بعد تغييب المساواة أمام القانون: لماذا استمرار توقيف سبيتي و”إثارة النعرات” لا تنطبق على كلامه؟/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
للأسبوع الثاني على التوالي والشاعر مصطفى سبيتي قيد التوقيف الإحتياطي بسبب “جنحة بسيطة” ضُخّمت أكثر من المتوقّع بعدما نشر كلاماً على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي “الفايسبوك” أساء فيه التعبير بحقّ السيّدة مريم العذراء(عليها السلام)، فاستشاط الناشطون والغيارى غضباً ساطعاً كما لا يفعلون في الموضوعات السياسية والإجتماعية والحياتية التي تلامس حركتهم اليومية، وتحرّكت “شعبة المعلومات” في قوى الأمن الداخلي بإيعاز من النيابة العامة التمييزية فأوقفته وأخضعته لتحقيق أوّلي، وأحالته على النيابة العامة الاستئنافية في النبطية حيث جرى الادعاء عليه بجرم إثارة النعرات الطائفية والمذهبية، والتعرّض لرموز دينية.
وبعدما أجرى قاضي التحقيق في النبطية غسّان معطي الإستجواب السريع الذي لم يدم كثيراً في ظلّ توافر المعطيات والأدلّة، واعتراف الشاعر سبيتي بكتابة نصّه تحت وقع السُكْر وهو الشاعر المُلْهم وصاحب الدواوين المعروفة والتي تغرف كثيراً من المعين الفلسفي والرمزية الأدبية، قرّر إخلاء سبيله نظراً لماهية الجرم الطفيف والذي يرتكبه آلاف المواطنين اللبنانيين يومياً، ولا يستحقّ توقيفاً طويل الأمد، خصوصاً وأنّ الأسبقيات القضائية في هذا المجال تتحدّث بشكل صريح وبموجب أحكام موثّقة على تغريم الفاعل لا سجنه وإنْ كان النصّ المدعى عليه به يحدّد العقوبة بالسجن والغرامة المالية.
وتحت وطأة الضغط الديني والتحريضي الذي مورس على القضاء من غير جهة معروفة، إستأنفت النيابة العامة في النبطية قرار القاضي معطي أمام الهيئة الإتهامية ففسخته وأبقت سبيتي موقوفاً، ولكنْ إلى متى في ظلّ وجود تعارض قانوني يبيح هذا التوقيف طوال هذه المدّة الزمنية الكبيرة مقارنة بالجرم الواقع، وفي ظلّ عدم وجود أحكام في اجتهاد المحاكم اللبنانية تطال هذه الأفعال، إكتفت بالغرامة المالية من دون أن تقارب السجن.
وما دام الأمر على هذا المنحى، فلا بدّ من مناقشة قانونية لمآل الإدعاء والتوقيف بعيداً عن أيّة عصبية لا تقدّم ولا تؤخّر، خصوصاً وأنّ الموقوف ليس مجرماً خطيراً على الأمن القومي، وليس قاتلاً يستحقّ الإعدام، فهو اقترف خطأ جسيماً وخانته العبارات تحت وطأة السكر الظاهر وأعطاها بُعْداً لم يتوقّع في قرار نفسه أن يحدث كلّ هذه الضجّة، وإلاّ لما كتبها، وهو سارع إلى إزالتها عن صفحته وتقديم اعتذار علني، فيما سواه جدّف باسم الله على التلفزيونات علناً وأمام كلّ اللبنانيين ولم يتحرّك القضاء لتوقيفه كونه من المحظيين والمدعومين سياسياً.
كما أنّ النائب السابق فارس سعيد تعمّد المسّ بالله في حديثه عن حزب الله ولم توعز النيابة العامة التمييزية للقوى الأمنية للإسراع إلى توقيفه عند طلوع الصباح كما فعلت مع سبيتي، بل انتظرت تقديم إخبار لها لكي تكتفي بإحالته على النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان، وبالتالي تغاضت عن التوقيف والمعاملة بالمثل، وهو أمر يتنافى مع مبدأ المساواة بين المواطنين أمام العدالة.
الادعاء لا يتوافق وحالة سبيتي
والسؤال البديهي هل يتوافق ادعاء النيابة العامة وحالة سبيتي؟ وهل يستحقّ هذا التوقيف الإحتياطي الطويل؟.
إنّ السيّدة مريم العذراء هي لكلّ الأديان السماوية وتحديداً الإسلامية والمسيحية منها، وليست خاصة بديانة أو طائفة أو مذهب معيّن، والدليل أنّ القرآن الكريم تحدّث عنها مطوّلاً وخصّها دون سواها من النساء بذكر اسمها في سورتي “مريم” و”آل عمران” وأعطاها مكرمة عالية، وبالتالي فإنّ المسلمين يقدّرونها كثيراً ويوازوها بنساء أخريات ويقدّمونها عليهنّ، ولا يقبلون أيّ مسّ بها طالما أنّ الله سبحانه وتعالى أكرمها في كتابه وأنزلها منزلة رفيعة المستوى، ويكفي القول إنّها سيّدة الطهر لنعرف مقدار قيمتها الدينية والإنسانية.
وعليه، فإنّ ادعاء النيابة العامة على سبيتي بجنحة المادة 317 عقوبات ليس واقعاً في مكانه القانوني الصحيح، فالمادة الأولى 317 عقوبات تتحدّث عن”كلّ عمل وكلّ كتابة وكلّ خطاب يقصد منها أو ينتج عنها إثارة النعرات المذهبية أو العنصرية أو الحضّ على النزاع بين الطوائف ومختلف عناصر الأمّة يعاقب عليه بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات وبالغرامة من مئة ألف إلى ثمانماية ألف ليرة”.
وترد هذه المادة في النبذة القانونية الخامسة والأخيرة التي تتحدّث عن الجرائم التي تنال من الوحدة الوطنية أو تعكّر الصفاء بين عناصر الأمّة، وتحديداً في الفصل الثاني المتعلّق بالجرائم الواقعة على أمن الدولة الداخلي.
ومن يدقّق في معانيها، يجد أنّها غير منطبقة على فعل الشاعر سبيتي، ذلك أنّ إثارة النعرات الطائفية والمذهبية من الجرائم القصدية التي يفتعلها صاحبها عن قصد وتخطيط مسبق، ويتعمّد اقترافها بتجهيز الأرضية الصالحة لها مهيّئاً دوافعها ومسبّباتها، وتتجّه نيّته، وهي الأساس، إلى تحريك الغرائز والمشاعر الدينية لدى مختلف الطوائف المعترف بها في لبنان من أجل تأليبها ضدّ بعضها بعضاً وإحداث شرخ كبير بينها وإيقاع الفتنة بينها، مع ما يترتّب عليها من حوادث أمنية تفضي إلى قتلى وجرحى وتخريب ودمار واعتداءات بالجملة والمفرّق، فهل حصل هذا الأمر عند وقوع الشاعر سبيتي في المحظور الكلامي؟.
وأكثر من ذلك، فالسيّدة مريم العذراء(عليها السلام) هي الأكثر تقديساً لدى المسلمين والمسيحيين، ولم يلاحظ بأنّ كلام سبيتي أثار النعرات المحكى عنها في المادة 317 عقوبات، ولم تحْدُث فتنة ولم يقع شرخ، ولم يقع مشكل واحد، ولم يَقْتل أو يؤذي أحد أحداً، ولم يكن سبيتي المشهور بطريقة كتابته الفلسفية والشاعرية الزائدة، وهو من الشعراء والأدباء المميّزين في لبنان، يقصد هذا المفهوم القانوني للفعل المدعى عليه به، فما قاله ينمّ عن وجهة نظر فلسفية أغرقت في معناها إلى درجة التهوّر، وقد ارتأى كتابتها على صفحته”الفايسبوكية” في ظلّ الإنتشار العالمي لها، دون أن ينتبه إلى أنّها تعبير غير مألوف، ودون أن يدرك أنّ الناس كلّهم ليسوا شعراء ولا يمكنهم أن يرتقوا إلى مستواه الشعري، وما يعنيه الوحي الشعري والإلهام الشاعري، ومع ذلك فقد استدرك الأمر وسارع إلى الاعتذار.
بين سبيتي وسعيد
وإذا ما أجرينا مقارنة بسيطة بين هفوة سبيتي وما فعله النائب الأسبق فارس سعيد الذي يظهر من سياق كلامه بأنّه اعتذر أيضاً بعدما تذرّع بخطأ مطبعي، فإنّنا نجد بأنّ الصياغة اللغوية وطريقة الكتابة تؤكّد العكس، لا بل، فإنّ سعيد تقصّد بتر كلمة حزب بإشارة “الهاشتاغ” المتداولة في العالم الإفتراضي، ليمسّ بالذات الإلهية، وهو ربّ العالمين لدى المسلمين.
وأكثر من ذلك، فإنّ العناصر الجرمية متحقّقة بكلّيتها بحقّ فارس سعيد، ويستدلّ من الصياغة بأنّها مدروسة وتستهدف جماعة ما دينية وسياسية لتأليب جماعات أخرى ضدّها، وهذه هي نيّة المشرّع عندما وضع هذه المادة القانونية، على عكس ما هو متوافر بحقّ الشاعر مصطفى سبيتي واسمه الحقيقي أحمد سبيتي ويعرف بين أهل قريته كفرصير الجنوبية وبين الشعراء والأدباء اللبنانيين باسم مصطفى، وصدرت دواوينه وكتبه بهذا الاسم.
وقد أوضح سبيتي بأنّه لم يشأ التعرّض لرمز ديني له مكانته الخاصة في دينه الإسلامي ويقدّره هو كثيراً على المستوى الشخصي، وبالتالي فإنّه لا وجود لنيّة جرمية في هذا الخصوص.
خطأ الدهم أيضاً
وأخيراً، ليس هناك من موجب قانوني لاستمرار توقيف سبيتي طوال هذه المدّة الزمنية، وباتت الكرة في ملعب القضاء لاتخاذ موقف صريح بالمساواة بين المواطنين، والعدالة مساواة قبل أن تكون أيّ شيء آخر.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ جرم سبيتي بإجماع قضاة ومحامين، لا يستدعي دهم منزله فجر يوم الإثنين الواقع فيه 27 تشرين الثاني 2017 بغية توقيفه، الأمر الذي لم يحصل مع المجرمين الحقيقيين الذين يستبيحون كرامات الناس الآمنين، وكان بالإمكان إستدعاؤه إلى المخفر أو الفصيلة والتحقيق معه والادعاء عليه، أو بالأحرى الادعاء عليه مباشرةً أسوةً بما حصل مع فارس سعيد، فليس ضغط الرأي العام دائماً على حقّ، والقضاء ليس موظّفاً لدى الرأي العام لكي يلبّي له أمنياته وتطلّعاته وقلّة إدراكه للقانون، وإنْ كان مؤتمناً على سلامة المجتمع.
“محكمة” – الجمعة في 2017/12/08