تعيين “قاض مدني” في محاكم جزائية يزيدها نضارة وإيفون بو لحود نموذجاً/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
ليس صحيحاً على الإطلاق أنّ تعيين قاض عمل سابقاً أو لا يزال يعمل في محكمة تنظر في دعاوى مدنية، في محكمة جزائية هو إجراء فاشل و”دعسة ناقصة”، ويُفْقد الغرفة الجزائية قيمتها القانونية، لا بل على العكس تماماً، فإنّه يزيدها نضارة وحيوية ومكانة قانونية، فالمهمّ أن يكون هذا القاضي أو ذاك على قدر المسؤولية الملقاة على عاتقه في إحقاق الحقّ، ومتمكّناً من ثقافته القانونية وحكمته وموضوعيته وحياديته في مقاربة الملفّات المعروضة عليه، ولا علاقة له بالسياسة والسياسيين سواء أكانوا في السلطة أو في المعارضة، وأن يكتب حكمه أو قراره بملء إرادته وعن قناعة راسخة وبما يرضي ضميره وربّ العالمين.
وبالتالي، فإنّه ليس صحيحاً أنّ تكليف القاضي إيفون بو لحود بالإنضمام كمستشارة إلى هيئة الغرفة السادسة لمحكمة التمييز الجزائية للنظر في الطلب المقدّم من النائبين غازي زعيتر وعلي حسن خليل بنقل دعوى انفجار مرفأ بيروت من يد المحقّق العدلي القاضي فادي صوّان إلى قاض آخر، هو تدبير غير قانوني أو مسيء إلى عمل هذه المحكمة أو قد يثير لغطاً في الأداء، أو قد يؤثّر سلباً في عمل هذه المحكمة أو في قرارها المنتظر.
نقل الدعوى إجراء مدني في الأصل
ومن المعروف لدى كلّ من يفهم في القانون، أنّ طلب نقل الدعوى هو عمل قانوني مدني وقد وردت الأصول الإجرائية القانونية عنه في قانون أصول المحاكمات المدنية بدءاً من المادة 116 وانتهاء بالمادة 119، قبل أن يدخله النائب العام التمييزي الأسبق القاضي عدنان عضوم إلى متن قانون أصول المحاكمات الجزائية في العام 2001 بمفهوم ومدلول قانوني أوسع وأشمل عمّا كان عليه سابقاً(يراجع مقالنا بعنوان:”قصّة”ابتكار” المادة 340 وصوّان خالف القانون بتجميد تحقيقات المرفأ والتنحّي وارد” المنشور في “محكمة” وإليكم الرابط:
قصّة”ابتكار” المادة 340 وصوّان خالف القانون بتجميد تحقيقات المرفأ والتنحّي وارد/علي الموسوي
الإختلاف بين التعيين والتكليف
كما أنّ الرئيس الأوّل لمحكمة التمييز القاضي سهيل عبود لم يعيّن القاضي إيفون بو لحود مستشارة في الغرفة السادسة لمحكمة التمييز، وإنّما كلّفها بأن تكون مستشارة لإكمال هيئة هذه المحكمة بعد تنحّي المستشارين فيها القاضيين رلى مسلّم وفرنسوا الياس لاستشعارهما الحرج نتيجة أسباب خاصة بهما، وهذا حقّ قانوني مقدّس للقاضي.
والفارق بين عبارتي التعيين والتكليف كبير، فالتعيين “أبدي” وليس استثنائياً، بمعنى أنّه يبدأ بمرسوم تشكيلات أو مناقلات، وينتهي بمرسوم مماثل، وهذا الأمر ليس من اختصاص عبود شخصياً بصفته رئيساً أوّل لمحكمة التمييز، وإنّما من صلب عمل ومهام مجلس القضاء الأعلى وإنْ كان عبود رئيساً له، وذلك ضمن مرسوم تشكيلات أو مناقلات قضائية جزئية أو شاملة.
كما أنّه بمقدور وزير العدل أن ينتدب القاضي، مطلق قاض، بعد صدور التشكيلات، لكي يكون في هذا المركز أو ذاك. وحصل هذا الأمر مراراً وتكراراً وليس فيه أيّ جديد.
أمّا التكليف فهو مؤقّت ونتيجة عمل طارئ، وينتهي بانتهاء النظر في الدعوى المحصور بها التكليف، ولا يعني أنّ القاضي لم يعد يعمل في المحكمة المعيّن فيها أصلاً، لا بالعكس يعود القاضي أدراجه إلى غرفته السابقة أو محكمته السابقة لممارسة عمله فيها بشكل اعتيادي، ما لم يطرأ تكليف آخر في ملفّ جديد، وهذا التكليف موجود ومعمول به في كلّ المحاكم وليس محكمة التمييز فقط، فنراه في المحاكم الاستئنافية والابتدائية ولدى قضاة التحقيق والقضاة المنفردين، ولائحة التكليف بهذا الخصوص طويلة وقد توازي مرسوماً لتشكيلات قضائية.
ثمّ أنّ هيئة محكمة التمييز سواء أكانت جزائية أو مدنية تتألّف من ثلاثة قضاة وتصدر حكمها بالإجماع أو بالإتفاق، أو بالأكثرية أيّ اثنين من ثلاثة، ويمكن للرئيس أو أحد المستشارين أن يضع مخالفة على حدة يُظهر فيها وجهة نظره القانونية المعارضة لما اتفق عليه زميلاه الآخران في هيئة المحكمة، ولا يوجد أيّ مانع قانوني للقيام بهذا التصرّف السليم من الوجهة القانونية الصرفة.
أسبقيات
وهناك عشرات، لا بل مئات القضاة الذين عملوا في الشقّين المدني والجزائي واكتسبوا خبرات مديدة، وأظهروا براعة فيهما. وتاريخ العدلية حافل بهذا الأمر، وبالتالي فإنّ تكليف القاضي إيفون بو لحود بأن تكون مستشارة في محكمة جزائية ليس منقصة على الإطلاق كما يتوهّم بعض الطارئين على العدلية، أو كما يتخوّف بعض أهل التشويش على عمل القضاء، وهو تخوّف ليس في مكانه حتماً.
ومن يبدأ عمله القضائي في القانون المدني يمتلك خبرة أوسع وأشمل وأعمق للتعامل مع القضايا الجزائية قد لا تكون موجودة لدى القاضي الذي يبدأ ممارسة عمله في الدعاوى الجزائية، فالأصل هو القانون المدني وهو قانون عام، ثمّ يأتي القانون الجزائي وهو قانون خاص.
نماذج وأمثلة
وحالياً يوجد قضاة مستشارون بالأصالة والإنتداب في محكمتين جزائية ومدنية وهم ناجحون في كلتا المهمّتين وإنْ كان هذا العمل مرهقاً، مثل القاضي فاطمة ماجد فهي مستشارة في محكمة جنايات بيروت وترأس كقاض منفرد محكمة تنظر في جنح الأحداث، وفي دعاوى الأحوال الشخصية في بيروت،
والقاضي فاطمة جوني فهي قاض منفرد جزائي في بيروت ومستشارة في الغرفة الرابعة لمحكمة الاستئناف في بيروت الناظرة في الدعاوى المالية والأحوال الشخصية والتحكيم والصيغة التنفيذية وأتعاب المحاماة،
والقاضي عبير صفا التي هي قاض منفرد جزائي في بيروت ومستشارة في الوقت نفسه في الغرفة الخامسة لمحكمة الاستئناف في بيروت الناظرة في دعاوى الإيجارات والدعاوى العقارية،
وها هي القاضي رلى صفير قاض منفرد جزائي في بيروت ويُشهد بكفاءتها، وكانت في السابق قاضياً منفرداً مدنياً ناظراً في القضايا المالية التجارية في بيروت، وقاضياً عقارياً إضافياً في بيروت.
وها هو القاضي محمّد وسام المرتضى يقدّم نموذجاً يحتذى في إدارة محكمة الجنايات في جبل لبنان، وهو في الأصل رئيس للغرفة الثالثة لمحكمة البداية في بعبدا وناجح فيهما بإجماع القضاة والمحامين. ولمن لا يعرف فإنّ القرارات الصادرة عن محكمة القاضي المرتضى المدنية تدرّس في الأعمال التطبيقية لطلاّب كلّية الحقوق في الفرع الأوّل في الجامعة اللبنانية.
وها هو القاضي فادي العنيسي يرأس منذ التشكيلات القضائية الصادرة في العام 2017، الغرفة السادسة لمحكمة الاستئناف في الشمال الناظرة في الدعاوى العقارية والنقابية، وهو كان على مدى ثلاثة عشر عاماً قاضياً للتحقيق في بيروت بين العامين 2004 و2017، وقبل ذلك كان قاضياً منفرداً جزائياً في بيروت.
كما أنّ القاضي جون القزي كان محامياً عاماً استئنافياً في بيروت بين العامين 2002 و2005 وترأس محكمة الدرجة الأولى في جديدة المتن الناظرة في دعاوى الأحوال الشخصية والمعونة القضائية والجنسية والمالية.
كما أنّه جرت في الماضي وتحديداً في مطلع القرن الواحد والعشرين الإستعانة بالقاضي الراحل محمّد مكّي(1939-2019) لترؤس الغرفة الأولى لمحكمة التمييز الناظرة في الدعاوى العقارية بعدما أصيبت بعجز كبير نتيجة تراكم الملفّات لديها فأصدر فيها القرارات المناسبة، وهو كان مستشاراً في الغرفة الثالثة لمحكمة التمييز الجزائية.
“قضاة مدني” في المجلس العدلي
وهناك قضاة كبار كانوا مستشارين في المجلس العدلي وهو أعلى هيئة قضائية في لبنان، ونظروا وأصدروا أحكاماً في دعاوى جزائية.
فقد ضمّ المجلس العدلي في تسعينيات القرن العشرين على سبيل المثال، القضاة حكمت هرموش وحسين زين وغسّان أبو علوان الذين كانوا يرأسون غرفاً مدنية في محكمة التمييز، ولا شكّ أنّهم شكّلوا قيمة إضافية للمجلس العدلي من حيث الحضور وإبداء الآراء القانونية.
كما أنّ القاضي سامي منصور ترأس المجلس العدلي مرّات ومرّات لمتابعة دعاوى معروضة أمامه مثل قضيّة إخفاء الإمام السيّد موسى الصدر ورفيقيه، وكان رئيساً لغرفة التمييز المدنية، ومعروف أنّ القاضي منصور ذو باع طويل في القانون المدني وله مؤلّفات في هذا الخصوص ودرّس في الجامعة اللبنانية ما يتعلّق بهذا القانون المدني.
والقاضي جمال الحجّار نفسه كان قبل تعيينه في رئاسة الغرفة السابعة لمحكمة التمييز الجزائية في مرسوم التشكيلات القضائية الصادر في 10 تشرين الأوّل 2017 يعمل في غرفة ومحكمة تنظر في دعاوى مدنية، فهو شغل بين العامين 2002 و2009 رئاسة محكمة البداية في بيروت وهي مدنية، وبين العامين 2010 و2017 رئاسة محكمة الاستئناف الناظرة في دعاوى الجنح في الشمال، قبل أن يعيّن رئيساً لمحكمة التمييز الجزائية.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى المستشار في الغرفة نفسها القاضي فادي العريضي الذي كان قاضياً منفرداً في محكمة جب جنين – صغبين وينظر في كلّ ما يرده من دعاوى جزائية ومدنية.
هرطقة قانونية
لذلك كلّه، فإنّ القول بأنّ وجود القاضي إيفون بو لحود في غرفة جزائية وهي القادمة إليها من ممارسة القانون المدني منذ أن دخلت إلى القضاء في العام 2000، أمر معيب من الناحية القضائية، لهو هرطقة قانونية لا أساس لها من الصحّة.
“محكمة” – الجمعة في 2021/1/8