بين السلطة القضائية ودولة القانون/يوسف لحود
المحامي يوسف لحود:
دولة القانون هي صورة السلطة القضائية في مرآة الوطن، والمرآة تُبرز الحقيقة كما هي، فلا يمكنها محو أو تخبئة العيوب ولا يمكنها إضافة أيّ محاسن، وإذا أردنا أن تكون الصورة جميلة فما علينا سوى الإهتمام بالأصل!
أوّلاً: الوضع الراهن:
1 – تسلّط السلطتين الأخريين(التشريعيّة والإجرائية)على بعض مفاصل السلطة القضائية (مالية– تنظيميّة …).
2 – إنهيار قيمة الرواتب مع انهيار سعر صرف الليرة.
3 – بدء تحلّل الهيبة والتي تعوّض معنوياً عن وضع مادي مترد، وهذا مرتبط بانهيار هيبة الدولة بفعل سلوك القائمين على مقدّراتها.
4 – قصور عدل مترهّلة حتّى بات العمل فيها يقارب إهانة الإنسان في كرامته وحقوقه الأوّلية البديهيّة.
5 – مساعدون قضائيون يعانون من الفقر والعوز ممّا دفع البعض منهم إلى الإهمال واللامبالاة في تنظيم الشقّ الإداري للسلطة القضائية.
6 – فقدان الوسائل البسيطة لحسن سير العمل (آلات تصوير، قرطاسيّة …).
7 – إعتبار المرفق القضائي وسيلة الضغط الوحيدة المتاحة للمطالبة بالحقوق المشروعة، ممّا يجعل العمل متقطّعاً بفعل إضراب أو اعتكاف … ويضائل من الإنتاجية في ظروف قاهرة.
8 – إنتفاء القناعة أو الإرادة الجماعية الساحقة بأنّ السلطة القضائية مؤتمنة على التغيير الإيجابي لإزاحة الفساد ووقف الإانهيار بما يجعل القضاء رسالة مقدّسة وليس مهنة منتجة فقط، مع الفارق الهائل بين الاثنتين، ومع عدم تعارضهما، ولكن بأفضلية الأولى على الثانية.
ثانياً: الوضع المنشود:
1 – رغم كلّ الظروف القاهرة والإستثنائية والمضنية، الإقتناع بما يلي:
أ – إنّ استقلالية القضاة أهمّ من استقلالية القضاء التي تأتي ثمرة للأولى وليس العكس.
ب- إنّ البشر العاديين يتأثّرون بالأوضاع المادية، وأمّا أنصاف الآلهة فيتأثّرون أيضاً ولكن بنسبة أقلّ بكثير وذلك بسبب الصفات والفضائل الواجب تمتّعهم بها، فيحافظون على دورهم الطليعي ورسالتهم السامية في تحقيق دولة القانون.
ج – إنّ التغيير الجذري في لبنان ونقله من دولة فاشلة وتكاد تصبح مارقة إلى دولة القانون أمر ممكن عندما يتوفّر القضاة المستقلّون بكثافة، والاستقلالية هنا هي: مزيج الضمير والجرأة.
وهذا المزيج مقدّر أكثر وأكثر عند الذي يعاني من الفقر والتهديد إذ إنّ العزم والإرادة في الرفاهية والطمأنينة هما غيرهما في الحرمان والإنكشاف.
2 – وحدة القضاة وتماسكهم وانسجامهم، بالإتجاه نحو هدف إستراتيجي في هذه الظروف الإستثنائية المفصليّة، هو محاربة الفساد بكلّ أشكاله مهما كان الثمن من تعب وجوع وعرق وحياة!
3 – عنصر المال، وهو حيوي لتأمين الحياة الكريمة اللائقة، والأماكن الصالحة للعمل، والوسائل والأدوات الضرورية لحسن سير الأعمال…
وإنّ عدّة مصادر قانونية يمكنها تأمين المال بالحدّ الأدنى المطلوب، منها:
أ – الدولة اللبنانية بسلطتيها التشريعيّة والإجرائية، ولكن نظرة موضوعية إلى هذا المصدر (وهو واجب دستوري)، تفيد أنّ الفساد لا يموّل مكافحيه، فيجب أن يكون الخيار مستمرّاً على مكافحة الفساد والإصرار على الحقوق المشروعة في آن واحد.
ب – الهبات الدولية لحاجات قصور العدل والقضاة والمساعدين القضائيين، وهي من مسؤولية وزير العدل الذي باشر بتلمّس هذا المصدر، وعليه تفعيله والمثابرة في متابعته مع أكثر من جهة، مع التأكيد على عدم ربط أيّ هبة بأيّ شرط أو علاقة أو تدخّل بين الواهب وبين السلطة القضائية سوى أن تكون لمصلحة هذه السلطة وقصور العدل.
ج – أن يعمد وزير العدل الى افتتاح صندوق خاص لصالح قصور العدل فقط (تجهيزاتها، نظافتها، توسيعها ، تأمين مسلتزمات العمل فيها…)، ويتمّ تمويل هذا الصندوق عبر هبات من اللبنانيين دون سواهم، لا سيّما العاملين في الشأن العام، والمنادين على المنابر بدور السلطة القضائية، على أن تُعلن أسماء المساهمين في بناء وتعزيز وتجهيز قصور العدل وقيمة كلّ مساهمة حتّى ولو كانت فلس الأرملة.
وعلى ألّا يتمّ التصرّف بهذا الصندوق إلّا بناء لقرار يحدّده مجلس القضاء الأعلى.
كما يمكن للجمعيات الخيرية التي لا تهدف إلى الربح القيام بأيّ أعمال في أيّ قصر عدل حسب قرار مجلس القضاء الأعلى.
د – تفعيل تنفيذ الأحكام الجزائية والمدنية واستيفاء الغرامات من المرتكبين وسيئي النوايا، وهذا يقتضي القيام بورشة هائلة- ولو في ظلّ ظروف صعبة جدّاً – بفصل الدعاوى بصورة سريعة وعدم ترك أيّ مستجدّات أو ظروف تؤثّر في إنتاجية السلطة القضائية، إذ إنّ ضعف الإنتاج سوف يؤدّي إلى ضعف المردود، وإنّ أيّ إضراب أو اعتكاف من قبل أيّ كان، لا يمكنه وقف سير العدلة إلّا إذا كان ذلك من قبل أربابها، فعندها تكون النتيجة الحتمية إستفادة وحيدة للمرتكبين في استئخار مواعيد محاسبتهم، وأمّا الباقون – جميعاً – فسوف يكونون من عداد المتضرّرين.
وإنّ ازدهار التحكيم في غالب الأحيان، وبدعاوى ذات قيم مالية عالية، هو بسبب البطء في فصل الدعاوى. وأمّا في حالة التوقّف عن فصل المنازعات – ولو مرحلياً – فنخشى أن تزدهر عندها شريعة الغاب، وتصبح كرة الثلج أقوى ممن يرغبون بإيقافها!
هـ – التنسيق عبر لقاءات دورية معمّقة ومدروسة بين مجلس القضاء الأعلى ونقابتي المحامين لضخّ الأفكار والمبادرات التي تحقّق إستقلالية السلطة القضائية ، ومواردها المالية التي تمكّنها من العمل الدؤوب.
و – تشريع ضرائب جديدة لا تطال المعسّرين والفقراء، بل الذين يربحون أحكاماً بقيم عالية تزيد على مبلغ يتمّ تحديده، فيقتطع منه نسبة مئوية لصالح صندوق التعاضد، كما لصالح المساعدين القضائيين.
ومن مثل فرض نسبة مئوية لا تقلّ عن 20% (لصالح السلطة القضائية بمؤسّساتها وأشخاصها) على كلّ المبالغ التي يستعيدها القضاء (لصالح الدولة اللبنانية) من أيّ فاسد بالإستناد إلى قوانين الإثراء غير المشروع أو تبييض الأموال أو اختلاس المال العام أو استيفاء عمولات منه مستترة أو غير قانونية أو صرف النفوذ واستغلال الوظيفة، وسواها.
وهذا يقتضي أيضاً ترسيخ الإجتهاد لتفسير المادة 70 دستور وجعل الإستثناء الوحيد فيها وبصورة واضحة لناحية صلاحية المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء هو ما يتعلّق بسياستهم الوظيفيّة فقط وكلّ ما عدا ذلك بما فيها أيّ أفعال ينجم عنها جرائم معاقب عليها بالقوانين العامة تبقى من صلاحية القضاء العادي، لا سيّما منها الجرائم التي تمسّ بالمال العام، وتعديل حصانة الموظّفين بإلغاء صلاحية المرجع الإداري أو النائب العام التمييزي في حجب الإذن، وترك الأمر لتقدير القاضي الواضع يده على القضيّة تسلسلاً.
ز – إعطاء القضاء الواضع يده على أيّ دعوى ممّا ذكر في البند “و” أعلاه، صلاحية تخطّي أيّ سرّية مصرفية من أيّ نوع كان.
ح – تفعيل المواد العقابية المتعلّقة بالمال العام (أيّاً تكن أوصاف الجرائم أو الأفعال) ، يترافق هذا الأمر تحديداً مع تعديل قانوني يمنع الإدلاء بأيّ دفوع شكلية ليتم البتّ بها بصورة مستقلّة عن أساس الدعوى، مع حفظ حقّ القاضي الواضع يده على الدعوى بإثارة أيّ دفع يتعلّق بالانتظام العام عفواً، أو الأخذ بأيّ دفع يتقدّم به المدعى عليه دون أن يكون ملزماً بذلك، وذلك بالموازاة مع اعتبار أيّ إهمال أو لامبالاة وعدم جدّية بشأن أيّ شكوى أو إخبار يتعلّق بالمال العام أو بمخالفة القوانين المالية إنّما هي من قبيل الإستنكاف عن إحقاق الحقّ وعرقلة سير العدالة، وتضمين أيّ مدع أو مخبر يثبت سوء نيّته الفادح غرامات يحدّدها المرجع القضائي، وذلك بعد تعديل المادة 11 من قانون أصول المحاكمات المدنية بإلغاء الحدّ الأدنى منها وجعل الحدّ الأقصى مليار ليرة لبنانية.
الخلاصة
1 – يتوجّب تفعيل المصادر القانونية المتاحة حالياً لتأمين مستلزمات السلطة القضائية بأشكالها كافة، والتقدّم بمشاريع معجّلة لايجاد مصادر أخرى لا ترهق الطبقة الفقيرة.
2 – بدلاً من الإعتكاف أو الإضراب الإندفاع في تحريك الدعوى العامة أو تقديم الإخبارات والشكاوى بوجه كلّ من ألحق ويُلحق الضرر بالمال العام، وتفعيل فصل الدعاوى واستيفاء الغرامات.
3 – المثابرة على مكافحة الفساد مهما كانت الأثمان غالية والتضحيات جسيمة، لأنّ ذلك هو السبيل الوحيد لإعلاء شأن القضاء وإيجاد دولة القانون.
4 – الوحدة والتماسك في الجسم القضائي بما يلغي أيّ صورة – ولو خاطئة – عن أيّ انقسام يتطوّر بصورة مميتة للهيبة والعدالة وثقة الناس.
فإذا كان السادة القضاة يضعون كلّ آمالهم في السلطة القائمة للوصول إلى حقوقهم المشروعة، فنخشى أنّهم يراهنون على رمال متحرّكة ليبنوا قصور العدل.
وأمّا إذا وضع الناس آمالهم في القضاة لمكافحة الفساد بأشكاله والفاسدين بأنواعهم، فنحن على ثقة إنّنا نبني على صخر.
والسلام عليكم.
“محكمة” – الثلاثاء في 2022/2/15