تطوّر الحقوق المدنية والسياسية قبل الإعلانات والعهود الدولية/محمّد مشيك
الدكتور محمّد فيّاض مشيك*:
تطوّرت حقوق الإنسان من مبادئ حضاريّة وفلسفيّة ودينيّة، اعتُبرت مصدراً فكرياً واسعاً، حيث إنّها فُصّلت بعد تبلورها الحديث، في إعلانات ومواثيق وعهود دوليّة تُعنى بحقوق الإنسان. فمفهوم هذه الحقوق يُشكّل ميداناً خصباً يحاكي طبيعة البشر الإنسانيّة.
تتمثّل حقوق الجيل الأوّل بالحقوق المدنيّة والسياسية، وتُعدّ هذه الفئة إحدى الفئات الحقوقيّة المرتبطة بالإنسان. وقد أولى المجتمع الغربي بشكلٍ عام إهتماماً كبيراً فيها، حيث وضعت المعايير لتطبيقها كونها لا تحتاج إلى موارد كثيرة لإعمال حقوق الجيل الأوّل.
أوّلاً: تعريف حقوق الجيل الأوّل
الحقوق المدنيّة droits civils، تعرّف بأنّها تلك “الحقوق الملازمة للشخص باعتباره عضواً في المجتمع الإنساني”. فالأجانب يشتركون في هذه الحقوق مع بعض المواطنين في البلد من دون تمييز، فهي “تسري على الملأ ولا يجوز التنازل عنها أو التعامل أو الاتجار بها. وتتضمّن الحقوق المدنيّة عدداً محدداً من الحقوق التي تخصّ الإنسان على وجه شخصي، وهي تتعلّق بكرامته. وتقسّم إلى قسمين:
1 – الحقوق الفرديّة: كالحقّ في الحياة والسلامة الجسديّة، حريّة التفكير، حريّة الرأي والتعبير، حريّة الدين، حريّة التجمّع، حريّة التنقّل.
2 – الحقوق الجماعيّة: الحقّ في تقرير المصير، حقّ الشعوب في التمتّع والتصرّف بثرواتها.
الحقوق السياسيّة droits politiques، غالباً ما تتعلّق هذه الحقوق، في كيفية مساهمة الشخص في مراقبة الحكم القائم ومحاسبته. وكذلك في “حقّ المساهمة في إدارة شؤون الحكم في بلده”. وهذه الحقوق تقتصر على المواطنين فقط من دون الأجانب على أرض الوطن. ويمكن تعريفها أيضاً، أنّها ” سلطات تسمح لصاحبها بالمشاركة في حكم بلده، فمنها مثلاً حقّ الاقتراع السياسي (الانتخاب) والحقّ في تولّي الوظائف العامّة، ولا يتمتّع جميع الأفراد بهذه الحقوق، فهي تقتصر كقاعدة عامّة، على الوطنيين الذين يقرّر لهم الدستور والقانون التمتّع بها واستعمالها”. وتتميّز هذه الحقوق بميزتين:
1 – الميزة الأولى: في كونها فورية التطبيق، ولا يمكن تأجيلها، خصوصاً أنّها تتعلّق بالأفراد مباشرةً.
2 – الميزة الثانية: هي من الحقوق السلبية والتي لا تتطلّب تكاليف عالية من الدولة من أجل تطبيقها.
إلاّ أنّه لإعمال الحقوق المدنيّة والسياسيّة، بجودة لا بدّ من العمل على تطبيق حقوق الجيل الثاني، نظراً لما لها من تأثير في هذه الحقوق.
كان للتقدّم الذي طرأ على المجتمعات الغربيّة، من مختلف جوانبها السياسية والحقوقيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، دور بارز في ﺁثاره الايجابيّة على مسيرة حقوق الإنسان، حيث إنّه في بدايته كان مع بعض الحقوق السياسيّة. من هنا، تبرز أهميّة الحقوق، في النّص عليها وتأكيدها في الإعلانات الحقوقيّة، والنصوص الدستوريّة، أو القيمة الدستوريّة ذاتها الّتي بدأت تظهر في المجتمع الإنكليزي.
ثانياً: في إنكلترا
إنكلترا هي إحدى أهمّ أنظمة الحكم المَلكيّة التي لا تزال إلى يومنا هذا، إلاّ أنّ مسيرة الحقوق فيها أخذت سُبلاً معيّنة حتّى وصلت إلى ما هي عليه اليوم. فتتميّز بأنّها أولى الدول التي صدرت فيها الإعلانات الحقوقيّة.
كانت إنكلترا ومنذ العصور الوسطى تحكمها أعراف وتقاليد (إنّ الفترة الزمنيّة للعصور الوسطى، قد امتدّت من القرن السّادس إلى القرن الخامس عشر للميلاد)، فالفرد في المجتمع وُضِعَتْ له حقوق حيث إنّها استُعملت كوسيلة لإضعاف السّلطات الحاكمة والحدّ من السّلطة الزمنيّة للملك، إذا دعت الحاجة إلى وضع إعلان وثيقة “الماكنا كارتا Magna Carta” عام (1215 م.)، التي منحت حقوقاً للأفراد.
ونرى أنّ هذه الوثيقة قد قيّدت سلطة الملك، فأصبح القانون موجّهاً لصلاحيّاته، فبدأت حريّة الأفراد تظهر مع هذه الوثيقة.
كانت سلطات الملك واسعة جدّاً، وكان وضع حقوق الإنسان يخضع لسلطة الملك المطلقة، فكان لا بدّ من وضع إعلان حقوقي يُعزّز وضع السكّان، والاعتراف بحقوقهم. وكان ذلك في صدور إعلان الماكنا كارتا (الإعلان جاء تحت ضغط الإقطاع المتمثّل بالنبلاء الّذين ألزموا الملك بموافقة الشعب على الضريبة، أيّ بموافقتهم لأنّهم كانوا الممثّلين الوحيدين للمجتمع السياسي في وجه الملك). حيث احتوت هذه الوثيقة على موادّ تتعلّق بحريّات الشعب الإنكليزي ومنها المدنيّة والسياسيّة.
ويرى الفقيه الدستوري إدمون ربّاط، أنّ هذا الإعلان احتوى على قيود وحقوق وما بينهما قد حقّقت الضمانات المطلوبة.
لقد أسّست وثيقة “الماكنا كارتا Magna Carta”، لجيلٍ جديد من الإعلانات الحقوقيّة، التي اكتملت وتطوّرت، حتّى اعتبرت أولى الوثائق الحقوقيّة المهمّة، ومصدراً للحريّات وأساساً للقانون العام الإنكليزي. فأضحت الماكنا كارتا نموذجاً احتذت به الوثائق كافة التي صدرت لاحقاً (فقد صدرت في سنة (1628 م.) في ما يسمّى عريضة الحقوق، وفي سنة (1679 م.) قانون الهابياس كوربس).
وفي أواخر (1689م.)، صدرت شرعة الحقوق الإنكليزية المعروفة باسم (Bill of Rights) (قائمة الحقوق). وهي نصّ رئيسي في تاريخ بريطانيا العظمى. فالإعلان تمّ فرضه على ماريا الثانية وغليوم الثالث قبل أن يتمّ تنصيبهما على الترتيب ملكة وملكاً لإنكلترا في السادس عشر من حزيران سنة (1689 م.) ويمثّل اتفاقاً مكتوباً بين الشعب والحاكم. ويحتوي النصّ على سلسلة من المواد التي تضع المبادئ للقانون منذ القاعدة الأولى التي يتمّ فيها النصّ على أنّ الملك نفسه يجب أن يخضع للقانون. ويتمّ فيه الاعتراف للشعب الإنكليزي بحقّ الالتماس وحقّ التصويت والحرّيات الشخصية والضمانات القضائيّة. حيث إنّ عنوان الشرعة هو (قانون يعلن حقوق وحريّات الرعيّة ويحدّد انتقال التاج). إذ تضمّنت تدابير عدّة تهدف إلى منع الملوك من القيام بتصرّفات سيّئة، ولو بالقدر القليل الباقي لهم من صلاحيات.
ويرى الدكتور مصطفى العوجي، أنّ الأسباب الّتي أوصلت إلى إيجاد هذه الشّرعة، هي عمل أعضاء البرلمان وتطلّعهم لحماية حقوق المواطنين وتعزيز موقعهم بوجه السلطة.
هناك تفاوت في الأسباب الدافعة إلى وضع هذه الشّرائع، فمنذ القرن الحادي عشر ظهر صراع بين الملكيّة ونفوذها، وبين ممثّلي الشّعب ومطالبهم بتقليص صلاحيات الملك. حيث إنّ النبلاء اعتبروا أنفسهم ممثّلين للشعب لتعزيز موقفهم بوجه السّلطة الملكية، في حين أنّهم كانوا أكثر استبداداً منه. فنتج عن هذا الصراع بشكلٍ أو بآخر تطوّر تدريجيّ على الصعيد الحقوقي.
ومع تتابع عمليات التطوّر على الصعيد الحقوقي في بريطانيا، بدأ هذا التقدّم يُلهم غيرها من الدول، وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة الأميركيّة المستقلّة حديثاً عن التاج البريطاني.
ثالثاً: في الولايات المتحدة الأميركيّة
إنتقلت مسيرة تقدّم حقوق الإنسان من إنكلترا إلى الولايات المتحدة الأميركيّة، نتيجة نشر التقاليد القانونية البريطانية، والعناصر التاريخية والفكرية الخاصة بها، فتميّزت الولايات المتحدة الأميركيّة بأنّها أولى الدول التي صدر عنها دستور وضعي مكتوب، مع ذلك فإنّ هذا الدستور أُلحق به الوثيقة الدستوريّة أو ما يُعرف بالتعديلات العشرة الأولى، فكانت المساهمة الكبيرة للولايات المتّحدة الأميركيّة، في مجال توسيع فكرة حقوق الإنسان والحريّات الفرديّة.
بدأت إعلانات الحقوق في الظهور في أميركا تباعاً، خاصّةً مع الحركة التحرّريّة الّتي بدأت ضدّ الاحتلال الانكليزي، فتشكّلت هذه الإعلانات على شكل مبادئ لمواجهة الدولة المستعمرة ولتعاون المستعمرات في ما بينها.
وبعد تحرّر المستعمرات الثلاث عشرة من إنكلترا، وإعلان الاستقلال (Declaration of Independence) سنة (1776م.) (أحياناً تنتج أشياء عظيمة عن تنقيح الكتابة تحت الضّغط. كتب توماس جيفرسون في مسودّته الأولى لإعلان الاستقلال الّتي أعدّها في منتصف حزيران من سنة (1776 م.)، يقول: “نحن نعتبر هذه الحقائق من المقدّسات التي لا مجال لإنكارها؛ إنّ جميع النّاس خُلقوا متساوين ومستقلّين، وإنّهم يستمدّون من هذا الخلق المتساوي حقوقاً متأصّلة ثابتة، من بين حقّ حماية الحياة والحريّة والسعي وراء السعادة”. وبفضل التنقيحات الّتي أجراها جيفرسون بنفسه في المقام الأوّل، تخلّصت عبارته من عيوبها لتتحوّل إلى عبارة أوضح تتّسم بنبرات واضحة رنّانة: “نحن نؤمن بأنّ الحقائق اﻵتية من البديهيّات، وهي أنّ جميع البشر قد خُلقوا متساوين، وأنّ خالقهم قد حباهم بحقوق معيّنة لا يمكن انتزاعها، من بين هذه الحقوق حقّ الحياة والحريّة والسعي لتحقيق السّعادة”. وبهذه الجملة الواحدة حوّل جفرسون وثيقة من الوثائق الّتي كانت سائدة في القرن الثّامن عشر بشأن المظالم السياسيّة إلى إعلان دائم لحقوق الإنسان.
وصدور إعلان فرجينيا (Virginia Declaration) سنة (1777م.) (سبق في مشروع إعلان اقترح في بوسطن في 20 تشرين الثّاني سنة 1772 م.)، خلال اجتماع أقيم بين جيمس أوتيس وصموئيل ﺁدم، أكّد على أنّ الحريّة السياسيّة والحركات الفرديّة هما من الحركة والمنبع ذاته. وكذلك الحال في عريضة الحقوق وفي صكّ الحقوق البريطانيّة. أصبح الاتجاه العام ينصبّ في حماية حقوق الإنسان الأساسيّة وضمانها.
ولا ننسى أنّ الوضع الحقوقي في الولايات الأميركيّة، كان صعباً جداً، من ناحية السكان الأصليين (الهنود الحمر)، الذين عانوا من إبادة عرقهم. وكذلك بالنسبة إلى المواطنين السود، وأيضاً بالنسبة إلى المرأة وحقوقها.
لكن سرعان ما بدأ السكّان يحصلون على أوضاع حقوقيّة أفضل، وكان ذلك على فترات متباعدة، فقد استمرّ الاضطهاد العنصري في الولايات المتحدة الأميركيّة حتّى ستينيات القرن الماضي. وقد تعرّض الدستور الأميركي منذ صدوره إلى العديد من التعديلات (بلغ مجموع التعديلات (27) تعديلاً، ﺁخرها تمّت المصادقة عليه في 7/ أيّار/1992)، أهمّها التعديلات العشرة الأول، حيث سمّيت بإعلان الحقوق (Declaration of Rights)” أو “وثيقة الحقوق (The Bill of Rights)”، وتضمّنت التأكيد على حقوق الدول المتّحدة بوجه السّلطة الاتحادية. حيث تمّ إقرارها سنة (1791 م.)، وإلحاقها بالدستور الأميركي بعد تعديله. وتناول التعديل الأوّل حريّة الدين والتعبير عن الرأي، والصحافة وحقّ الاجتماع. وأمّا التعديل الثالث فقد تناول حرمة المنزل. والتعديل الرابع تناول مذكّرات التفتيش والاعتقال، والتعديل الخامس تناول الحقوق في القضايا الجزائيّة، والتعديل السادس تناول الحقّ في محاكمة عادلة، والتعديل السابع تناول حقوق المدّعين في القضايا المدنيّة، والتعديل الثامن تناول الكفالات والغرامات والعقوبات، والتعديل التاسع تناول الحقوق التي يحتفظ بها الشعب، والتعديل العاشر تناول السلطات التي تحتفظ بها الولايات والشعب.
أصبحت التعديلات العشرة الأولى مصدراً مُلهماً للسلطة القضائيّة، حيث إنّ إعلان الاستقلال في أميركا، تميّز عمّا سبقه في إطلاقيته الإنسانيّة المبدئيّة، فلم يترددّ البعض في اعتبار أنّ الإعلان يعلو الدستور قوةً وشأناً، خاصّةً مع ما يشكّل من مصدر تشريعي قيّم.
لم يكن الباعث الأساسي للحركة التحرّريّة في الولايات الأميركيّة إقرار الحقوق والحريّات لمواطني هذه الولايات، وإنّما كان في مواجهة المستعمر وضرائبه الّتي فُرضت على الولايات.
ومع تتابع الأسس التي أطلقت العِنان لتحصين وضمان حقوق الإنسان في الولايات المتحدة الأميركيّة، واختلافها بين ولاية وأخرى، كانت تحصل في فرنسا ثورة (عُرفت بالثورة الفرنسيّة).
رابعاً: في فرنسا
إنّ موقع فرنسا من حيث تراتبيّة صدور الإعلانات الحقوقيّة، أتى بعد بريطانيا والولايات المتحدة الأميركيّة.
ويعتبر بعضهم، نظراً إلى شهرة إعلان فرجينيا الذي سبق الثورة الفرنسية، أنّه من المؤكّد وجود تأثير كبير على إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي في الإعداد كما في الصياغة.
وفي كانون الثّاني من سنة (1789 م.)- قبل اقتحام سجن “الباستيل Bastille” بأشهر عدّة، أعدّ الماركيز دي لافاييت ” Marquis de Lafayette”– المحارب في حرب الاستقلال الأميركيّة وهو رجل دين وسياسي شغل منصب وزير العدل في عهد لويس السادس عشر والمكتب السادس- الإعلان الفرنسي، بمساعدة صديقه جيفرسون ” Jefferson” على الأرجح (ومع سقوط سجن الباستيل في الرابع عشر من تموز/ يوليو واندلاع الثّورة الفرنسيّة بقوّة، اكتسبت المطالبة بإعلان رسمي قوّة دفع كبيرة. ومع جهود لافاييت Lafayette”” المضنية في صياغة الوثيقة، فإنّ أحداً لم يستطع إخراجها على الوجه الّذي قدّمها جيفرسون “Jefferson” للكونغرس الأميركي.
وبعدما فُتح الباب لمناقشة الإعلان الذي صاغته لجنة مؤلّفة من أربعين نائباً، وقد كان هناك جدال كبير، لذا أقرّت المواد الّتي أجيزت وثمّ اعتبارها إعلان حقوق الإنسان والمواطن.
ذلك الإعلان الذي صدر سنة (1789 م.)، وسُمّي بإعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي، تضمّن العديد من الحقوق الأساسيّة، وقد وُضع كمقدّمة لدستور (1791 م.)، وعزم أعضاء الجمعيّة الوطنيّة الفرنسيّة، على إيجاد إعلان يضمن الحقوق الطبيعيّة للإنسان باعتبارها مقدّسة، لأسباب تتعلّق بالجهل أو بالنسيان أو بالاحتقار لحقوق الإنسان، فهي الأسباب الوحيدة للمضايقات العامة وفساد الحكومات.
نقلت الثورة الفرنسيّة حقوق الإنسان في فرنسا، إلى مرحلةٍ جديدة، نشرت المساواة المدنية بين الفرنسيين، عن طريق قمع امتيازات النبلاء حيث إنّ البورجوازية جعلت من الثورة، مصمّمَة أساساً للحفاظ على هذه المساواة. ثمّ إنّ ممثّلي الشعب الفرنسي اعتبروا أيضاً أنّ إعمال حقوق الإنسان له ﺁثار كبيرة على الصعيديْن السياسي والاجتماعي.
إنّ الحرّية الفرنسية جعلت بصماتها على مختارات حقوق الإنسان، في حين أنّ بعض مفكِّريها الذين تأثّروا إيديولوجياً “تلقّوا” واتبعوا عناصر خارجيّة أكثر أماناً من بلدهم، وفي حين أنّ التحوّلات السياسية كانت في وقت سابق في البلدان الأخرى المذكورة (وإنْ لم تكن دائماً أقلّ عنفاً).
لقد تخطّت رؤية الثورة الفرنسيّة مجالاً معيّناً، أصبحت تحمل طابعاً إجتماعياً سياسياً. فكانت نتيجتها في إيجاد دستور مكتوب، بدوره احتوى على الحقوق الطبيعيّة للإنسان، وبعض المبادئ الدستوريّة المهمّة. حيث أصبحت الثوّرة الفرنسيّة ومبادئها تمثّل تطلّعات للأشخاص الرّاغبين في تحقيق المساواة والعدالة والحريّة، خاصّةً وأنّ هذا الإعلان نصّ على أن تكون حقوق الإنسان الطبيعيّة الثّابتة والمقدّسة، هي أساس لأيّ سلطة.
يُعَدّ الإعلان الفرنسي الركيزة الأساسيّة لحقوق الإنسان في فرنسا، حيث إنّه واجه الإقطاعيّة والحكم الاستبدادي على حدًّ سواء، وأظهر الفكر الحرّ القائم على توفير الحقوق والحريّات، والسيادة الشعبيّة.
أسفر هذا المخاض التاريخي للأوضاع السياسية والإقتصاديّة والإجتماعيّة في البلدان الديمقراطيّة الثلاثة، عن صدور إعلانات حقوقيّة هي أولى الوثائق التي تضمن حقوق الإنسان، وانتشرت ضمانات الحقوق بعد ظهورها في دساتير تلك الدول وأعرافها، وخصوصاً عقب الحرب العالميّة الأولى.
ويعتبر الفقيه الدستوري “أندريه هوريو André Hauriou”، أنّ ضمانات الحقوق وحدها تُضفي الشرعية على الحقوق والحريّات الفرديّة. وقد تتابعت الظروف والأحداث حتّى صدرت إعلانات دوليّة تحمي وتضمن حقوق الإنسان، إلاّ أنّها لم تصدر في الوقت نفسه.
تلك كانت نشأة الحقوق المدنيّة والسياسيّة، ولا بدّ من أنّ نذكر بأنّها تؤلّف حقوق الجيل الأوّل (الحقوق السلبيّة droits negatifs). ومن أهدافها إشراك الإنسان في الحكم بطريقة غير مباشرة عن طريق اختيار ممثّلين عنه، إضافةً إلى حقوق أخرى.
وهي تُعدّ من الحقوق الّتي نشأت في ظلّ الثورة الفرنسية وفلسفتها، حيث إنّها تطوّرت حتّى أصبح للفرد تأثير مباشر في الحكم، لذا يساهم من خلالها المواطنون باختيار ممثّليهم لحكم الدّولة.
ويُعدّ تدخّل الدولة لإعمال هذه الفئة من الحقوق غير مؤثّر، إلاّ في مجال المحافظة على حسن تطبيقها، وخصوصاً في إمكانيّة الفرد الوقوف في وجه السلطة من أجل الحصول عليها.
وعليه، هناك تدّرج زمني للإهتمام بالحقوق المدنيّة والسياسيّة بدأ مع الإعلانات الحقوقيّة في أوروبا.
هوامش:
أوّلاً: المصادر:
1- إبراهيم نجّار؛ القاموس القانوني الجديد، طبعة معادة، مكتبة لبنان، بيروت، لبنان، 2009.
ثانياً: المراجع:
أ/الكتب العربية:
1- أنور سلطان؛ المبادئ القانونيّة العامة، الطبعة الثانية، دار النهضة العربيّة، بيروت، 1978.
2- إدمون رباط؛ الوسيط في القانون الدستوري العام، النظرية القانونيّة في الدولة وحكمها، الجزء الثاني، الطبعة الثانية، دار العلم للملايين، بيروت، 1971.
3- رامز محمّد عمّار ونعمت عبدالله مكي؛ حقوق الإنسان والحرّيات العامة، الطبعة الأولى، حقوق الطبع محفوظة للمؤلّفين، 2010.
4- مصطفى العوجي؛ حقوق الإنسان في الدعوى الجزائيّة مع مقدّمة في حقوق الإنسان، مؤسّسة نوفل.
ب/الكتب المترجمة:
1- أندريه هوريو، القانون الدستوري والمؤسّسات السياسيّة، الأهليّة للنشر والتوزيع، بيروت، الجزء الأوّل، 1974.
2- كلوديو زانغي (تصدير بطرس بطرس غالي. تقديم محمّد بجّاوي)؛ الحماية الدوليّة لحقوق الإنسان، الطبعة الأولى، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، لبنان، 2006.
3- لين هانت (ترجمة فايقة جرجس ومراجعة محمّد إبراهيم الجندي)؛ نشأة حقوق الإنسان، الطبعة الأولى، كلمات عربيّة للنشر والتوزيع، مصر، 2013.
ثالثا”: المصادر الأجنبية:
1- Louis Favoreu Patrick Gaïa Richard Ghevontian Ferdinand Mélin-Soucramanien Annabelle Pena-Soler Otto Pfersmann Joseph Pini André Roux Guy Scoffoni Jérôme Tremeau, Droit des libertés fondamentales, 5ѐ édition, 2009.
2- Maurice Duverger, Droit public, Presses Universitaires de France, 1re édition, 1957.
*باحث دستوري.
“محكمة” – الثلاثاء في 2020/9/15