تساؤلات تطفو على سطح التحقيق بانفجار مرفأ بيروت/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
تتعدّد الروايات في مسار السفينة”روسوس” وتخزين البضائع المختلفة الألوان والأشكال والأحجام والأنواع في العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت، والنتيجة لا تزال واحدة: دمارٌ وشهداء وجرحى وأضرار معنوية ومادية ونفسية بانتظار كلمة القضاء!
وبدلاً من إيجاد الإجابات المنطقية والعلمية لكلّ التساؤلات والإستفسارات التي تطرح هنا وهناك ومن غير منبر ولسان عمّا حصل في الرابع من آب 2020، تكثر التحليلات والتسريبات ذات الأهداف السياسية الواضحة، وتصل الأمور بها إلى حدّ استباق نتائج التحقيق الإستنطاقي الفعلي الذي يعوّل عليه لدى المحقّق العدلي القاضي فادي صوّان، وإطلاق الإتهامات جزافاً وإصدار الأحكام المسبقة، مع أنّ الجميع يدرك خطورة هذا الفعل الجرمي بحقّ الوطن والناس، إذ لا يجوز الإتجار بالأرواح والدماء والأرزاق لتحقيق مكاسب سياسية لا تغني عن الحقيقة المرجوة.
من أب التفجير وأمّه؟
ومن البديهي أن يكون هناك أب وأمّ لهذا التفجير، أيّ فاعل ومخطّط ومساهم وشريك بطريقة ما ولو من جهة التقصير وقلّة التدبير وهما أضعف الإيمان في هذه القضيّة الوطنية الحسّاسة، خصوصاً وأنّ مساحة كبيرة من المرفأ أبيدت وسويت بالأرض وهو يشكّل أحد أعمدة الإقتصاد الوطني المنهار أساساً، ويكفي أن نذكر أنّ أرباح الدولة اللبنانية من المرفأ في العام 2017 وصلت إلى 124 مليون دولار أميركي لنعرف حجم الخسارة الإقتصادية الفظيعة التي مني بها لبنان وهذا الرقم المالي صادر عن رئيس الهيئة الإدارية المؤقّتة للمرفأ حسن قريطم وموثّق قضائياً.
ولا بدّ من أن يسعى التحقيق إلى العثور على أجوبة منطقية للكثير من الأسئلة المطروحة ومن دون مواربة والتفاف وتضييع البوصلة، وهي أسئلة شفّافة قد تمهد الطريق لكشف الكثير من الغموض الموجود في بعض نواحي كيفية وقوع الإنفجار الأكبر في العالم في القرن الواحد والعشرين.
فالسفينة “روسوس” وصلت إلى مرفأ بيروت من دون أن تقدم قوّات “اليونيفيل” الرابضة في عرض البحر بعلم ألماني، على تفتيشها، فعبرت بسلام واطمئنان مثلما عبرت الباخرة “لطف الله2” بمخزونها من الأسلحة المتنوّعة العيارات والأحجام. فلماذا استثنت “اليونيفيل” السفينة “روسوس” من التفتيش والتدقيق في حمولتها البالغة 2755.5 طناً من “نترات الأمونيوم”؟ وكيف سمحت لها أن تصل إلى مرفأ بيروت ولم تقدم على ضبطها ومصادرتها أم أنّها لم تدقّق ملياً فيها وهي تدرك جيّداً أنّها بضاعة غير مرغوب فيها لخطورتها؟ وهل يعقل ألاّ تكون قد اكتشفت نوعية الحمولة ولم تعرف مدى خطورتها؟!
وهل تمّت مراجعة “اليونيفيل” في مسألة غضّ النظر عن هذه الحمولة الكبيرة على سفينة هي في الأصل يفترض ألاّ تصل سعتها إلى أكثر من 1900 طن من الحمولة؟ وما دام وزن الحمولة يفوق السعة الفعلية للباخرة فكيف وصلت إلى مرفأ بيروت وهي التي رست سابقاً في تركيا واليونان ولم يجر توجيه أيّ إنذار لها من السلطات المسؤولة في ميناءي هاتين الدولتين؟ ولماذا سمح مرفأ بيروت لها بمحاولة تحميل المزيد من الحمولة وهي في الأساس غارقة في حمولة ثقيلة؟ وهل كانت المعدّات المنوي تحميلها حيلة لئلاً نقول كذبة لكي يبقى “تبليص” السفينة في مرفأ بيروت على أمل اغتنام الفرصة المناسبة لما يدور في الغرف المغلقة من محادثات واتصالات ومفاوضات لتفريغ “نترات الأمونيوم” والتخلّص منها تدريجياً؟
واللافت للنظر أنّ من بين مهام “اليونيفيل” بموجب قرار مجلس الأمن الرقم ١٧٠١ الصادر في ١١ آب ٢٠٠٦، “مساعدة حكومة لبنان، بناء على طلبها، في تأمين حدودها وغيرها من نقاط الدخول لمنع دخول الأسلحة أو الأعتدة ذات الصلة إلى لبنان دون موافقته.”
فهل غفل عن “اليونيفيل” هذا البند الواضح في مهامها، أم أنّها وافقت على دخول”روسوس” من إحدى نقاط الدخول إلى لبنان وهو البحر، بعدما استلمت موافقة الحكومة اللبنانية. فالفقرة المذكورة تتحدّث عن عدم إمكانية دخول الأسلحة والأعتدة إلى لبنان دون موافقة حكومته، فهل”نترات الأمونيوم” لا تدخل ضمن تصنيف” الأسلحة والأعتدة”؟!
أين هي مسروقات النترات؟
وللمرّة الأولى قد يشكر اللبنانيون عصابة اللصوص التي سطت في وضح النهار أو تحت جناح الظلام، على كمّيات من”نترات الأمونيوم” المكدّسة في العنبر رقم 12، وإلاّ لاتسعت رقعة الدمار وتمدّدت وأوقعت المزيد من الضحايا والأضرار والدمار، ولذلك فإنّ السؤال الجوهري كيف سرقت أو “تبخّرت” كمّيات غير محدّدة من “نترات الأمونيوم” من هذا العنبر”المفشكل” من دون أن ينتبه أحد من المعنيين في إدارة المرفأ وفي الأجهزة الأمنية المتصارعة بين بعضها بعضاً للمكوث في المرفأ وإنْ اختلفت وظائفها؟ وهذه السرقة لا تعفي أيّ جهاز من التحرّك لمعرفة السارق أو العصابة برمّتها ولو بعد حين، خصوصاً وأنّنا كثيراً ما نقرأ بيانات صادرة عن هذه الأجهزة تتعلّق بتوقيفات هنا وملاحقات هناك لأشخاص معيّنين عند ارتكابهم جرائم لا تدخل في الأصل ضمن اختصاصها الوظيفي. فهل غافلها سارق “نترات الأمونيوم”؟ وكيف أخرجها من المرفأ؟ ولمن باعها؟ وكيف تصرّف بها؟ ومن الشاري؟ ولماذا أرادها واشتراها؟ وأين اختفت؟
تقاذف اتهامات
ومن روايات التفلّت من المسؤولية في التحقيق أنّ الموقوفين باختلاف أدوارهم ومسؤولياتهم ومراكزهم، يتقاذفون كرة نار التخفّف من المسؤولية التقصيرية على أقلّ تقدير، ويلقون الاتهامات على بعضهم بعضاً، ممّا يؤكّد وجود فوضى عارمة في المرفأ كانت غائبة عن السلطة السياسية في كلّ العهود، أو أنّ هذه السلطة أرادتها على هذه الحال من الفوضى والإهمال والعشوائية والتشرذم من أجل المزيد من أعمال الفساد والإفساد.
والعنبر رقم 12 هو معمل متنقّل للمتفجّرات، وصورة مصغّرة عن هذه الفوضى الجامحة، فالبضائع “مخلوطة” وعبارة عن ثياب، وأحذية، ومواد “ديزل”، وزيوت، وفتائل تفجير، وكيروسين وهو سائل هيدروكربوني نفطي قابل للإشتعال ويستخدم كوقود للطائرات والأفران والتدفئة، بالإضافة إلى “نترات أمونيوم” تختلف مواصفاتها عن تلك المسموح بإدخالها إلى لبنان لاستعمالها كسماد زراعي أو للتفجير في المقالع والكسّارات.
وقد تفاعلت هذه النترات مع مواد أخرى قابلة للإشتعال موضوعة كيفما اتفق في العنبر، فتولّد الإنفجار الزلزالي الكبير الذي جعل تصنيفه الثالث في العالم بعد القنبلتين الذرّيتين الملقتين من طائرتين أميركيتين على مدينتي “هيروشيما” و”ناكازاكي” اليابانيتين في 6 و9 آب من العام 1945.
ويسوّق بعضهم روايات عن تلحيم باب العنبر رقم 12 وتعطّل قفل الباب في محاولة لاعتبار الحدّادين الثلاثة هم الجناة وإغفال الأسباب الفعلية لسفينة نقل الموت “روسوس” والإصرار على الرسو في مرفأ بيروت وتفريغ الحمولة بشتّى الطرق والألاعيب والإلتفاف على القانون ولو بعد سبعة شهور من الحلول بسلام وأمان في بحر بيروت.
رواية غير مقنعة
ومن الروايات الضعيفة وغير المسندة وغير المقنعة أنّ الحدّادين عندموا وصلوا إلى العنبر رقم 12 وجدوا أنّ الصدأ عطّل قفل الباب فحال دون فتحه بسهولة، لأنّها تعني أنّه لم يجر إدخال أيّ بضاعة إلى هذا العنبر منذ فترة طويلة، بينما العكس هو الصحيح إذ كان يجري تخزين بضائع مختلفة في هذا العنبر، فكيف يكون الصدأ قد سيطر على القفل؟ وهل يعقل أنّ تفريغ البضائع في العنبر كان يتمّ من دون استخدام هذا الباب المعطّل القفل؟
إنّ رواية القفل المعطّل بفعل الصدأ غير جديرة بالتوقّف عندها وهي واحدة من الروايات الكثيرة التي يتمّ تأليفها لمزيد من الغموض و”تضييع الشنكاش” كما يقال في العامية في سبيل الإشارة إلى تقاذف الروايات والقصص والإتهامات بين المعنيين بالمرفأ، وهذا ما يفعله بعض المدعى عليهم الموقوفين.
ولكن مهلاً، فالمعلومات الأمنية والقضائية تقول بشكل جازم بأنّ أعمال التلحيم انتهت في 30 تموز 2020 أيّ قبل خمسة أيّام من وقوع الإنفجار، ولا يعقل أن تكون شرارات هذا التلحيم بقيت مشتعلة طوال هذه الفترة الزمنية من دون أن تنطفئ، ومن دون أن يراها أحد، ومن دون أن يشتمّ رائحتها أحد.
الإنفجار أكبر من تلحيم باب وآثار عمل حدّادين. إذن الحقيقة في مكان آخر. فلننتظر التحقيق القضائي لا التسريبات الأمنية التي تسعى دوماً وفي الكثير من الملفّات، إلى استباق كلمة القضاء، وكأنّ القضاء يعمل لديها، بينما هي ضابطة عدلية وجدت لمساعدة القضاء المؤتمن وحده في دول السيادة والنظام، على إحقاق الحقّ.
“محكمة” – الأحد في 2020/8/30