). وإنّ قرار الإبطال يكون مبرماً ومتمتّعاً بقوّة القضيّة المحكمة وغير قابل لأيّ طريق من طرق المراجعة وملزماً لجميع السلطات العامة وللمراجع القضائية والإداريّة (المادة 13 من القانون ذاته).
وقرّر المجلس الدستوري هذا الأمر “وأناطت سلطة التشريع بمجلس النوّاب وجعلت منها سلطة سيادية (Souveraine) “وأصلية ومطلقة لا تحدّها سوى الحدود المنصوص عنها في الدستور بمقدّمته ومتنه والمواثيق والحقوق والمبادئ التي يشير إليها ويضفي عليها القيمة الدستورية، حتّى إذا تجاوز التشريع هذه الحدود ووقع تحت رقابة المجلس “الدستوري أصبح عرضة للإبطال:
” Le législateur est libre de modifier des dispositions législatives même récemment adoptées dès qu’elles ne privent pas, comme en l’espèce, de garanties légales, des principes constitutionnels. ”
-C.C 92-317, D.C, 21 anv, 1993, R.p. 27, cit. dans droit du contentieux constitutionnel, Dominique Rousseau, Montchrestien, 4? ed. P.127.
)المجلس الدستوري، القرار رقم 2001/4، تاريخ 2001/9/29، مجموعة قرارات المجلس الدستوري، 1994-2014، ص 178).
فالملكية الفردية مكرسة بالدستور وحمايته، وكلّ مسّ بها إقتطاعاً أو تأجيلاً هو مسّ بحقّ دستوري يسمو على كل القوانين وكلّ قانون يخالف الدستور يكون منعدم الوجود Inexistant.
وعليه لا يحقّ للمشترع ولا للسلطة التنفيذية أن تضعف أو تراقب كيفية التصرّف بالوديعة أو أن تقتطع من الودائع كبيرة كانت أم صغيرة لأنّ الوديعة تشكّل حقّاً دستورياً.
وعليه وعلى ضوء أحكام الدستور كلّ تفكير بالإقتطاع أو وضع ضوابط للمودع حول استعادة وديعته وحجزها وفرض كيفية التصرف بها هو مخالف للدستور ومنتهك لحقوق الإنسان ممنوع الحديث عن “الهيركات” وعن كيفية تصرّف المودع بوديعته كما أنّ الحديث والتفرقة بين الودائع صغيرة أم كبيرة قول مخالف للدستور وتخرق مبدأ المساواة أمام الدستور القانون.
وعلى هذا استقرّ اجتهاد المجلس الدستوري في لبنان. “وبما أنّه إذا كان يعود للمشرع أن يُلغي قانوناً نافذاً أو أن يُعدل في أحكام هذا القانون، دون أن يشكل ذلك مخالفة للدستور أو أن يقع هذا العمل تحت رقابة المجلس الدستوري، إلاّ أنّ الأمر يختلف عندما يمسّ ذلك، حرّية أو حقّاً من الحقوق ذات القيمة الدستورية.
)قرار المجلس الدستوري رقم 2000/1 تاريخ 2000/2/1).
“وبما أنّه عندما يَسنّ المشترع قانوناً يتناول الحقوق والحرّيات الأساسية، فلا “يسعه أن يُعدّل أو يُلغي النصوص النافذة الضامنة لهذه الحرّيات والحقوق دون أن يحلّ محلّها نصوصاً أكثر ضمانة أو تعادلها على الأقّل فاعلية وضمانة، وبالتالي “فإنّه لا يجوز للمشترع أن يضعف من الضمانات التي أقرّها بموجب قوانين سابقة لجهة حقّ أو حرّية أساسية سواء عن طريق إلغاء هذه الضمانات دون التعويض عنها أو بإحلال ضمانات محلّها أقلّ قوّة وفاعلية.(قرار المجلس الدستوري رقم 1999/1 تاريخ 1999/11/23).
وعليه ممنوع الكلام عن اقتطاع نسبة من الودائع فالوديعة لا تمسّ يجب أن تعاد لصاحبها عيناً بكاملها ممنوع تسييلها أو صرفها دون موافقة المودع وغير منقوصة، وكلّ عمل مخالف لهذه المبادىء باطل لمخالفته الدستور ويوقع الوديع تحت جرم إساءة الأمانة، فالمودع غير مسؤول ومن أخطأ عليه أن يتحمل المسؤولية وممنوع عليه الإستفادة من حيلته.
عملاً بالمبدأ القائل Nul ne peut se prevaloir de sa propre turpitude
وعليه يقول كلّ مودع صغيراً أو كبيراً لا تفرقوا بيننا، ولا تخرقوا مبدأ المساواة لأنّه لا وجود للكبار أو صغار المودعين، بل هناك وديعة ونعلم أنّه بقولكم تمهّدون للإنقضاض على كبار المودعين وتثبتون أنّكم أصحاب نظرية فرق تسد وتخالفون مبدأ المساواة أمام القانون مبدأ ذو قيمة دستورية.
مبدأ المساواة أمام القانون مبدأ ذو قيمة دستورية.(قرار المجلس الدستوري رقم 2000/1 تاريخ 2000/2/1).
بذات المعنى(قرار المجلس الدستوري رقم 2000/3 تاريخ 2000/2/15)
ونذكّركم بقول المتنبي:
“جوعان يأكل من زادي ويمسكني
حتّى يقال عظيم الشأن مقصود”
المطلوب وقف السياسات التبريرية المفخّخة، والإعتداء المقنّع على الملكية الفردية لدى المصارف والتقيّد بأحكام الدستور والقانون.
فالقانون هو السيّد، السيّد الذي لا عبيد له.
يقتضي وقف عملية التأميم الظالم والمضرّ بالعباد وبحقوقهم التجارية والصناعية التي تعتبر أيضاً حقوقاً دستورية.
قضى المجلس الدستوري في قراره رقم 2002/1 تاريخ 2002/1/31 “على القانون أن يكون عادلاً وشاملاً لضمان غايات العدالة الإجتماعية.
كما قضى المجلس الدستوري في قراره رقم 2005/1 تاريخ 2005/8/6
“أنّ القانون لا يمثّل الإرادة العامة إلاّ بقدر توافقه مع الدستور.
وصدق “ستيوارت ميل” حين قال: “ما يخيف هو الهمس قبل الصراخ”.
*نائب ووزير سابق.
“محكمة” – الجمعة في 2020/4/17