تعليق على قرار محكمة العدل الدولية الخاص بغزّة/ ترتيل الدرويش
الدكتورة ترتيل تركي الدرويش:
ادّعت جنوب أفريقيا في إجراءات محكمة العدل الدولية أن إسرائيل تنتهك التزاماتها بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية، في سياق اعتدائها العسكري على غزة الذي انطلق في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ورغم أن المحكمة لم تصل إلى حد الأمر بوقف إطلاق النار في غزة- كما طلبت جنوب أفريقيا في دعواها- إلا أنها طالبت إسرائيل بالحد من الإبادة الجماعية والأضرار الناجمة عن هجومها العسكري على غزّة، وبضمان توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية، ومنع ومعاقبة التحريض على ارتكاب الإبادة الجماعية. وأصدرت ستة إجراءات مؤقتة تريد من إسرائيل أن تتخذها، كما طالبت المحكمة، فضلاً عن مطالبة إسرائيل بتقديم تقرير خلال شهر واحد يظهر امتثالها لهذه الإجراءات.
فما هي مفاعيل هذا القرار؟ وما مدى قوته الملزمة في وجه إسرائيل؟
في البداية، وفي ما يتعلّق بإختصاص المحكمة، فإن اختصاص محكمة العدل الدولية لا يكون إلزاميًّا، بحيث يجب أن تقبل الدول رسميًّا اختصاصها إما بصفة عامة أو بصفة محددة الغرض بمناسبة أي نزاع خاص وفقاً للمادة 36 من النظام الأساسي، وبمجرد أن تقبل الدول رفع قضية إلى المحكمة، تصبح قراراتها ملزمة قانونًا.
وعليه، فلا بد من أن نوّضح أن القضية المرفوعة من جنوب إفريقيا بوجه إسرائيل هي عبارة نزاع قضائي بين عضوين في الأمم المتحدة يخضعان للأحكام القانونية الواردة في ميثاق الأمم المتحدة والنظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية واتفاقية الإبادة الجماعية. وتتولى المحكمة، التي تتخذ من لاهاي في هولندا مقراً لها، الفصل طبقاً لأحكام القانون الدولي في النزاعات القانونية التي تنشأ بين الدول.
وقد أكدّت ديباجة ميثاق الأمم المتحدة إيمان شعوب الأمم المتحدة بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره، وتبيان الأحوال التي يمكن في ظلها تحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي، كما أشارت الفقرة الأولى من المادة الأولى من الميثاق الى دور هيئة الأمم في اتخاذ التدابير المشتركة الفعّالة لمنع الأسباب التي تهدد السلم ولإزالتها، وقمع أعمال العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم، والتذرّع بالوسائل السلمية، وفقاً لمبادئ العدل والقانون الدولي، لحل المنازعات الدولية التي قد تؤدي إلى الإخلال بالسلم أو لتسويتها، وفي سبيل ذلك يمتنع أعضاء الهيئة جميعاً في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة.
وبموجب الفقرة الأولى من المادة 36 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، يشمل اختصاص المحكمة جميع القضايا التي يحيلها الأطراف إليها وجميع المسائل المنصوص عليها بشكل خاص في ميثاق الأمم المتحدة أو في المعاهدات والاتفاقيات النافذة، كما يجوز للدول الأطراف بموجب الفقرة الثانية من المادة نفسها أن تعلن في أي وقت أنها تعترف باختصاص المحكمة في جميع المنازعات القانونية المتعلقة بتفسير المعاهدة، أو أي مسألة من مسائل القانون الدولي، أو في حالة وجود أي حقيقة، إذا تم إثباتها، من شأنها أن تشكل انتهاكًا لالتزام دولي فضلاً عن طبيعة ومدى الجبر الذي يتعين تقديمه عن خرق التزام دولي.
أما في ما يتعلّق بموضوع الدعوى، فقد رأت دولة جنوب إفريقيا أن إسرائيل تنتهك إلتزاماتها الدولية بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية، وكانت الأمم المتحدة قد أعلنت بموجب المادة الأولى من الإتفاقية المذكورة أن الإبادة الجماعية هي جريمة بمقتضى القانون الدولي سواء ارتكبت في أيام السلم أو أثناء الحرب، وهي تعني وفقاً للمادة الثانية من الإتفاقية أياً من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه: قتل أعضاء من الجماعة. إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة. إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً. فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة. نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.
وقد عاقبت المادة الثالثة على الإبادة الجماعي، التآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية، التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية، محاولة ارتكاب الإبادة الجماعية والاشتراك في الإبادة الجماعية. وقد منحت المادة السادسة من الإتفاقية الإختصاص في معاقبة جرائم الإبادة الجماعية الى محكمة مختصة من محاكم الدولة التي ارتكب الفعل على أرضها، أو أمام محكمة جزائية دولية تكون ذات اختصاص إزاء من يكون من الأطراف المتعاقدة قد اعترف بولايتها، وهو ما ينطبق في هذه القضية على محكمة العدل الدولية.
وبالفعل فقد أقرت المحكمة باختصاصها في نظر القضية، وذلك رغم دفع إسرائيل بعدم إختصاص المحكمة بحجة عدم وجود نزاع قانوني بين إسرائيل ودولة جنوب أفريقيا. ولدى النظر في القضية الراهنة، وجدت محكمة العدل الدولية أنه من المعقول أن ترقى أفعال إسرائيل إلى مستوى الإبادة الجماعية، وأنه من الضروري تحديد بعض التدابير المؤقتة بغية حماية الحقوق التي طالبت بها جنوب أفريقيا والتي وجدت المحكمة أنها معقولة. علماً أن التدابير المؤقتة هي عبارة عن أوامر تصدرها المحكمة قبل حكمها النهائي في قضية ما، بهدف منع وقوع أضرار لا يمكن إصلاحها. وبموجبها تُلزم الدولة المدعى عليها بالامتناع عن اتخاذ إجراءات معينة حتى تصدر المحكمة الحكم النهائي.
ويستند إختصاص المحكمة بنظر هذه القضية إلى المادة التاسعة من إتفاقية الإبادة الجماعية والتي تنص على أن “تعرض على محكمة العدل الدولية، بناءً على طلب أي من الأطراف المتنازعة، النزاعات التي تنشأ بين الأطراف المتعاقدة بشأن تفسير أو تطبيق أو تنفيذ هذه الاتفاقية، بما في ذلك النزاعات المتصلة بمسؤولية دولة ما عن إبادة جماعية أو عن أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة”، مما يعني أن المحكمة لن تكون مختصة بالحكم في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والتي من المحتمل أن تكون قد ارتكبت خلال الحرب على غزّة، خاصةً وأن هذا النوع من الجرائم يخرج عن نطاق إختصاص المحكمة في القضية الراهنة، حتى ولو كانت الأفعال المرتكبة من الجانب الإسرائيلي تُشكّل إنتهاكاً صارخاً لقواعد قواعد القانون الدولي الإنساني. وهذا يعني أن المحكمة لدى النظر في جوهر هذه القضية يتعيّن عليها أن تثبت نيّة إسرائيل بتدمير مجموعة قومية أو عرقية أو إثنية أو دينية معينة بشكل كلي أو جزئي وذلك بغية توصيف الأفعال المرتكبة بأنها تشكل جرائم إبادة جماعية.
وقد دفعت إسرائيل في وجه الإتهامات الموجهة ضدها بحجة الدفاع عن النفس كحق مشروع وأصيل بالدفاع عن شعبها على النحو المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة بعد هجوم السابع من أكتوبر الذي شنته حماس ضد مواطنيها، واعتبرت أنه لا نيّة للإبادة الجماعية في حربها الراهنة، وطالبت بإسقاط القضية. فهل تتوافر شروط الدفاع عن النفس في هذه القضية؟
في الواقع، يقوم أساس هذه القضية على إثبات نيّة الإبادة الجماعية في حق الفلسطينيين كعنصر جوهري في اثبات جريمة الإبادة، وهو ما تحاول إسرائيل نفيّه من خلال تقديم البراهين على أنها تلتزم بقواعد القانون الإنساني الدولي في حربها.
ويشير مفهوم الحق في الدفاع عن النفس إلى حق الدولة في استخدام القوة لحماية النفس أو الآخرين من أي تهديد أو خطر يهدد السلامة أو الحياة، وهو يُعدّ مبرراً قانونياً لاستخدام القوة أو التصرف في حالات الدفاع الشخصي الضروري، وأمراً استثنائياً يُمكن اللجوء اليه في حالات الضرورة والتهديد الفعلي للحياة أو السلامة الشخصية. ويُشترط أن يكون الرد على التهديد أو الخطر متناسباً مع حجم التهديد، وأن يكون التصرف لازماً ومعقولاً وذلك ضمن حدود الضرورة، مع ضرورة تجنّب استخدام القوة الزائدة أو غير المبررة.
وبموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، فقد تمّ حظر إستخدام القوة في العلاقات بين الدول، إلا أنه قد أجاز استخدام القوة المسلحة بصورة استثنائية في حالة الدفاع عن النفس، على أن يكون الرد متناسبا مع الهجوم وبالقدر اللازم فقط لصد الهجوم، والعمل على تفادي استخدام القوة المسلحة قدر المستطاع.
بالإضافة الى ذلك، فقد حددت اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 قواعد حماية المدنيين والأشخاص غير المشاركين في النزاعات المسلحة وتنظم استخدام القوة في النزاعات المسلحة، وتهدف هذه القواعد إلى تقليل المعاناة الإنسانية خلال النزاعات المسلحة وحماية أولئك الذين لا يُشاركون في القتال ويعيشون في مناطق النزاع، وذلك من خلال حظر الاعتداء على المدنيين ومنع أي هجمات مباشرة عليهم، وفرض حماية خاصة بالأطفال والنساء وعدم استغلالهم بأي شكل من الأشكال، فضلاً عن ضرورة حماية المستشفيات والمدارس والمنشآت الدينية والثقافية وعدم إستهدافها بالقصف أو الهجوم.
ورغم أن هذا القرار يناقش كما أسلفنا فرضية وجود نية للإبادة الجماعية من عدمها، إلا أن الواقع على الأرض يثبت الإختلال الفادح في ميزان القوى بين إسرائيل والفلسطينيين، فضلاً عن عدم التناسب في الرد على الهجوم، وعدم توفير أيّ نوع من القوة المسلحة ضد المواطنين في غزة وذلك دون أيّ تمييز بين المدنيين والأشخاص المشاركين في النزاع.
كما أن تذرع إسرائيل باتباعها قواعد القانون الدولي في حربها تدحضه الوسائل التي تتبعها ضد المدنيين كاستخدام المسيرات المزودة بقنابل ضدهم، وحرق المستشفيات ودور العبادة وتدمير المخابز وتجويع السكان وتشريدهم ومنع مقومات الحياة عنهم كالماء والكهرباء والدواء والإيواء، وذلك في خرق واضح للقواعد المنصوص عليها في اتفاقية جنيف الرابعة.
وبعد مداولات قصيرة إستمرت لأسبوعين، توصلت محكمة العدل الدولية الى أنه من المعقول أن ترقى أفعال إسرائيل إلى مستوى الإبادة الجماعية، فقد أصدرت عدة تدابير مؤقتة تشمل حق الفلسطينيين في غزة في الحماية من أعمال الإبادة الجماعية، وأنه يتعيّن على إسرائيل اتخاذ إجراءات فورية وفعالة لتمكين توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية التي تمس الحاجة إليها لمعالجة الظروف المعيشية الصعبة للفلسطينيين في قطاع غزة، هذا بالإضافة الى منع إسرائيل من تدمير الأدلة المرتبطة بالقضية لا سيما في ما يتعلّق بالمادة الثانية والثالثة من الإتفاقية والحرص على حفظها، فضلاً عن التزامها بمنع خطاب الكراهية والتحريض على الإبادة الجماعية. وطالبت المحكمة بضرورة رفع تقرير من الجانب الإسرائيلي حول تنفيذ التدابير التي انطوى عليها الأمر في غضون شهر يُظهر امتثالها لهذه الإجراءات.
وبما يتماشى مع النظام الأساسي للمحكمة يقوم الأمين العام، على وجه السرعة، بإرسال الإخطار بالتدابير المؤقتة التي أمرت بها المحكمة إلى مجلس الأمن الدولي، علماً أنه، وبموجب ميثاق الأمم المتحدة والنظام الأساسي للمحكمة، فإن قرارات محكمة العدل الدولية هي ملزمة. إن قرارات محكمة العدل الدولية ملزمة لجميع الدول الأطراف وهي نهائية ولا يجوز الطعن عليها ويمكن اللجوء إلى مجلس الأمن الدولي في حالة عدم قيام دولة بالإلتزام بها.
كما أن عدم تضمين القرار وقف إطلاق النار قد يعود الى أن المحكمة لا تملك آلية لفرض تنفيذ تلك القرارات لا سيما وأن هذا الأمر من اختصاص مجلس الأمن الذي يعمل على حفظ السلم والأمن الدوليين وبالتالي فهو ليس من اختصاص المحكمة، إلا أن التدابير المؤقتة التي طالبت بها المحكمة، والتي تُشكّل إعترافاً بمدى تردي الأوضاع في غزة، لن تكون ممكنة التحقيق في مجملها إلا من خلال وقف لإطلاق النار. علماً أن الطريقة الوحيدة لتنفيذ أمر محكمة العدل الدولية، هي من خلال تصويت مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بحيث يمكن لأي من الأعضاء الخمسة الدائمين في المجلس، بما في ذلك الولايات المتحدة، استخدام حق النقض (الفيتو) ضد أي إجراء من هذا القبيل.
وبرأينا أنه وحتى النظر في جوهر الدعوى المرفوعة من جنوب افريقيا في وجه إسرائيل، والذي قد يطول لسنوات، فإن وقف إطلاق النار يُمكن أن يتحقق من خلال الضغوط الدبلوماسية والسياسية، فضلاً عن الدور الهام الذي يضطلع به المجتمع المدني في تفعيل هذا الحكم وتطبيقه.
“محكمة” – الثلاثاء في 2024/2/27