أبحاث ودراسات

تطوّر الرقابة القضائية في ما خص السلطة الإستنسابية الممنوحة للإدارة/حسن فضل الله

إعداد المحامي الدكتور حسن عبدالله فضل الله:
من المعلوم أن السلطة الاستنسابية التي تمارسها الإدارة تعني السلطة التي يتم من خلالها إتخاذ القرارات والإجراءات بشكل مرن وبحسب الظروف والمتغيرات الخاصة بالحالة ذاتها، وذلك دون أن تكون مقيّدة بقواعد صارمة أو إجراءات روتينية.
وفي العادة، تُمنح الإدارة السلطة الاستنسابية لأجل ممارسة حرية كبيرة في اتّخاذ القرارات التي تعتبرها مناسبة في ظلّ الظروف المحدّدة، دون أن تكون مُلزمة بقوانين أو إجراءات إدارية محدّدة.
وهذا يتيح للإدارة فرصة أكبر للتكيّف مع الظروف المتغيرة بسرعة وفعالية، ممّا يساعد على تسهيل العمليات الإدارية وتحقيق الأهداف المرجوّة بشكل أكثر فعالية في الأوقات التي تتطلب التدخل السريع أو الحلول المبتكرة.
إن هذا المبدأ تم اعتماده في مختلف الدول الأوروبية وفق إطار التقدم في إنتاجية عمل الإدارة، بحيث تتمتّع الإدارة بسلطة استنسابية واسعة تمكّنها من اتّخاذ القرارات والإجراءات وفقاً للظروف الخاصة دون أن تكون مقيّدة بإجراءات دقيقة، وهذا ما يسمح للإدارة بالتكيّف مع التحديّات والمتغيّرات بشكل أكثر فعاليّة وأكثر سرعة، ويساعد في تسهيل العمليات الإدارية وتحقيق الأهداف الخاصة بهذه الإدارة.
ولكن من الجدير ذكره أن جميع هذه الدول تفرض قيودًا أو تعيّن إطاراً تنظيمياً لممارسة السلطة الاستنسابية من أجل ضمان الشفافية والمساءلة الإدارية، ولكن في العموم، يتم التعامل مع هذه السلطة بشكل يسمح بالتكيّف السريع مع المتغيرات الحالية في السياق الأوروبي.
كذلك، إن مبدأ السلطة الاستنسابية مطبّق في الولايات المتحدة الأمريكية، ويتمثل ذلك في القدرة التي تمنحها القوانين والتشريعات للإدارة الحكومية والوكالات الفدرالية والمحلية على اتخاذ القرارات واتخاذ الإجراءات بحسب الظروف والمتغيرات الخاصة بكل حالة معينة.
عليه، يُعتبر مبدأ السلطة الاستنسابية جزءًا من مبدأ الإدارة التنفيذية في الولايات المتحدة، والذي يسمح للإدارة بالتكيّف مع الظروف الدقيقة المعتمدة لكل قضية واتخاذ القرارات اللازمة لتحقيق أهداف السياسات العامة بشكل فعّال، مع الإشارة أن هذه السلطة قد تخضع لقيود وحدود قانونية معينة، وتختلف قوّتها ونطاقها تبعًا للسياق القانوني والمؤسساتي المحدّد لكل إدارة.
بناءً على ما تقدم، يتم التضييق على مبدأ السلطة الإستنسابية الممنوح للإدارة في الكثير من الحالات التي تتطلب الحماية من سوء إستخدام السلطة أو الفساد الإداري، أو عندما يتعارض استخدام السلطة الاستنسابية مع القوانين الوطنية أو الدستورية، أو عندما يؤدي إستخدام السلطة الإستنسابية إلى تعدّي على حقوق الأفراد أو تقديم خدمات غير عادلة ومتساوية.
وبعض تلك الحالات التي قد يكون من الضروري إيقاف مبدأ السلطة الاستنسابية تشمل:
الحماية من الفساد: عندما يتم استخدام السلطة الاستنسابية للمساومة أو تحقيق مكاسب شخصية على حساب المصلحة العامة.
المساءلة والشفافية: إذا كانت هناك حاجة إلى ضمان أن القرارات الإدارية تتم بشكل شفاف وتحت سقف قوانين النزاهة والمساءلة.
الحقوق الفردية: عندما يؤدي استخدام السلطة الاستنسابية إلى انتهاك حقوق الأفراد أو تمييزهم بطرق غير مبرّرة، وهو ما سنقوم على تفصيله وفق بعض الوقائع التي جرت في هذا الإطار مع بعض الإدارات اللبنانية.
التعديل على السياسات العامة بشكل جذري: عندما يتعارض قرار استنسابي مع السياسات العامة التي تمثل إرادة الشعب أو تتعارض مع التوجيهات القانونية الأساسية.
بالطبع، تعتمد ضرورة إيقاف مبدأ السلطة الاستنسابية على السياق القانوني والثقافي لكل دولة، ويمكن أن تختلف القواعد والقيود من بلد إلى آخر بناءً على النظام القانوني والدستوري والمؤسساتي الخاص بها.
أمّا في لبنان، فإن السلطة الاستنسابية تلعب دوراً هاماً في النظام الإداري، وتتمثل في القدرة على اتّخاذ القرارات والإجراءات من قبل الإدارة، دون أن تكون مقيّدة بإجراءات صارمة أو قوانين دقيقة في معظم الحالات، ومع ذلك، هناك عوامل واقعية تؤثر على ممارسة السلطة الاستنسابية في لبنان بشكل كبير ومنها:
التعقيد السياسي والطائفي: بحيث لا يُخفى على أحد أن لبنان يعاني من نظام سياسي وفق التعدّد الطائفي وما يتبعه من تعقيدات مذهبية ومناطقية، ممّا يؤدي إلى تأثيرات على التعيينات الإدارية واستخدام السلطة الاستنسابية في حالات كثيرة بناءً على اعتبارات سياسية وطائفية أحياناً.
الفساد الإداري: يواجه لبنان تحديات كبيرة في مكافحة الفساد، والذي يمكن أن يؤثر سلباً على ممارسة السلطة الاستنسابية من خلال سوء استخدام السلطة لأغراض شخصية أو تحقيق مكاسب غير قانونية.
المساءلة والشفافية: هناك حاجة ملحّة في لبنان إلى تعزيز المساءلة والشفافية في نختلف المجالات ذات الطابع الإداري أو المالي التي تؤخذ وفق إطار السلطة الاستنسابية الممنوحة للإدارة، وذلك لضمان أن القرارات الإدارية تُتّخذ بموجب معايير عادلة وشفافة.
التحديات الاقتصادية والاجتماعية: تواجه لبنان تحديات كبيرة اقتصادية واجتماعية، ممّا يزيد من ضغوط استخدام السلطة الاستنسابية لتلبية احتياجات متزايدة للمواطنين بشكل سريع وفعّال، ولكن تلك التحديات السياسية والإدارية والاقتصادية تؤثر على طبيعة وفعالية تطبيقه، ممّا يستدعي التركيز على تعزيز الشفافية، وتعزيز مبادئ المساءلة، ومكافحة الفساد لتحسين إدارة السلطات الاستنسابية في البلاد.
وتتجلى مخالفة الإدارة لقواعد السلطة في الكثير من القرارات التي تم مراجعة مجلس شورى الدولة بشأنها لأجل إبطالها، وبالفعل، فقد تصدّى مجلس شورى الدولة لهذه القرارات بحيث كان القاضي الإداري جريئاً في وقوفه سداً منيعاً أمام بعض الإدارات التي تجاوزت المبادئ القانونية العامة، ومن بين هذه القرارات، القرار الذي أسند فيه الطاعن في مراجعته أن الإدارة خالفت مبدأ المساواة، وعيب مخالفة القانون، بحيث أن هذا العيب يُعتبر أنه يشمل النصوص القانونية والمبادئ العامة التي إستقرّ عليها إجتهاد وقضاء مجلس شورى الدولة(1).
وكما يتبيّن أن هناك قرارات جريئة وهامة لمجلس شورى الدولة، وهناك أيضاً قرارات لم يكن فيها المجلس بهذه الجرأة، ولكن سنذكر بدايةً قراراً كان له أثراً هاماً ومن القرارات المميّزة ضمن جملة من قرارات مجلس شورى الدولة، بحيث أن هذا القرار الهام والمميّز جاء ليمسّ مسألة من المسائل الجوهرية والخلافية في القانون الإداري اللبناني المتمثلة بالسلطة الإستنسابية أو التقديرية التي تتمتع بها الإدارات العامة في لبنان عند ممارستها للكثير من اختصاصاتها وأعمالها المحدّدة.
لقد جاء في تفاصيل هذا الحكم(2)، وهو الأول من نوعه في مضمونه، ليلفت النظر إلى حرمان المقدم الركن همام ملحم من الترقية إلى رتبة عقيد، وهذا ما دفع بالأخير إلى مراجعة مجلس شورى الدولة، بحيث أبطل المجلس مرسوم وزارة الدفاع نتيجة تخلّف أسباب هذا القرار في حرمان المستدعي من الترقية.
لذلك، وجد بعض الفقهاء أن هذا الموقف الذي اتخذه القاضي الإداري هو موقف شجاع جعله لا ينظر لسلطة الإدارة الإستنسابية في رفض ترقية أحد الضباط المستحقين إلى رتبة عقيد وكأنها سلطة مطلقة أو حقّاً ذاتياً شخصياً يستحيل المساس به أو الدخول في أعماقه، وبالتالي فإن إعتقاد الإدارة عن خطأ بأن منحها لهذه السلطة الإستنسابية من قبل المشرّع يعني حتماً إطلاق يدها في هذا المجال من دون رقيب أو حسيب، أو بعبارة أخرى، من دون أن يحدّها أي ضابط أو معيار يقيّد حقها في الإختيار.
علاوةً على ذلك، ظهر القاضي الإداري في هذا القرار بوصفه حامياً للشرعية وللحقوق والحريات العامة ليقف حائلاً دون التمادي بهذه النظرة، ومن هنا جاء هذا القرار وغيره من القرارات التي سنشير إليها، لتكريس واقعاً جديداً في مفهوم السلطة الإستنسابية.
ففي قرار مجلس شورى الدولة رقم 426 تاريخ 2003/4/10، رفض القاضي الإداري مقولة تمسّك الإدارة بوجه المستدعي بسلطتها الإستنسابية لتحرمه من الترقية فارضاً عليها تبيان أسباب هذا الحرمان عبر بداية لنقلة نوعية استتبعتها بقرارات مختلفة فيما بعد.
وانسجاماً، أكّد مجلس شورى الدولة في قراره على أن السلطة الإستنسابية وإن تضمّنت حق وزارة الدفاع الوطني في الإختيار للترقية، إلاّ أن هذه السلطة ليست كيفية أو تعسفية بل يجب أن تستخدم ضمن ضوابط ومبررات جديّة تستهدف الصالح العام. ومن المفيد هنا التذكير ببعض عبارات هذا الحكم الذي يشدّد على أن:
“السلطة الإستنسابية الممنوحة للإدارة بموجب قانون الدفاع الوطني والمبنية على حق الإختيار في الترقية، ليست سلطة كيفية أو تعسفية، فحق الإدارة في ممارستها يتمثل في تقدير ملاءمة اتخاذ التدابير في ضوء الظروف والأسباب التي تفرضها المصلحة العامة، ومن أجل حسن سير وتنظيم المرفق العام. ويبقى للقضاء الحق في مراقبة استعمال هذه السلطة وصحة الأسباب القانونية والمادية التي يمكن أن يُبنى عليها التدبير المتّخذ”.
ويتابع المجلس في حكمه قائلاً:
“أنه وإن كان القانون لا يلزم الإدارة بتعليل قراراتها فإن ذلك لا يعفيها من إسناد هذه القرارات إلى أسباب جدّية وقائمة، لأن السلطة الإدارية لا تمتلك أن تتصرّف بحريّة مطلقة كـالأشخاص الذين يتصرّفون على هواهم ووفق نزواتهم”.
أمام ما تقدم، نجد أن حكم مجلس شورى الدولة يظهر بشكل واضح لا يقبل الشّك بأن السلطة الإستنسابية وإن كانت تمثّل إمتيازاً للإدارة، إلاّ أنها ليست حقاً شخصياً يُجاز إستخدامه لتحقيق النزوات والهوى كما يعبّر أحد الفقهاء، بل هو امتياز مقيّد بالشرعية وبجديّة الأسباب واستهداف الصالح العام.
ويجب في هذا الإطار أن لا يغرب عن بال أحد، أن القاضي الإداري قد يتردّد كثيراً قبل أن يقرّر التعرّض لسلطة وزارة كـوزارة الدفاع الوطني في إختيار بعض أفرادها من الضبّاط إلى الترقيات الأعلى، وهذا عائد بالطبع إلى الطابع السيادي الملازم لمثل هكذا وزارة وإلى المهام الإستراتيجية والدفاعية التي تناط بها عادة، وبالتالي كانت هويّة هذه الوزارة تجبر القاضي الإداري بالوقوف مكتوف اليدين أمام إستعمال مرفق الدفاع الوطني لسلطته الإستنسابية في الترقية(3).
كان القاضي الإداري في القرارات السابقة ينظر فقط في نظرية الخطأ الساطع في التقدير، بحيث كان يشير وبكل خجل أنّ: “قيد إسم الضابط على جدول الترقية منوط بتقدير ملاءمة السلطة العسكرية المختصة، وهذا التقدير لا يخضع لمراقبة القاضي الإداري إلاّ بصورة حصرية وفي حال الخطأ الساطع”(4).
لذلك، ووفق ما تقدّم، نرى وبكل وضوح أن القاضي الإداري في قراره الصادر تحت رقم 426 تاريخ 2003/4/10، هو قرار لا يشبه قراراته السابقة من حيث الإجتهاد والتطور، بحيث كسر قراره هذا صلابة الحاجز النفسي الذي كان يضغط بالسلب وبشدّة على القاضي الإداري، وبالتالي اعتبر هذا القرار بمثابة إنتهاء الحقبة السابقة، ووهذا ما يميّز هذا الإجتهاد بالحياء غير المبرر إزاء السلطة الإستنسابية لمرفق الدفاع الوطني في مجال ترقيات الضباط، ومشدّدة في الوقت نفسه على وجوب خضوع هذه السلطة لذات المعايير والقيود التي تستهدف إعلاء مبدأ الشرعية وسيادة القانون. وهذا يعني ببساطة بأنه إذا كان القانون قد أعطى لوزارة الدفاع حق إختيار الضباط المستحقين للترقية، إلاّ أن القاضي الإداري بسلطته الرقابية له الحق أيضاً في أن يطلب جميع المستندات والأسباب الجدية القانونية والواقعية التي تبرّر تخطي الضابط المذكور في الترقية في قرارها بحرمانه منها رغم ترقية زملائه من ذات دورته.
وما ينبغي التركيز عليه والتوقف عنده هنا هو أن القاضي الإداري لم يتمسّك بهذا القرار بمبدأ المساواة كسبب قانوني ومستقل لإبطال قرار وزارة الدفاع بحرمان المستدعي من الترقية، مع العلم أنه كان بإمكانه أن يقوم بذلك، بل إستخدم المساواة باعتبار أن خرقها يعتبر مبرراً قوياً بإلزام الإدارة بإبداء أسباب جدية تسند الحرمان، لأنه لا يُخفى في الواقع من أن الدفع بالمساواة بحدذ ذاتها كـمبدأ مستقل قد لا يكون فعّالاً وحده إزاء ما لوزارة الدفاع بالذات من سلطة مميزة، بحيث دخل القاضي الإداري في تفاصيل عدم قيام الإدارة بالإبتعاد عن النصوص القانونية وروح المبادئ العامة التي ترعى الترقية بالإختيار…
واستطراداً، نجد أيضاً أن القاضي الإداري كان له نقلة نوعية أيضاً في حكمه هذا فيما يتعلق بالسلطة الإستنسابية للإدارة، وذلك بإلزام جهة الإدارة في ممارسة سلطتها في الإختيار بإفصاح وتبرير أسباب قرارها الذي يضرّ بمركز صاحب الشأن، وهذا عامل حاسم في إقناع القاضي الإداري بالأسباب الحقيقية التي دفعته لاتخاذ مثل هذا القرار الضّار (5).
وأكثر إستطراداً، نرى في قرار القاضي هذا قد فرض نمطاً جديداً في التعامل مع السلطة الإستنسابية، نمطاً أقوى وأكثر فعالية لإزالة كل صفة تحكمية لهذه السلطة، وكأنّ القاضي الإداري قد طلب منذ ذلك الوقت أن على الإدارة أن تكون ملزمة بإبداء الأسباب الغير موجودة والتي لم تبرزها أصلاً، وليس فقط إثبات حقيقة ما أوردته طوعاً من أسباب. وبالتالي، فالأمر هنا لا يتعلق بمجرد نقل عبء إثبات صحة سبب القرار على عاتق الإدارة بناءً على قرائن من المستدعي تشكّك في صحّة الأسباب الواردة في ثنايا أوراق القضية، وإنما نحن هنا في مجال أقوى بكثير.
وبغية تعزيز أهمية هذا القرار، يمكن القول أن القاضي الإداري قد وضع في هذا القرار قاعدة موضوعية وليست محض إجرائية ومقتضاها أنه يحق له بعد ذلك أن يُلزم الإدارة بإبداء الأسباب الكافية لتبرير قرارها الضّار في مجال سلطتها الإستنسابية(6).
وأكثر أكثر إستطراداً، إن هذا القرار الذي نتحدث عنه أضاف قيداً جديداً مفاده أنه على أيّة سلطة إدارية في إستنادها لصلاحية إستنسابية، أن تلتزم بناءً على طلب القاضي الإداري بتحديد أسباب قرارها الإستنسابي بحيث تكون جديدة، كافية، مقنعة، خصوصاً مبررة نظراً لتعلقها بأحد أوجه الصالح العام، وبالتالي يمكن إعتبار أن هذا الإجتهاد للقاضي الإداري، جعلته بشكل أو بآخر أن يعوّض من تخلّف التشريع اللبناني عن طلب تعليل القرارات الإدارية التي رسمها وفرضها القاضي الفرنسي.
خلاصة القول، إن هذا الإجتهاد قد أظهر عجز الإدارة عن إبراز أسباب نخطيها لترقية المستدعي مكتفية فقط بأن القانون كفل لها سلطة إستنسابية، وكذلك قولها أيضاً أنها قامت بتطبيق شروط القانون، وإلى التأكيد أنه لا محالة إلى التمتّع بسلطة كيفية تحكمية أكثر منها إستنسابية، وهنا نرى القاضي الإداري في قراره هذا أنه لجم سلطة الإدارة في هذا الإطار.
على كُلٍّ، ولغايات الإستفاضة بهذا البحث القانوني، وفي مراجعة لمختلف القرارات التي صدرت عن مجلس شورى الدولة بعد القرار رقم 426 تاريخ 2003/4/10، نرى أن معظمها سار في الإجتهاد ذاته، على سبيل المثال، اعتبر القاضي الإداري في قراره رقم 118 تاريخ 2008/11/11، أن:
“… غير أن الأمر يكون مختلفاً عندما تعمد الإدارة إلى حرمان أحد المرشحين من الترقية دون غيره، على الرغم من إستيفائه الشروط القانونية كافة التي يؤهله للترقية، إسوة بزملائه، ممّن يتماثل معهم في الوضع القانوني ذاته، ودون بيان الأسباب التي تبرّر مسلك الإدارة هو أقرب إلى ممارسة السلطة التحكمية منه إلى ممارسة السلطة الإستنسابية”.
ويضيف القاضي الإداري في القرار ذاته:
“إن السلطة الإستنسابية الممنوحة للإدارة، بموجب قانون الدفاع الوطني، والمبنية على حق الإختيار في الترقية، ليست سلطة كيفية أو تعسفية، فحق الإدارة في ممارستها يتمثل في تقدير ملاءمة اتخاذ التدبير في ضوء الظروف والأسباب التي تفرضها المصلحة العامة ومن أجل حسن تنظيم وسير المرفق العام، ويبقى للقضاء الحق في مراقبة إستعمال هذه السلطة وصحة الأسباب القانونية والمادية التي يمكن أن يبنى عليها التدبير المتّخذ”(7).
مضيفاً: “فإذا كان القانون لا يلزم الإدارة بتعليل قراراتها، فأن ذلك لا يعفيها من إسناد هذه القرارات إلى أسباب جدية قائمة، لأن السلطة الإدارية لا تملك أن تتصرف بحرية مطلقة كـالأشخاص الذين يتصرفون على هواهم ووفق نزواتهم… وبالتالي، يجب على الإدارة عند ممارسة سلطتها الإستنسابية، أن ترتكز في قرارها على وقائع صحيحة، ويعود للقاضي الإداري أن يلزم الإدارة إثبات حقيقة الوقائع التي أستندت إليها، أو على الأقل تقديم المستندات التي تؤيّد ذلك، أو أن تكون مستندات الملف تؤيّد صحة الوقائع وتبرر التدبير المتّخذ” .
من الثابت والجلي على ضوء ما تقدم، أن من أهم وأبرز المبادئ والقواعد التي كرّستها الشرائع والدساتير والتشريعات، وأكّد عليها الفقه والإجتهاد، هو مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات، بين مواطن وآخر، وبالتأكيد بين موظّف وآخر، خصوصاً إذا كانا تابعين لسلك واحد وعلى الأخص عند تماثل الأوضاع التي يكونان فيها، بحيث أن الإخلال به إنما هو خرق أكيد لتلك الحقوق، علماً أنه ركيزة أساسية في المجال الوظيفي.
لذلك، وبعد الإجتهادات المستجدة لمجلس شورى الدولة، إبتداءً من القرار 426 تاريخ 10/4/2003، وما تبعها من قرارات متعلقة بآلية تطبيق السلطة الإستنسابية الممنوحة للإدارة، بدأت الإدارة تقوم وفق ما تم لحاظه بتغليف إضافات وشروط على أي قرار تصدره لغير الغاية التي خوّلها المشترع، ما ينطوي على طابع تعسفي وكيفي بطبيعة الحال، وبالتالي تكون الإدارة قد تجاوزت حدّ السلطة، وفي بعض الأحيان، تكون الإدارة قد أحلّت نفسها محل المرجعية الدستورية التي أقرّت القوانين.
المصادر:
1_ راجع قرار رقم 465 تاريخ 1999/4/21، في روضه/الدولة، مجلة القضاء الإداري 2003، ص 474.
2_ راجع قرار رقم 426 تاريخ 2003/4/10، المقدم همام ملحم/الدولة وزارة الدفاع الوطني، مجلة القضاء الإداري 2007.
3_ وفي هذا الصّدد، أشار مجلس شورى الدولة في بعض قراراته إلى الآتي:
“إن ترقية الضباط إلى رتبة أعلى تتم بالإختيار من بين المرشحين الذين تتوافر فيهم شروط الترقية ممّا يعني أن هذا الإختيار تمارسه الإدارة بما لها من سلطة إستنسابية في الإختيار من بين المرشّحين الذين يستوفون الشروط القانونية المطلوبة للترقية”.
راجع القرار رقم 525 تاريخ 1996/5/8، العقيد جورج عودة/الدولة- وزارة الدفاع الوطني، مجلة القضاء الإداري 1997، ص 606. والقرار رقم 566 تاريخ 1999/5/27، العقيد اميل أبو حمد/الدولة – وزارة الدفاع الوطني.
هذا بالإضافة إلى بعض الإجتهادات الأخرى والتي كانت تطالعنا بأنه: “لا مجال لتطبيق مبدأ المساواة في الترفية إلى رتبة عميد خاصة في الوضع على جدول الترقية لأن قانون الدفاع الوطني في مادته 42 الفقرة الثانية أعطى الإدارة سلطة إستنسابية في إختيار المرشحين للترقية”.
راجع القرار رقم 130 تاريخ 1994/12/5، النقيب فؤاد منصور/الدولة، مجلة القضاء الإداري 1999، ص 137.
4_ قرار رقم 181 تاريخ 1997/1/8، العقيد جميل تقي الدين/الدولة، مجلة القضاء الإداري 1998، ص 193.
5_ يُعتبر القرار رقم 426 تاريخ 2003/4/10 أقوى وأكثر تشدداً من جميع القرارات السابقة له والمتعلقة بكيفية معالجتها لمسألة السلطة الإستنسابية للإدارة، لأن تلك القرارات كانت تكتفي فقط بالإشارة إلى أن من حدود السلطة الإستنسابية رقابة حقيقة الأسباب التي أفصحت عنها الإدارة تلقائياً ومدى حدوثها الفعلي مادياً وصحة وصفها القانوني كـقيد عام على كل سلطة إستنسابية.
يمكن مراجعة القرار رقم 469 تاريخ 1994/6/27، شوقي الحاج/الدولة، مجلة القضاء الإداري 1995، ص 496. والقرار رقم 439 تاريخ 1999/4/14، شركة ناتغاز ورفاقها/الدولة، مجلة القضاء الإداري 2003، ص 432.
6_ وعليه، يمكن الإشارة إلى أن هذا القرار (أي القرار رقم 426 تاريخ 2003/4/10) أضاف إجتهاداً جديداً في ما يتعلق بالسلطة الإستنسابية للإدارة بخلاف ما كان سائداً آنذاك بالمضي فقط بالخطأ الساطع في التقدير.
7_ قرار رقم 118 تاريخ 2008/11/11، عزت الحداد/الدولة، مجلة القضاء الإداري 2018، ص 71.
“محكمة” – الثلاثاء في 2024/7/2

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!