مقالات

تحديات العدالة الجنائية الدولية/خليل حسين

الدكتور خليل حسين:
ظلت العدالة الجنائية على الصعيد الدولي تحدياً يقلق أنصار حقوق الإنسان ومكافحي الجرائم الدولية، ورغم التطور الفارق الذي رافق آليات المتابعة، كإنشاء المحكمة الجنائية الدولية وانطلاق عملها في عام 2002، ظلت المحكمة محط أنظار داعميها ومعارضيها على حد سواء، بالنظر لما يعلّق من آمال كبيرة عليها، لجهة نشر العدالة الجنائية وتثبيت أركانها وتنفيذ قراراتها وأحكامها في وقت انتشرت فيه الجرائم بشكل غير مسبوق، وفي وقت بدأ حماس المجتمع الدولي يشهد تراجعات مقلقة حول عملها وإمكانية الاستناد إليها كمرجع لمواجهة الجرائم والانتهاكات التي انتشرت في غير مكان في عالمنا اليوم.
فمنذ محكمتي طوكيو ونورمبيرغ بعد الحرب العالمية وما تبعهما من محاكم جنائية خاصة أو مختلطة، ظل الاهتمام الدولي منصبّاً على إنشاء محكمة جنائية دولية دائمة، ورغم محاربة العديد من الأطراف الدولية الوازنة، انطلقت المحكمة ولو بتعثر واضح في بعض المحطات، من قبل بعض الدول التي دعمت تشكيلها وإطلاقها ومن ثم تراجعت وانسحبت من عضويتها، وهو أمر هدد مصداقية عملها واللجوء إليها، وخصوصاً الولايات المتحدة وروسيا، والأمر لا يقتصر على دول عظمى، بل شمل دولاً أخرى من كافة الأحجام والمستويات، خاصة أن الجرائم التي يمكن أن تتعامل معها المحكمة هي منتشرة بشكل واسع، خاصة في المجتمعات والدول التي تنتشر فيها جرائم الحروب، والتي توجه فيها أصابع الاتهامات إلى مسؤولين يتمتعون بحصانات تمنع محاكمتهم وتتيح لهم فرص الإفلات من العقاب.
ثمة مئة وخمس وعشرون دولة انضمت إلى المحكمة وما زالت في عضويتها حتى الآن من أصل مئة وثمانٍ وتسعين دولة أعضاء في الأمم المتحدة، ورغم عدم فعالية هذا العدد الكبير نسبياً، فإن ثمة مظاهر متنامية تبرز بتمسك بعض الدول بالدفاع عنها. فمؤخراً تبين أن 79 دولة عارضت وانتقدت الإجراءات التنفيذية العقابية التي أعلنتها الولايات المتحدة لجهة التمويل، وهي في الأساس لم تنضم قبلاً، علاوة على انسحابها من عضوية مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة على قاعدة ما وجهته هاتان البيئتان الدوليتان من اتهامات ضد إسرائيل مؤخراً على ما جرى في غزة ولبنان.
في الواقع، إن الانسحابات التي تمت من عضوية كل من المحكمة الجنائية الدولية ومجلس حقوق الإنسان تشكل ضربة قوية لأرفع آليات قضائية يمكن الاستناد إليها واللجوء لفضاءاتها لما تشكله من أسس معنوية مطلوبة في القضاء الدولي.
في الواقع، تمكنت كل من المحكمة الجنائية الدولية ومجلس حقوق الإنسان من محاولة إنجاز ملفات عدة وإجراءات عملية لقضايا متصلة بانتهاكات حصلت في حروب عدة جارية حتى الآن ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الحرب على أوكرانيا أو ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت، في الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان، وسابقاً في دارفور ضد الرئيس السوداني السابق عمر حسن البشير أو في ليبيا ضد الراحل معمر القذافي.
يشار في معرض النظر للقضاء الدولي في انتهاكات الحروب، إلى أن الأمر ليس مقتصراً من الناحية المبدئية على المحكمة الجنائية الدولية التي تحاكم أفراداً مسؤولين عن أعمال قاموا بها بصفتهم الشخصية وليس بصفة دولهم، فيما مقاضاة الدول على اتهامات مماثلة تجري لدى محكمة العدل الدولية، وأيضاً لدى مجلس حقوق الإنسان وهو مجلس له صلاحيات استشارية، واجه الكثير من الصعوبات والعقبات لدى إطلاقه قبل عقدين ونيف من الزمن.
تمر المجتمعات البشرية والنظم السياسية في ظل النظام العالمي القائم بظروف غاية في التعقيد والضغوط والآثار المتصلة بالحروب والممارسات الناشئة عنها، وهي أحوج ما تكون إلى دعم الدول القادرة على تقديم العون لبيئة القضاء الدولي لمتابعة تنفيذ ما أنشئ من أجله، إلا أن الواقع مختلف تماماً، حيث تتزايد أحياناً مظاهر عدم الرضا عن أسلوب العمل وطبيعة النتائج المنجزة، لتصل الأمور إلى سلوك مؤذ يمكن أن يقضي على جهود استمرت طويلاً لتكريس مظاهر هدفها إرساء قواعد تشعر بأمان المجتمعات البشرية.
ثمة ضرورة واجبة ولازمة لإعادة تقويم عمل المؤسسات القضائية الدولية من جهة، والعمل على مراكمة الأعمال والإنجازات التي تشعر المجتمع الدولي بأهميتها والمضي في التمسك بها، كما ينبغي أن ينسحب الأمر نفسه على عاتق الدول الكبرى القادرة بشكل أساسي على تقديم المعونة المعنوية والمادية لمسيرة أعمالها، لا سيما أن هذه الدول أي الكبرى تحديداً، قد تتمكن من إعادة برمجة سلوكياتها السياسية في النظام العالمي عبر الإسهام في تقديم المساعدات والبرامج، وهو الطريق الأنجع لهذه الدول لامتلاك مكتسبات تسعى إليها في محيطها الدولي.
خلاصة القول، إنه من الصعب أن نتصور نظاماً عالمياً فيه هذا الكم الهائل من المصالح المتضاربة والتي تترجم غالباً بنزاعات وصراعات وحروب تتخللها انتهاكات مدوية، من عدم وجود بيئة قضائية دولية يمكن الاستناد إليها في معرض مواجهة هذه الانتهاكات الجائرة، وبالتالي إن البشرية بحاجة إلى آراء حكيمة وراجحة تنتج أفكاراً قابلة للتنفيذ في معرض سيادة العدل والإنصاف الدوليين.
“محكمة” – الجمعة في 2025/2/14

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!