بدعة مرسوم التشكيلات القضائية.. رأسان لمركز واحد!/علي الموسوي
علي الموسوي:
لم يشهد القضاء اللبناني في تاريخه المجيد على مدى قرن كامل، تشكيلات مجتزأة ومقتطعة، وهي مغايرة لتلك المناقلات التي كانت تجري بصيغة جزئية أو مصغّرة، وليست شاملة لتعلّقها بمواقع معيّنة وتفرضها ضرورات محدّدة قد تتساوى مع تلك الواجبة في التشكيلات الواسعة.
ولا يمكن لأيّ مرسوم تشكيلات قضائية أن يصدر بصورة مبتورة متضمّناً أسماء قضاة، وغافلاً عن أسماء آخرين لا يزالون عاملين ولديهم مواقعهم في القضاء الجزائي والقضاء المدني، أو مختارين لشغل مراكز محدّدة في القضاء العسكري الاستثنائي من مفوّض للحكومة ومعاونيه، وقضاة تحقيق، ومستشارين مدنيين في هيئة المحكمة العسكرية الدائمة.
وأيّ مرسوم يصدر عن السلطة السياسية بهذا المعنى يكون باطلاً، لا بل يكون فارغاً من معناه ولا أساس له من الوجود حتّى ولو حمل توقيع وزير العدل ورئيس مجلس الوزراء كما حصل في المرسوم المحال موقّعاً من الوزيرة ماري كلود نجم على وزيرة الدفاع الوطني زينة عكر التي وضعته جانباً اعتراضاً على عدم الوقوف على رأي وزارتها في ما يتعلّق بالقضاة المدنيين في القضاء العسكري، وتلقّفه رئيس الحكومة حسّان دياب فوقّعه دون أن ينبّهه أحد من مستشاريه الكثر إلى اقترافه خطأ جسيماً يعرقل المرسوم ولا يضعه على سكّة التنفيذ، وبالتالي ما فعله بهذا الخصوص ليس دفعاً لهذا المرسوم لكي يبصر النور بالشكل المطلوب، وإنّما يودي به إلى الهلاك، وبالتالي يقضي عليه وكأنّه لم يكن إلاّ صورياً واسمياً.
“قضاة.. عون!”
وقد أعطى توقيع نجم ودياب رئيس الجمهورية العماد ميشال عون فرصة إضافية لردّ هذا المرسوم أو إهماله ووضعه جانباً، وبالتالي عدم توقيعه بداعي عدم جواز التجزئة، وعدم إمكانية السير بهذه الهرطقة والبدعة غير المألوفة في تاريخ القضاء، وهذا يعني زيادة منسوب الرفض لدى عون وهو المعترض أصلاً على استبعاد قضاة اختارهم فريقُه الحزبي أو فريق عمله السياسي ممثّلاً بوزير العدل الأسبق سليم جريصاتي في مراكز هامة ومتقدّمة في مرسوم تشكيلات العام 2017 لم يكن بعضهم يحلم بها، وسرعان ما دغدغ الفرحُ رؤوس هؤلاء القضاة فصنّفوا أنفسهم محسوبين على “عهد عون القوي” في خطوة غير مسبوقة في كلّ العهود السياسية السابقة، دون أن يعني ذلك أنّه لم يكن هنالك قضاة مقرّبون من فريق أيّ رئيس جمهورية سابق، ولكن لم يصل الأمر بهم إلى التصريح عنه علناً في وسائل الإعلام وإيداع استقالاتهم لديه وليس لدى مجلس القضاء الأعلى المعني بها كما فعلت القاضي غادة عون، على سبيل المثال، وهي صاحبة الاسم الأكثر عرقلة للتشكيلات مع أنّ موقعها الجديد كمستشارة في التمييز يخوّلها أن تصبح رئيسة للغرفة الأولى لمحكمة التمييز بدءاً من 31 أيّار 2020 وإمكانية أن تصبح عضواً في مجلس القضاء الأعلى في ما لو سار المرسوم بالطريقة القانونية المعتادة.
تساؤلات
وتثير طريقة توقيع المرسوم أو إلقائه في مهبّ الإلغاء والعدم، سلسلة استفسارات وتساؤلات، إذ كيف تفتّقت عبقرية تجزئة مرسوم التشكيلات القضائية؟ ومن هو صاحب هذه النظرية المعجزة؟ وكيف يمكن امتهان مخالفة القانون بهذه الخفّة؟ وكيف أمكنه التوصّل إلى هذه الطريقة القاتلة للمرسوم قبل ولادته؟ وهل هي سياسة جديدة في وأد مراسيم التشكيلات القضائية بعدما كان وزير العدل في السابق يتعمّد نشرها في وسائل الإعلام أو توزيعها عبر تطبيق”واتساب” قبل توقيعها من وزيري الدفاع والمالية ورئيسي الحكومة والجمهورية إيذاناً بانتهائها كما حصل في عهدي الوزيرين الأسبقين شارل رزق وأشرف ريفي؟
قاضيان لمركز واحد!
وبحسب المرسوم المجتزأ، يكون قد صار لعدد من المراكز القضائية أكثر من قاض معيّن فيه، أيّ أنّه صار لدينا رأسان لمركز واحد، في بدعة لم تألفها البشرية من قبل إلاّ في حالات الحروب والإنقلابات العسكرية، أو على غرار ما حصل في لبنان في العام 1988 بعد انتهاء عهد رئيس الجمهورية أمين الجميل ونشوء حكومتين واحدة عسكرية بقيادة العماد ميشال عون، وأخرى مدنية برئاسة الرئيس سليم الحصّ!
وهكذا، صار القاضيان رانيا يحفوف ورهيف رمضان نائبين عامين استئنافيين في الجنوب، ونجاة أبو شقرا وغادة أبو علوان نائبين عامين استئنافيين في النبطية، وجون القزي وسمرندا نصّار في موقع قاضي التحقيق الأوّل في الشمال، وأميرة صبرا وبلال بدر قاضيين للتحقيق في الجنوب، وشربل بو سمرا وحارس الياس قاضيين للتحقيق في بيروت، إلى ما هنالك من مراكز وأسماء أخرى صار لديها قَدَم في “القضاء المدني” وقدم في”القضاء العسكري” ويخشى أن تماثل طريقة المثل القائل”إجر بالبور وإجر بالفلاحة”!
ثمّ أنّه كيف يمكن إيراد أسماء قضاة في مرسوم واستبعاد أسماء قضاة آخرين وهم في الأصل يجب ذكرهم في المرسوم لحفظ مراكزهم سواء أكانت عضوية في محكمة بداية أو رئاسة غرفة في محكمة التمييز، لا بل للحفاظ على وجودهم في القضاء العدلي وإلاّ اعتبروا منقطعين عن العمل، ويستثنى من ذلك القضاة المعيّنون في مناصب توجبها مراسيم منفصلة عن مرسوم التشكيلات كرئيس مجلس القضاء الأعلى، والنائب العام التمييزي، ورئيس هيئة التفتيش القضائي، والنائب العام المالي، ورئيس هيئة القضايا، ورئيس هيئة التشريع والاستشارات.
متقاعدون في المرسوم
ولا بدّ من التذكير أيضاً، بأنّ هذا المرسوم المولود بطريقة خاطئة للقانون، يحتاج إلى معالجة تقنية ضرورية من مجلس القضاء الأعلى وليس من أحد سواه لإزالة أسماء القضاة الذين أحيلوا على التقاعد لبلوغهم سنّ الثامنة والستين عاماً منذ توقيع المجلس المذكور مشروع المرسوم ورفعه إلى الوزيرة نجم في 5 آذار 2020، إذ إنّه لم يعد جائزاً أن يتضمّن أسماء القضاة أسعد جدعون الذي كان في مركز رئيس أوّل لمحاكم الاستئناف في النبطية بعد تقاعده في 21 آذار 2020، ومالك عبلا الذي تقاعد في 12 نيسان، ومحمّد درباس في 14 نيسان، وجورج رزق المُقْبل على التقاعد في 24 نيسان 2020.
سؤال أخير، ماذا لو أصرّت وزيرة الدفاع عكر على اختيار قضاة للقضاء العسكري عيّنوا في مراكز أخرى؟ ألا يعني هذا الأمر الواردُ الحصول، تغييراً لخريطة التشكيلات سواء حملت تسمية مشروع أو مرسوم، مع ما تستدعيه عبارة التغيير من عرقلة وتأجيل؟
إنّها تشكيلات في زمن “كورونا” مع ما يقتضيه هذا الوباء العالمي من حَجْر، لذا يفضّل الحَجْر على هذا المرسوم المجتزأ بانتظار موسم سياسي توافقي يكون أكثر ملاءمة لتشكيلات شاملة لن تكون يوماً ما بمنأى عن التدخّلات السياسية واللوائح السياسية والحزبية، طالما أنّ القضاء ليس سلطة مستقلّة!
“محكمة” – الجمعة في 2020/4/17
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.