تدابير مكافحة الفساد بين الشعبوية والفعالية/سابين الكك
د.سابين الكك*
في لبنان، وقفت الشعبوية جداراً صلباً بوجه منطق بناء الدولة المحصّنة بمؤسّسات قويّة، وساهم اتفاق الطائف، على مدى ثلاثة عقود، في تقويض منطق الديمقراطية التمثيلية الوطنية لصالح السلوك الشعبوي المذهبي، الذي انتهجَته باتقانٍ سلطةٌ سياسيةٌ محترفة.
وفي غفلةٍ من ربيع ٢٠٠٨، تهاوى مبدأ الرقابة البرلمانية أمام مكتسبات التوافقية الشعبوية، بعدما اجتمع قادة الفكر الطائفي اللبناني في الدوحة، على وقع مشاهد مؤلمة، استنسخت ذكريات الحرب الموحشة في شوارع بيروت، وكأنّ تكرار التاريخ بات قدراً محتوماً علينا، يباغتُنا، مختَبئاً في ثنايا لحظاتٍ مفصلية، ليستدرجنا إلى عفنِ شعبوية الأمس بنسخة اليوم.
تدَرَّج النهج الشعبويّ لحكومةِ الـ١٠٠ يوم بخطىً واثقة، وصولاً إلى تبنّي الخطة الاقتصادية، مبدأ استعادة الأموال المنهوبة المبنيّة على قرينةِ الإدانة الشعبية المحقّة، شعاراً، لسلطةٍ تنفيذية اتّخذت للطبقة الحاكمة دور المحقّق في شبهة فساد هي المتهم الوحيد بها، وكلّفت وزير المال مهام الاستحصال على لائحة التحويلات المالية الخارجية ابتداءً من2019/1/1، في ظلّ قانون السرّية المصرفية الذي ما زال ساري المفعول، بعد تعذّر النيابة العامة التمييزية البتّ في هذه المسألة لعدم انطباق الوصف الجرمي عليها.
ولأنّ، الورقة الوزارية عزّزت واقعية المقولة الشائعة “الشيطان يكمن في التفاصيل”، ولأنّ مسار عملية استعادة الأموال المنهوبة، طويلٌ ومعقّدٌ في طبيعته، عمدت اللجنة التي أعدّتها، إلى إقحام التطبيق في إجراءات شائكة مذيّلة بالتعدّي على سيادة القانون وإلى عزل التدابير المقترحة عن القواعد والنماذج المرعية الاجراء، وإلى تقديم الخطّة في قالبٍ عشوائي وغير منظّم، إفتقد شكلاً، إلى أسس المنهجية العلمية، فأفقدها مضموناً، النهج المنطقي السليم، وعليه جاءت الخطوات عبارة عن استعادة نهج الحكومات السابقة في إعداد خطط فارغة من الفعالية المنشودة.
أوّلاً- خطّة استعادة الأموال المنهوبة؛ تدابير معلّبة من تشريعات معطّلة
إستعرض المستشارون خطّة نموذجية على الطريقة اللبنانية التقليدية، أشعلت صيغة طرحها سجالاً بين مكوّناتها كاد يطيح بها، ممّا استدعى اجتماعاً جانبياً طارئاً انتهى، بسحب فتيل الاستقالة وتدوير زوايا المصالح الضيّقة. ومجددّاً، فخٌّ سياسيٌّ ضرب الأهداف الوطنية في عمق جديّتها، حيث أظهرت، السرعة في التبديل والحذف والتعديل ترجيح كفّة التراضي على قاعدة المحاسبة والمساءلة.
وبعيداً، عن الغوغائيةِ الشعبية، لا تتضمّن الوعود، جديداً أو ابتكاراً أو حتّى احتراماً للمفاهيم القانونية الموجودة أصلاً، بدل السعي إلى إزالة الالتباسات المحيطة ببعض الآليات والإجراءات في إطار مكافحة الفساد والدفع قدماً باتجاه، تفعيل القوانين وتعزيز دور الأجهزة الرقابية وتطبيق استقلالية السلطة القضائية، ولم تحمل مقرّرات جلسة 2020/4/28 في طيّاتها، إلّا تعقيداً وتخبّطاً، سيكون حتماً، سبباً للتعطيل وليس للتفعيل، لا سيّما:
• في تجاوز آليات التحقيق والكشف النصوص القانونية
تنصّ القوانين والأحكام المرعية الإجراء بوضوحٍ تام على تدابير محدّدة وملزمة، للمباشرة في اتخاذ إجراءات مكافحة الفساد، بحسب نوع الفعل، إثراء غير مشروع، تبييض أموال، تهرّب ضريبي، أو غيرهم، وبالمقابل، تعمّدت الحكومة الترويج لخطّتها على أنّها، خطوات عبقرية من خارج السياق المعتمد في الحكومات السابقة.
أتت مجموعة البنود، الـ٨ أو الـ٤ بعد تقليصها أو تجزئتها، معزولةً، إلى حدّ كبير، عن البيئة القانونية الحاضنة لها، مغلَّفة بخصوصية غير معهودة في مسائل الجرائم والنظام العام، وكأنّ اللجان الوزارية والاستشارية، تقصّدت تجاهل، السلطة القضائية والهيئات ذات الطابع القضائي. وأعُطيت وزارة المال، صلاحيات واسعة ومستحدثة في التحقيق الضريبي الداخلي، علماً أنّه من المتوقّع أصلاً مساءلة أجهزتها عن التقاعس في تطبيق واجباتها الوظيفية العادية بموجب قانون الإجراءات الضريبية.
وبالمقابل، اعتُبرت الاستعانة بشركة تدقيق مالي، من الشروط الملّحة، لإتمام التحقيق في شبهة الاثراء غير المشروع، مع العلم، أنّ أجهزة التفتيش الرقابية وبالتعاون مع الإدرات المختصة، هي المرجعية الصالحة تنظيمياً.
في ما يتعلّق بقانون مكافحة الفساد، تمّ تغييب هيئة التحقيق الخاصة والتي تتمتّع بصفة قضائية، ولها دورٌ محوريٌّ ضمن نظام مكافحة تبييض الأموال وجرائم الإرهاب، وتستحوذ لهذا الغرض على صلاحياتٍ واسعة بموجب أحكام قانون 2015/44، منحت خصيصاً لها، لارتباطات مباشرة مع منظّمات دولية وإقليمية.
• في مخالفة قواعد الإثبات
إنتهجت الحكومة، منطقاً أحادياً إلغائياً، وصولاً حدّ الإطاحة بالأصول القضائية الإجرائية. هذه الأصول التي تشكّل عصب كلّ منظومة قانونية، وقرّر مجلس الوزراء مجتمعاً، أنّ الأفراد الذين استلموا مهاماً وظيفية في القطاع العام وزوجاتهم وأولادهم، مشمولون حكماً، بموجب الإجراءات المقرّرة من خارج القواعد القانونية؛ وباتت قاعدة أنّ الكلّ مدان حتّى ثبوت البراءة، والاتهام مبني على شبهة أطلقتها الثورة الشعبية وأكّدتها التصاريح السياسية (كما ورد في المسودّة المسرّبة). وأصبح على المشتبه بهم، من خارج الطبقة الحاكمة طبعاً، عبء إثبات براءتهم وبذلك انقضّت بنود خطّة، لا تتمتّع بالقوّة الإلزامية على قرينة البراءة؛ المتهم بريء حتّى تثبت إدانته، وعلى مبدأ عبء الإثبات؛ على من يدعي الواقعة عبء إثباتها.
ثانياً – تعزيز نهج التعسّف لمكافحة الفساد؛ الغاية لا تبرّر الوسيلة
يبدو من الواضح، أنّ هناك تحويراً كبيراً في تطبيق قوانين ومراسيم واتفاقيات مرعية التنفيذ، ممّا ينبئ بخلق إشكاليات كبيرة، وأضحت كلّ الحكومة ووزارة المالية ذات صلاحيات استقصائية للتحقيق والمتابعة، خارج قانون السرّية المصرفية وأحكام السرّية المهنية، عوض التفرّغ لإعداد خطط مالية طارئة مثل كافة الدول التي أطلقت دون تردّد مجموعة من الإجراءات الاستثنائية لإنقاذ القطاعات والمؤسّسات والشركات من تداعيات أزمة الكورونا الاقتصادية.
هذه التدابير، من شأنها، أيضاً، أن تُفاقم ظاهرة التعسّف في استعمال الحقّ، كمفهوم قانوني مستحدث في النزاعات الضريبية. وكانت المرحلة السابقة، رصدت ممارسات متطرّفة من قبل وزارة المالية عبر استخدام، تقنية إعادة التوصيف بصورة واسعة وشاملة، بحيث تذرّعت بحقّها اللجوء إلى اعادة توصيف نتائج عمليات تحقيق ضريبي، لإعطائها وعاءً مناسباً، قادراً على مكافحة التهرّب الضريبي. ولكن، في هذا التوجّه، كثير من التوسّع والاستئثار، بحيث، تتحكّم الوزارة بصورة منفردة بالتوصيف، وهي بطبيعتها تقنية تقديرية واستنسابية. وبالفعل، شملت عمليات التوصيف حالات من التهرّب الضريبي الصوري والتهرّب الضريبي القانوني بالشكل، ليطبّق عليها، وصف التهرّب الضريبي، لتتحوّل حالات التخلّف الضريبي العادي إلى جرم التهرّب تحت أحكام مكافحة تبييض الأموال المحدّدة في القانون 2015/44، وهي تتضمّن عقوبة الحبس من ٣ إلى ٧ سنوات بالاضافة إلى رفع السرّية المصرفية.
• تعطيل مبدأ مرور الزمن المسقط
وسعياً لإضفاء شرعية الهتافات الشعبية على الأداء السياسي للحكومة، تخطّى اقتراحها المبادئ القانونية السليمة، وقرّرت توسيع المراحل الزمنية للإجراءات، مرجّحة كفّة التوازنات السياسية الإعتباطية على كفّة القانون، لتشمل الفترة الممتدة من انتهاء الحرب اللبنانية حتّى تاريخه، أيّ ما يزيد عن الثلاثين سنة، غير آبهة بقواعد النظام العام الأمن القانوني.
نسفت استراتيجية محاربة الفساد، باسم الشعب، وبحفلة مزايدات سياسية، المبادئ العامة الحمائية والهادفة إلى خلق الإستقرار في المجتمع، والتي كانت الدافع، لتدخل المشرّع في تحديد التقادم المسقط بعناية فائقة، تناسب نوع الحقّ وطبيعته، وهي مهلة لم تتجاوز العشر سنوات في الدعاوى المدنية.
• تكليف شركات خاصة بإعداد بيانات اللبنانيين المالية
وفي هذا الإطار، نلفت إلى أنّ إضافة المزيد من الصلاحيات الاستنسابية المطلقة لوزارة المالية، ولموظّفيها أو لمن تستخدمهم لغايات التحقيق، هو عامل إضافي يزيد من مخاطر التعسّف والإجحاف الذي عانى منه المواطن اللبناني سنوات طويلة. ويزداد الأمر خطورة مع التلطّي خلف الحيادية، لإرساء ظاهرة إعطاء الشركات الأجنبية المالية الخاصة صلاحيات اجراء مسح شامل لبيانات الأفراد المالية، لما فيه من ضرب شامل لمصداقية المجتمع اللبناني، وإلغاء لمنطق المواطنة وانكشاف لسيادة الدولة المالية.
يعتبر نشر نتائج التحقيقات عبر قاعدة بيانات تلك الشركات ووفقاً لتصنيفات ترتأيها هذه الأخيرة، غير واقع تحت احترام مبدأ الشفافية ومنافٍ للأصول القانونية المعتمدة بموجب قانون الحقّ بالوصول إلى المعلومة، كما أنّ تزويد هذه المؤسّسات بصلاحيات مطلقة تخرق خصوصيات المواطنين اللبنانيين، وهي بطبيعتها شركات خدماتية تجارية تبغى الربح، من قبيل إضفاء حالة عشوائية موّجهة وفوضى منّظمة.
وأكثر أيضاً، فإنّ الخطّة تقترح بدل أتعاب نسبي للشركة على أساس مبالغ الأموال المهرّبة مثل ما ستبرزها هذه الأخيرة ببياناتها، ممّا يثير حتماً، شبهة محقّة وقانونية، حول حيادية وموضوعية وشفافية ومصداقية النتائج الصادرة عنها.
ويبقى أن نشير، إلى أنّ أصول اختيار هذه الشركة غير مذكور، في الخطّة وغير مبني على آليات واضحة، عدا تكليفها مهمّة شبه مستحيلة، للحصول على معلومات عن بيوعات عقارية غير مسجّلة، وعن أسهم غير معلنة في شركات غير محدّدة.
وفي الختام، يبقى العديد من التساؤلات نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
• الأسباب الحقيقية وراء إغفال خطّة مكافحة الفساد والخطّة الاقتصادية للعديد من النواحي، مثل قانون الأموال المادية المنقولة عبر الحدود، والمهام المولجة للجمارك اللبنانية وفقاً لأحكامه وما يرتبط بها من إجراءات ضبط الحدود والمعابر غير الشرعية.
• مصداقية الخطّة الإنقاذية المالية المبنية على أرقام مفترضة غير واقعية لتعذّر الحصول على معلومات عن الأموال المحوّلة للخارج تطبيقاً لقاعدة التعامل بالمثل، حيث إمكانية المباشرة بالتحقيق المالي الدولي ترتبط بشرط الاستحصال المسبق على أحكام قضائية مبرمة، الأمر المستحيل في ظلّ قوانين لا تمنع تحويل الأموال إلى الخارج.
وها هي مجدّداً، ملامح الأيديولوجية الشعبوية تظهر مرتدية عباءة تكنوقراطية متخصّصة، تجيد فنّ الخطاب الصريح، الذي يحاكي “ثورة ١٧ تشرين” برصانة أكاديمية تدغدغ غضب الطبقات الثائرة على نظام الزبائنية الحاكمة.
والملفت، أنّه في عمق مخاض التشكيل الوزاري، نجحت كواليس حكومة الكوتا النسائية، في امتصاص غضب المجموعات المدنية المنظّمة، بطريقة غامضة، تركت علامات استفهام على التداخل والتناغم بين مكوّنات الحراك الأساسية ومطابخ التأليف. وسرعان، ما ساد الساحات صمتٌ غريب، أربك المواطن الحالم بأمل اللحظة المفصلية وحوّل خيم الاعتصام إلى صيدٍ سهل لإبراز سياسة أمنية حازمة.
ويبقى السؤال: هل ستتمكّن هذه الإغراءات الشعبوية، في غفلة الأزمات المشتعلة، من تكرار التاريخ، الذي يمتهن لعبة خنق الأصوات، ليبقي صوت الأمس وحده عالياً وليعيد إنتاج الثورة طائفة جديدة في لبنان؟
*أستاذة محاضرة ورئيسة قسم القانون الخاص في كلّية الحقوق – الجامعة اللبنانية.
“محكمة” – الأحد في 2020/5/3
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.