تساؤلات مشروعة على هامش ذكرى تفجير المرفأ/غسان بيضون
غسّان بيضون*:
لا شكّ بأن حقّ عائلات شهداء تفجير المرفأ بمعرفة حقيقة “قاتل” أبنائهم وأهلهم هو مقدّس، وكذلك في محاسبة الوزراء ورؤساء الأجهزة المعنيين ونيلهم ما يستحقّون عن “مسؤولياتهم التقصيرية” من عقوبات تتناسب مع درجة تلك المسؤولية وتصدر بموجب أحكام قضائية عادلة؛ غير أنّ هناك ما يستدعي الملاحظة في سياق الأحداث والوقائع التي سبقت وقوع الانفجار بأيّام أو ساعات أو دقائق قليلة يصعب أن تجتمع معًا بالصدفة، لا بل أنّها تبدو أقرب إلى التدبير بقصد التمويه عن الفاعل الحقيقي، ووضع رئيسي الحكومة والجمهورية موضع شبهة واتهام بالتقصير، فيما الإهمال المتمادي استمرّ لسنوات وقد ساهم القضاء نفسه فيه من خلال القرار الذي أدّى إلى الإبقاء على “الحالة القائمة” في العنبر رقم 12 أو على الأقلّ شكّل عقبة أعاقت تصرّف الوزراء وغيرهم من المسؤولين، بحجّة حفظ المال العام، بحيث اكتملت خلال هذه السنوات “عملية” تجميع العناصر الجرمية “المتمّمة” إلى جوار كمّية النيترات وتوفير شروط التفجير المدمّر الذي وقع في 4/ آب 2020. وكان يمكن أن يقع فبل ذلك، لاسيّما خلال احتفالات عيد الاستقلال التي تجري في موقع قريب قبالة المرفأ.
أمّا بالنسبة لاستدعاء بعض الوزراء والمسؤولين الأمنيين المعنيين بالإشراف والوصاية والرقابة على مختلف أنشطة المرفأ وأمنه، فيبدو “انتقائيًا” وكأنّه بقصد التحريض على إثارة جوّ اعتراضي “شعبي” يضع مجموعات معيّنة موضع الاتهام في التسبّب باضطرابات ومواجهات في المقابل، يمكن أن لا تحمد عقباها، وكذلك الأمر بالنسبة للحملة على النوّاب الموقّعين على طلب إحالة ملفّ انفجار مرفأ بيروت إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، والتي يبدو أنّها تهدف إلى إحراج نوّاب “الأكثرية” لإخراجهم و”إسقاطهم” معنويًا، بعد ما اتسمت صورتهم، بالإجمال، بالفساد والعجز عن إيجاد الحلول للأزمة الاقتصادية المالية المستفحلة، وبعد فشل محاولة فرض الانتخابات المبكرة لعدم استقالة باقي الداعين لها من غير الدفعة الأولى من النوّاب المستقيلين>
هذا فضلاً عن “اجتماع” مفارقات عديدة تستدعي التساؤل حول تزامنها. وهي تتعلّق بـ:
• توقيت الانفجار في لحظة حرجة من زمن الحصار المفروض على لبنان، تؤدّي إلى تشديد الخناق على الاقتصاد والحركة التجارية والتضييق على تأمين حاجات البلاد من المستوردات الحياتية.
• توقيت إبلاغ رئيسي الجمهورية والحكومة بمخاطر المواد، بعد انقضاء سنوات على وجودها، وقبل أيّام قليلة من حصول الانفجار.
• توقيت إقناع رئيس الحكومة بالعدول عن زيارة المرفأ قبل ساعات من وقت حصولها المفترض.
• توقيت عملية التلحيم قبل دقائق من الانفجار، دون إهمال احتمال أن يكون نوعًا من “الإخراج الجنائي” بقصد التمويه والتغطية على حقيقة سبب وأداة التفجير والفاعل.
• توقيت دعوة قاضي التحقيق بعض الوزراء، إضافة لرؤساء أجهزة وقيادات أمنية، دون غيرهم للتحقيق، قبل أيّام من ذكرى تفجير المرفأ.
وهناك سؤال أساسي يقتضي الإجابة عليه قبل كلّ ذلك، وهو كيف وصلت ودخلت الباخرة إلى المرفأ، أصلًا، بالرغم من الرقابة الإسرائيلية والدولية المُحكمة على السفن المتجهة إلى مختلف مرافئه ونوعية حمولتها، على طول الساحل اللبناني؟
إذا كان تبرير عدم الاعتراض على دخول باخرة “نيترات الأمونيوم” هو أنّها مواد تستخدم في الزراعة مثلًا، وأنّها بذاتها غير قابلة للانفجار بدون صاعق مثل الديناميت الذي يستخدم معها، عادةً، لتفجير الصخور، فلربّما يكون التخطيط للجريمة قد بدأ من هنا. وإذا كان هذا هو التبرير، فإنّ ذلك يفتح المجال لطرح السؤال الثاني وهو:
أمّا وقد أدّى القرار القضائي بالحجز على الباخرة وحمولتها إلى تفييد أيّ تصرّف إداري بحمولتها وحال دون إمكانية نقلها أو تحريكها، فهل أنّ هذا القرار كان عفويًا وطبيعيًا، وكذلك بقاؤه ساريًا ليحول دون تمكين الوزراء وغيرهم من التصرّف بها وبشأنها؟
والسؤال الثالث هو: من وضع المواد الأخرى التي يمكن أن تساعد أو تزخّم انفجار “نيترات الأمونيوم” بجوارها، والتي نقل عن خبراء، وبينّت الفيديوهات، أنّها أدّت معًا إلى ذلك الانفجار المتدرّج والهائل، ومن وضعها ولماذا يستبعدون احتمال قصفها بصاروخ، بالرغم من سماع الكثيرين، من الشهود وغيرهم من الناس العاديين، صوت صاروخ سبق الانفجار؟
إنّ تدخّل الوزير، أيّ وزير، بشأن النيترات كان مقيّدًا بالقرار القضائي والحدّ الأقصى لمسؤولية الوزير هي عن التقصير، ويسبقه في ذلك إهمال الموظّفين التابعين للجمارك وإدارة المرفأ وغيرهم من المفارز الأمنية المتواجدة مباشرة في المرفأ، ممن ألفوا مشهد العنبر ١٢ المفتوح وواقعه بما فيه الفوضى وتخزين عدّة أنواع من المواد القابلة للإحتراق والإشتعال، جنبًا إلى جنب مع النيترات، ويفترض أن يكون الخطر واضحًا بالنسبة إليهم.
إنّ التحقيق يجب أن يراعي احتمال وجود جهة داخلية ذات مخيّلة إجرامية كانت تدرك مخاطر اجتماع هكذا مواد في مكان واحد وكانت تتابع اكتمال تجميعها وتنتظر ساعة الصفر لتنفيذ عملية التفجير واستثماره في لحظة سياسية معيّنة،
وأخيراً، ما سرّ إبلاغ الرئاسات بالوضع الخطير لوجود المواد قبل التفجير بأيّام قليلة؟
ولِمَ التركيز على الوزراء والقادة الأمنيين قبل حسم كيفية حصول أو ارتكاب جريمة الانفجار “تقنيًا وعلميًا، وأسبابه، وهل هو بغاية الإستثمار السياسي، ولماذا امتنعت الدول المعنية بالصور الجويّة عن تسليم الدولة اللبنانية ما طلبته منها، ولمصلحة من كان استثمار نتائج انفجار المرفأ؟
برأيي، إنّ أسرار تفجير مرفأ بيروت كامنة في “توقيت” أكثر من واقعة وحدث وتزامنه مع ظروف سياسية وأزمة غير عاديّة، والتحقيق يجب أن يراعيها كأحد السيناريوهات المحتملة، دون إغفال حقيقة تعدّد أجهزة المخابرات الخارجية الفاعلة في لبنان وإمكانية خرقها للأجهزة الداخلية على مختلف مستوياتها، وأنّ الطريقة الفضلى لإحداث الإنقلاب في الأوضاع السياسية لطالما كانت بالتفجير الأمني والإغتيالات، التي لم تنكشف حقيقتها الكاملة والحاسمة يومًا!
*مدير عام الاستثمار السابق في وزارة الطاقة والمياه.
“محكمة” – الأربعاء في 2021/7/28