تداعيات انتشار وباء كورونا على عقود الاستخدام/حسام مرتضى
المحامي حسام مرتضى:
لقد شهد لبنان في القسم الثاني من العام المنصرم إنهياراً اقتصادياً تمثّل بانكشاف عجز الدولة عن سداد ديونها وافتقاد قدرة المصارف عن تلبية سحوبات المودعين بالدولار الأميركي وافتقاد السيولة بتلك العمولات ونشوء سوق موازٍ لها بقيم مرتفعة وغير مسبوقة فضلاً عن وقف التحاويل المصرفية للخارج وتضخم كبير في أسعار السلع، ما أدّى إلى ضرر هائل لحق بقطاعات اقتصادية كبيرة كالصناعيين والتجّار ومقدّمي الخدمات، وإنعكست تداعياتها على عموم المواطنين وأدّت إلى ازدياد حالات إفلاس المؤسّسات وإقفالها وتدنّي الوظائف المعروضة في ضوء الإنكماش الحاصل وتضرّر القطاعات الإقتصادية المختلفة.
للأسف، فقد لحق بالحالة المعروضة إنتشار للوباء العالمي الذي سببه ظهور فيروس Covid19 ما استدعى مجموعة من التدابير الحكومية القاسية وغير المسبوقة في إطار الإستراتيجية الرسمية لمواجهة انتشار Covid19. وقد شملت هذه التدابير التي شابهت الإجراءات المتخذة في معظم دول العالم، اعلان حالة التعبئة العامة وإقفال لمعظم القطاعات الإقتصادية وتقييد لحركة التنقل وتجول المواطنين، فضلاً عن اقفال الحدود البرية والبحرية والمطار، وان كلّ تلك التدابير قد سبّبت شللاً في معظم القطاعات الإقتصادية لا سيّما في قطاع الطيران وشركات السفر والسياحة والبيع والتجزئة للسلع غير الغذائية وقطاعات الخدمات وغيرها.
وعليه، فقد أصبحت استمرارية المؤسّسات الإقتصادية والحفاظ على الجزء القائم من الوظائف مهدّداً أكثر من أي وقت قضى وأصبح جزء كبير من الشعب البناني مهدّداً في لقمة عيشه.
وفي ضوء هذا الواقع القائم، أقدمت الكثير من المؤسّسات الإقتصادية على تخفيض احادي لرواتب العمّال واقدمت مؤسّسات اخرى على وقف وتعليق سداد الاجور واقفال المؤسّسات نتيجة الصعوبات التي تعاني منها وتوقف الحركة الإقتصادية، الأمر الذي يطرح جدّياً مدى قانونية الإجراءات الأحادية التي يمكن ان تتخذها المؤسّسات في ضوء الازمة الراهنة التي تؤثر على عقود الإستخدام وتهدد العمال في لقمة عيشهم.
للإجابة على مدى استجابة تلك الإجراءات الاحادية الواقعية، لمنظومة القوانين المرعية الإجراء ذات صلة، لا بدّ من التأكيد على ان السلطات اللبنانية لم تعمد الى اصدار أي قواعد قانونية جديدة لمواكبة الحالة الإستثنائية المستجدة، اسوة بما قام به الكثير من دول العالم.
فقد أصدرت الحكومة اللبنانية بتاريخ 2020/3/15 القرار رقم /1/ الذي قضى بإعلان حالة التعبئة العامة وتعليق العمل في الشركات والمؤسسات الخاصة والمحلات التجارية على اختلافها ومكاتب اصحاب المهن الحرّة، (مع استثناءات معينة) علماً ان القرار المذكور قد استتبعته الحكومة بعدّة قرارات تعديلية، دون البحث في مصير عقود العمل القائمة في تلك المؤسسات، ودون تحديد الجهة التي تتحمل التداعيات التي يمكن أن تنشأ نتيجة هذا القرار وملحقاته سواء لناحية تحمل الدولة مسؤولياتها في هذا الإطار أو التأكيد على عدم المسّ بعقود الإستخدام القائمة.
لقد اقتصر تدخل الدولة لمنع تلاشي قدرة فريقي الإنتاج فقط على اصدار مصرف لبنان بتاريخ 2020/3/4 التعميم رقم /547/ الذي يتيح للمصارف الإقتراض منه بالدولار حصراً وبفائدة صفر مقابل استعمال المبالغ المقترضة من أجل تأجيل قروض الزبائن وتمكين المؤسسات من تسديد الأكلاف التشغيلية ودفع أجور العاملين فيها بقروض فائدتها صــفــر لمدّة خمس سنوات مهما كان سقف القرض، وبسعر صرف ثابت، علماً ان هذا القرار لم يباشر بتنفيذه حتى تاريخه.
وفي ضوء انكفاء الدولة عن التدخل القانوني في هذه الأزمة الإستثنائية والطارئة، فإن علاقة الإستخدام ترعاها المنظومة القانونية القائمة بالدرجة الأولى أحكام قانون العمل، فضلاً عن بعض أحكام قانون الموجبات والعقود بدرجة ثانية.
فإنّ بعض أصحاب العمل يتمسك بالمادة /624/ من قانون الموجبات والعقود التي تتحدث عن أن الأجر هو مقابل العمل فلا يمكن دفعه إذا لم يؤد العمل، وكذلك المادة /243/ من القانون نفسه والتي تتحدث عن استحالة تنفيذ الموجب يؤدّي الى سقوط الموجب الذي يقابلها.
ولهذا شهدنا الكثير من المؤسسات وأصحاب العمل يمتنعون عن تسديد رواتب وأجور العمال خلال فترة الحجر الصحي، ما فتح الباب أمام كارثة إجتماعية كبيرة.
إنّ الأحكام القانونية الموجبة التطبيق على علاقة الإستخدام هي أحكام قانون العمل التي تتقدم على أي قانون آخر لا سيما قانون الموجبات والعقود باعتباره قانوناً عاماً وسابقاً لقانون العمل الذي يجسد دون سواه الخصوصية التي تطبع علاقة الإستخدام المحاطة بما يسمى النظام العام الإجتماعي.
وبالإستناد الى هذا النظام العام الإجتماعي، فإنّ مفهوم الأجر قد شهد تطوّراً على مدى السنوات، فانتقل من ما يعرف بمفهوم الاجر جزاء العمل الموازي له والمرتبط بقيمته الى مفهوم تلبيته الحق الدستوري للعامل بلقمة عيش توازي متطلبات الحياة الكريمة، ومن هذا المنطلق نشأ ما يعرف بالحدّ الأدنى للأجور.
فأصبح الإرتباط بين تأدية العمل وتسديد الأجر ليس أمراً بنيوياً، فإنّ تسديد الأجر هو مسألة مستقلّة تتعلّق بالنظام العام الإجتماعي وناشئة عن علاقة الاستخدام وليس عن تأدية العمل فعلاً عندما تكون عدم التأدية مردّها ظرفاً استثنائياً طارئاً يشكل قوة قاهرة بكل شروطها ومقاييسها.
فإذا كان موجب صاحب العمل بتسديد الأجر قائماً، وإن الإمتناع عن سداده يتيح للأجير ترك العمل واعتبار ذلك بمثابة صرف على مسؤولية صاحب العمل سنداً للمادة / 75 / من قانون العمل، فان تخفيض اصحاب العمل لرواتب الاجراء بشكل آحادي يصطدم ايضاً بالبطلان الحكمي المنصوص عنه في المادة /59/ من قانون العمل لمخالفته الحقوق المكتسبة للاجراء المتعلقة بالنظام العام الاجتماعي.
فهل أنّ المنظومة القانونية القائمة تتضمن ما يمكن ان يعالج تداعيات الأزمة الراهنة؟
إنّ الفقرة “و” من المادة /50/ من قانون العمل تتضمّن حالة الإنهاء الجماعي لعقود العمل من قبل المؤسسات التي تعاني من ظروف إقتصادية صعبة، فتنص على أنّه:
“يجوز لصاحب العمل إنهاء بعض أو كل عقود العمل الجارية في المؤسسة اذا اقتضت قوة قاهرة أو ظروف إقتصادية أو فنية هذا الإنهاء، كتلقيص حجم المؤسسة أو إستبدال نظام انتاج بآخر أو التوقف نهائياً عن العمل وعلى صاحب العمل ان يبلغ وزارة العمل والشؤون الإجتماعية رغبته في إنهاء تلك العقود قبل شهر من تنفيذه، وعليه أن يتشاور مع الوزارة لوضع برنامج نهائي لذلك الإنهاء تراعى معه أقدمية العمال في المؤسسة واختصاصهم وأعمارهم ووضعهم العائلي والإجتماعي وأخيراً الوسائل اللازمة لإعادة استخدامهم.”
إنّ هذه المادة تثير الملاحظات التالية:
1- إنّها تتحدّث عن إمكانية انهاء جماعي لعقود عمل قائمة نتيجة الأوضاع الإقتصادية، وهي لا تتحدث عن أي آليات يمكن أن تسمح بالحفاظ على عقود الإستخدام القائمة ومساعدة المؤسسة على تجاوز تلك الظروف.
2- إنّ هذه المادة تتضمن الإشارة الى القوّة القاهرة من ضمن الظروف التي يمكن ان تبرر الإنهاء الجماعي لبعض أو كل عقود الإستخدام الجارية في المؤسسة وأن أزمة تفشي وباء كورونا واستطالتها والإفتقاد الرؤيا لسبل حلها في المدى المنظور يتيح إمكانية تطبيق الفقرة المذكورة.
3- إنّ الفقرة “و” من المادة /50/ تشترط التنسيق المسبق مع وزارة العمل قبل فترة شهر من تنفيذ هذا الإنهاء. وإنّ اجتهاد مجالس العمل التحكيمية في لبنان مستقرّ على اعتبار انّ عدم مراعاة هذا الشرط الشكلي يجعل من الإنهاء في حال حصوله انهاءً تعسفياً ولا يراعي أحكام الفقرة المذكورة، علماً ان وزارة العمل، تعمد عادةً الى تعقيد المتطلبات على المؤسسات الراغبة بتطبيق تلك الفقرة من خلال الإصرار على طلب ميزانيات المؤسسة العائدة لثلاث سنوات سابقة وغيرها من الشروط الاضافية وذلك حرصاً منها على عدم استسهال المؤسسات فكرة اللجوء الى تلك الفقرة.
وعــــليـــه، يتبيّن أن شرط التنسيق المسبق مع وزارة العمل (قبل شهر من الإنهاء) وهو شرط غير متاح في ظل الإقفال القسري الحاصل فضلاً عن ان اقتصار أحكام الفقرة “و” من المادة /50/ على إنهاء العقود، يجعل منها قاصرة عن معالجة كافة جوانب الأزمة الراهنة،
الأمر الذي يوجب تدخلاً تشريعياً عمدت إليه الكثير من الدول التي يوجد نقص من منظومتها القانونية، من أجل معالجة تداعيات أزمة مماثلة لازمة تفشي وباء كورونا وتداعياتها على عقود الإستخدام القائمة،
وإنّنا نقترح من وحي الإجراءات المتخذة في دول العالم، ان يتضمن التشريع المقترح القواعد التالية:
أوّلّاً:التأكيد على إستمراية عقود الإستخدام خلال فترة التعبئة العام وعدم امكانية فسخها أو إنهائها خلال هذه الفترة وإعتبار اي إجراء بهذا الخصوص باطل وغير منتج لأي مفاعيل.
ثانياً:التأكيد على وضع الأجراء أنفسهم بتصرف أصحاب العمل ومؤسساتهم خلال تلك الفترة مع إتاحة امكانية تعديل مؤقت لعقود الإستخدام (محدد زمنياً بفترة التعبئة العامة)، يسمح بمراعاة تعديل نظام العمل بما يؤمن إستمراية ويكون ذلك من خلال استحداث نظام العمل من المنزل والعمل من خلال وسائل التواصل التقنية أو من خلال وسائل التواصل التقني أو من خلال نظام المناوبة أو نظام تقليص ساعات العمل، وذلك بحسب مقتضيات العمل في كل مؤسسة على ان يتم تعديل في الأجر متوازي مع التدابير المتخذة استثنائياً وان يعاد العمل وبالحقوق المكتسبة لكل أجير حال انتهاء الأزمة.
ثالثاً: في حال عدم إقدام المؤسسة على أي تعديل في نظام العمل ودخول الإجراء نتيجة ذلك في نظام البطالة التقنية اي ما يعرف بـــ Chomage Technique، تستمر المؤسسات بتسديد جزء من الراتب لا يقل عن /70/% منه كما حددته الكثير من الدول منها السنغال التي أصدرت مرسوماً اشتراعياً بهذا الخصوص على ان يكون امتناع الأجراء مسبقاً عن وضع انفسهم بتصرّف مؤسّساتهم واختيارهم عدم العمل خلال فترة الحظر يؤدّي إلى خسارتهم هذا الجزء التعويض من أجرهم.
رابعاً: استحداث نظام يتعلّق بتعليق دفع إشتراكات الضمان الإجتماعي والضرائب خلال فترة التعبئة العامة، أو الإتاحة للصندوق الوطني للضمان الإجتماعي امكانية استيفاء اشتراكات بقيم أجور مخفضة (في حال تم تخفيضها تبعاً لتخفيض دوام العمل) وحتى امكانية تقسيطها وتأجيل دفع تلك الإشتراكات خلال فترة التعبئة العامة.
أخيراً،
إنّ الحفاظ على استمراية عقود الإستخدام ، هي مسؤولية جماعية تتطلّب المشاركة والتآزر الإجتماعي بين الدولة والمستخدمين وأصحاب العمل، وإنّ تخلّي أو تلكؤ أيّ طرف عن القيام بدوره وواجباته في هذا الخصوص سيؤدّي إلى كارثة إجتماعية لن يسلم أحد من تداعياتها.
“محكمة” – السبت في 2020/4/25