بين استقلالية القضاء واستقلالية القضاة/يوسف لحود
المحامي يوسف لحود:
غالباً ما يرتبط الاضطهاد بالأمل، فكلّما عظم أحدهما عظم الآخر.
فإذا وضعت آمالًا كبارًا على قائد أو مجموعة، وكانت النتيجة معاكسة للآمال، فتتحوّل هذه الأخيرة إلى مرارة فنقمة فاضطهاد، حتّى ولو كـانت أسباب الفشل معقّدة ومتشابكة.
ممّا يضع واجبين مقابلة: الواجب في أن نقيّم بدقّة قدرة من نعلّق عليه الآمال، وواجب المأمول منه أن يعرف حجم الآمال المعلّقة عليه.
والقضاء اليوم، ليس فقط محطّ الأنظار، وإنّما هو الرهان المتبقّي لاستعادة الدولة، ونكاد نقول الوطن!
فكلّ الآمال معقودة عليه،
الجائع ليشبع، والمظلوم ليُنصف، والمنهوب ليستردّ ماله، والوطني ليستعيد هيبة دولته.
وقد لا يخرج عن الإجماع في عقد الآمال على القضاء سوى قلّة ممن نهبـت وعاثت فســادًا وأهملت المصالـح الوطنية العليا، فاســتلذّت الإثـراء وشــهوة السلطة على التضحية وبناء دولة الغد.
فلا ضير إنْ رأينا أنَّه ثمّة سـاسـة، أو متنفّذين يضمرون الشرّ للقضاء ويناصبونه العداء (سـرًّا أو جهرًا).
وأمّا أن نرى جناحي العدالة على غيـر وئام وانسجام في ضرب الفضاء لرفعها إلى الأعلى والأسـمى، فقد تكون هذه على مقربة من نهاية الدنيـا، فجناحان متنافـران يُلحقان النسر بفصيلة الزواحف!
وما ارتفع صوت مخلص إلّا بـسبب جرح ووجع، والموجوع لا يطلب إلّا من طبيب، وقَسَـمُ إبقراط ليس أرفع من قسم العدالة،وإزاء مرجعين يسـتميتان في سبيل اســتقلالية وعدالة وهيبة،فــإنّ مقاربة المسألة تكون كما يلي:
1 – إسـتقلالية القضاء: وهو عنوان لأفعال مرتبطة بالغير، إذ إنّ اسـتقلالية القضاء راسخة في الدستور حسب البند “هــ” من مقدّمته، والمادة 20 منه. وبالتالي، فترجمة المبدأ الدسـتوري إلى آلية واقعيّـة تحتاج إلى قوانين ومراسيم . هي بالطبع من إختصاص السلطتين الأخريين (أيّ الغير)، وذلك بما يختصّ، إنتخاب القضاة لمراكزهم، الاسـتقلالية المالية، وسواها من أمور لإرساء الاستقلالية التامة للقضاء كسلطة بين السلطات.
وبالتأكيـد، فوراء عرقلـة هذه الأهـداف، تكمن غايات ومصالح وسـياسات. وسلطات لا تستمرىء كلمة “زميل” بل تنتشي بسماع كلمة: “زعيم”. فما مصيـر العدالة في خضمّ هذه المحنة؟
2 – إسـتقلالية القضـاة:الإنسان يبقى حرًّا حتّى يختار، وبعد ذلك يصبح عبد خياره!
وأشباه الآلهة أو أنصاف الآلهة حين اختاروا القضاء فـقد اختاروا العدالة ولو بـأيّ وسيلة وتحت أيّ ظروف، وإن لم تنبع السعادة من الداخل فعبثـًا إقتناء الجواهر والخز والديباج … فاللاعنف عند غاندي حرّر الهند، وبسكويت ماري أنطوانيت لم يُعِنْهـا حين جاعت المقصلة!
والعدالة لا تُصنع في قصر إسـتقلالية القضاء، بل في مصلّى استقلالية القضاة.
فالأولى بحاجة للسلطتين الأخريين، والثانية بحاجة لضمير وجرأة ليسا موجودين سوى داخل كـلّ قاضٍ، لا يُمنحان بقانون أو بمرسوم، بل يُعطيان بإرادة وقناعة”.
وإذا انتفت الرغبة لدى أيّ من السـلطتين الأخريين في منح القضاء إســتقلاليته، فالمسـتحيل لا يقيم في عزائم القضاة المستقلّين وهم كثر إذْ بمقدورهم أن يحقّقوا إسـتقلالية القضاء رغمًا عن أنف الجميع، وبصـورة واقعية وصولًا إلى الواقـع القانوني الناجز.
وكلّما زادت نسبة القضاة المستقلّين كلّما اقترب القضـاء من إسـتقلاليته، فما حاجة سـياسـي أو سـلطة سياسيّة إلى التدخّل في تشكيلات قضائية حين يجمع القضاة على قول “لا”، أو حين يسدّون آذانهم بضمائرهم.
وحين لا يعود القضاة يلتفتون إلى ترغيب أو يخشون ترهيبـًا، تنتفي قدرة الـسلطتين الأخريين على عرقلة اسـتقلالية القضاء، وتصبح الآلية القانونية قاب قوسين أو أدنى.وترويض الذات أشدّ صعوبة من ترويض السلطتين الأخريين ولكنّه أجدى.
3 – في الخلاصة:الحقوق تؤخذ بالقوّة أو بالصبر والإرادة، فـإذا كـانت القوّة متاحة، فاستقلالية القضاء حقّ للقضاة وواجب على السلطتين الأخريين،
وإن كـانت الظروف عسيرة، فالإنكفاء كما النقد والتذرّع ليسوا حلولًا ناجعة، فقضاتنا ملكات وملوك في قصور العدالة، فإن تعذّر التاج والعرش فهما لا يصنعان الملكة والملك، بل ما يصنعهما هـو حكم باسم الشعب اللبناني يكون ناطقـًا باسم هذا الشعب حقًّا.
السلطات الثلاث محكومة بالتعاون وليـس بالإرتهان، ومن ابتعد عن الشعب أُصيبت مقاتله.
والمحامون من الشعب، ولولا أنّ العدالة ترفرف بجناح واحد لاسـتقالوا من رسالتهم.
ورسالة المحاماة ليست مستقلّة عن العدالة، فتحت فيئها نلتقي بقضاتنا (حجر الزاوية كما قال نقيبنا ملحم خلف، وهو لا يطلب الكثير إلّا من الكبير!)، ونلتقي بالمساعدين القضائييـن، وبسواهم.
ولا فرق بين عربي وأعجمي إلّا بالتقوى، وليس من طلب الحقّ فأخطاه كمن طلب الباطل فأدركه.
والإلحاح ليس وليد رعونة أو نزق، بل ثمرة إخلاص في إيجاد حلول لوطن في زمن الأفول، وهو يعرف مكامن الداء كما يعرف مالك الدواء، وكلّنا نخشى أن نهدر الوقت في حين أنّه المادة الوحيدة التي تصنع الحياة!
والإنسان لا يموت حين يفقد قدرته على التنفّـس بل حين يفقـد قدرته على السعي.
فعسانا نتكاتف بدلًا من أن نتخالف، وعسانا ندرك أنّ الإيمان مسألة حياة وقناعة فلا قانون الإضطهاد يمحوه من الوجدان حتّى ولو منع الصلاة، ولا قانون التسامح يخلق الإيمان، حتـّى ولو أغرق الأرض بالمساجد والكنائس.
والعدالة كما الإيمان فـلا قانون يمنحها ولا قانون يمنعها، فلنمارسها جميعـًا بعشق يقارب عشق الإله حين المناجاة، إلى أن يأتي يـوم تصبح فيه شعائرها متاحة بقوانين وأنظمة نعلنها للملأ.
وحتّى ذلك اليـوم، ليـس الكفـر بديلًا عن الإيمان الصامت.
وإذا كنا نستمع لمجرم ونحاوره، فلماذا لا نحاور ذواتنا، وحين نتخلّى عن حمايـة ظهور بعضنا، فإنّنا نكون قد أبحناها لمحترفي الركوب وما أكثرهم.
والسلام.
“محكمة” – الأربعاء في 2021/6/9