تفكّك المرجعية الصالحة لبناء الدولة/ رئيف خوري
المحامي الدكتور رئيف خوري:
إنفجر الصراع القضائي للمرّة الأولى في لبنان بهذا الشكل العلني بعد أن كان يجري سابقًا في السرّ وبالخفاء، ووصل إلى هذه الدرجة من التمزّق من دون حياء، وإلى هذه الحدود المخيفة. فأتى ضمن سلسلة من التفكّك طالت المؤسّسات الدستورية وعلى رأسها مؤسّسة رئاسة الجمهورية، والنظام المصرفي والمالي والأمني، حتّى انعكس على العلاقة في ما بين وزير الدفاع وقائد الجيش. لتطال هذه التصدّعات بنيّة الكيان، لا سيّما القضاء ضمنه الذي يبقى أوّلًا وأخيرًا الملاذ لتحقيق العدالة.
شكّل انفجار مرفأ بيروت مفترقًا صعبًا أمام القضاء اللبناني، فجّر النقص والغموض والالتباس والتناقض في التشريعات عامة، ومنها قانون أصول المحاكمات الجزائية خاصة.
النوع الـخاص من الجرائم
أدّى انفجار المرفأ إلى تحقّق الأفعال الجرمية المنصوص عليها في المواد 270 وما يليها حتّى المادة 336 ضمنًا من قانون العقوبات، التي تعاقب على الجرائم الواقعة على أمن الدولة الداخلي والخارجي، وتلك التي تمسّ بالقانون الدولي، والنيل من هيبة الدولة ومن الشعور القومي، وإثارة الفتنة والإقتتال الطائفي والنيل من الوحدة الوطنية أو التي تعكّر الصفاء بين عناصر الأمّة ، وجرائم الارهاب ، والتعدّي على الحقوق والواجبات المدنية، وتأليف الجمعيات غير المشروعة.
النوع الـخاص من المحاكم
أدّت الأفعال الجرمية المشار إليها آنفًا بمجلس الوزراء إلى ممارسة صلاحيته “الاستنسابية التقديرية” بإحالة ما نتج من جرائم عن الانفجار إلى المجلس العدلي. فبناء لتوصية كلّ من المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات ووزيرة العدل ماري كلود نجم التي كانت قد قدّمت مع كلّ من الوزراء منال عبد الصمد ودميانوس قطار استقالاتهم، أصدر مجلس الوزراء ، بتاريخ 10 آب 2020، المرسوم بإحالة الملفّ إلى المجلس العدلي المؤلّف من الرئيس الأوّل لمحكمة التمييز رئيسًا ومن أربعة قضاة من محكمة التمييز أعضاء. كما يضمّ قضاة إضافيين للحلول محلّ الأصيلين في حال الوفاة أو التنحّي أو الردّ أو التقاعد أو انتهاء الخدمات.
هذا، بعد أن كان مجلس الوزراء ثاني يوم الانفجار، بتاريخ 5 آب 2020، قرّر الطلب من السلطة العسكرية العليا فرض الاقامة الجبرية على كلّ من أدار شؤون تخزين نيترات الأمونيوم وحراستها ومحّص ملفّها أياً كان منذ حزيران 2014 حتّى تاريخ الانفجار.
المجلس العدلي محكمة خاصة
بموجب المواد 355 وما بعدها حتّى المادة 370 أ.م.ج. ضمنًا، أنشأ المشترع المجلس العدلي كمحكمة خاصة للنظر في نوع معين من الجرائم. وأناط بالسلطة التنفيذية صلاحية تعيين أعضائه بمرسوم يصدر عن مجلس الوزراء. الأمر الذي يؤكّد على ماهية وطبيعة المجلس العدلي المختلفة عن بقية المحاكم العدلية أو الإدارية أو الخاصة. فالاختلاف بين المجلس العدلي وأيّ محكمة أخرى بما فيها محكمة التمييز (كما نقل عن لسان المحقق العدلي الرئيس طارق البيطار) ليس بالدرجة أو أيّ محكمة أعلى من الأخرى (حيث ورد أنّ المجلس العدلي أعلى من محكمة التمييز)، بل من حيث المواد القانونية الخاصة التي ترعى عمله، وتركيبته الخاصة، وأصول المحاكمات لديه الخاصة، لا سيّما وأنّه ينظر بالقضايا المطروحة أمامه وفقًا للمادة 362 أ.م.ج. “بصورة موضوعية”.
فمن حيث طبيعة المجلس العدلي خصّه المشترع بصلاحيات واسعة لا تخضع للنصوص المنظّمة لسائر بقيّة المحاكم. بل لأنّ المشترع منحه النظر في القضايا بصورة موضوعية، أولاه تحقيق الغاية النهائية التي أنشىء من أجلها، وفي حالة ملفّ انفجار مرفأ بيروت الوصول إلى الحقيقة التي تتضمّن من استورد نيترات الامونيوم من مرفأ باتومي في جورجيا ولمصلحة من، وكمّيتها، وكيف تناقصت الكمّية، ومن استعملها وكيف ولماذا استعملها، وكيفية حصول الانفجار، وآخرًا مسؤولية مَنْ حصول الاهمال والتراخي وعدم اتخاذ تدابير الحيطة.
المحقق العدلي يعيّن إسميًا
يعيّن المحقّق العدلي بالاسم، ويعيّن محقّق عدلي واحد من دون مساعد أو رديف. وإنْ نصّت المادة 357 أ.م.ج. على إمكانية ردّ قضاة المجلس العدلي فإنّ النصّ استبعد خضوع المحقّق العدلي للردّ. ولو أراد المشترع ذلك لكان أورد في النصّ على هكذا احتمال عملًا بالمبدأ القانوني القائل بأنّه لا ينسب للمشترع ما لم يرد قوله. وبالتالي جميع طلبات ردّ المحقّق العدلي التي بلغت رقمًا قياسيًا لم تكن في موقعها القانوني الصحيح. إضافة إلى أنّ طرح فكرة الرديف كانت في غير موقعها القانوني، كما أيضًا فكرة نقل الملفّ. فمركز المحقّق العدلي ملتصق بالاسم وفي حال عدم تنحيه شخصيًا لا يصحّ استبداله بقاض آخر نتيجة أنّه معيّن بالاسم وليس بالصفة.
التناقضات المميتة
إنفجرت التناقضات العلنية في ما بين المحقّق العدلي القاضي طارق البيطار والمدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات. فذهب الإعلام إلى حدّ وصفها بنعوت شتّى قاسية عليهما معًا، لتنال من هيبة القضاء عامة ومن مجلس القضاء الأعلى خاصة.
غير أنّه قبل التفصيل بهذه التناقضات، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ السبب الرئيسي لما حدث وسيحدث بين الجهات القضائية المذكورة يعود أساسًا إلى تخلّف السلطة التشريعية عن تحديث القوانين وتعديلها وسدّ الثغرات والنقص فيها. فغياب ورش تحديث التشريع في كافة المجالات أدّى وسيؤدّي إلى تفاقم التناقضات، فقصور وتهاون وتراخي صناعة التشريع الحديث يوصل إلى هذه النتيجة.
الأخطاء المتبادلة
خرج قاضي التحقيق الرئيس طارق بيطار برأي قانوني مفاده أنّ المحقّق العدلي لا يردّ ولا يعيّن أيّ رديف عنه ويستمرّ في النظر بالملفّ، فأفرج عن خمسة موقوفين من أصل 17 موقوفًا. يؤخذ على هذا الرأي تمنّع صاحبه طيلة 13 شهرًا، منذ البدء بتقديم طلبات الردّ، من الإجهار به وإعلانه والعمل بموجبه، حيث إنّ التخلّف طيلة هذه المدّة الزمنية لتفعيله فجأة أعطى انطباعات عن خلفية سياسية كان التحقيق في ملفّ انفجار المرفأ بغنى عنها.
إزاء إدعاء المحقق العدلي الرئيس طارق بيطار على كلّ من المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات والقاضي غسان خوري، أقدم الرئيس عويدات على الإفراج عن جميع الموقوفين في حين أنّ المادة 58 من قانون السجون تنصّ على أنّ الأشخاص الموقوفين لا يمكن إخلاء سبيلهم إلّا بناء على قرار خطّي يصدره القضاء ذو الاختصاص ولا تقبل المخابرات الهاتفية بهذا الصدد.
تنصّ المادة 362 أ.م.ج. على أنّه للمحقّق العدلي أن يصدر جميع المذكّرات التي يقتضيها التحقيق دون طلب من النيابة العامة. بينما نجد أنّ المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات أفرج عن الموقوفين بموجب المادة التاسعة من الاعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تنصّ على أنّه لا يجوز اعتقال أيّ إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفًا.
فمع التسليم أنّ المعاهدة تسمو بالتطبيق على القانون الداخلي، وأنّ من أوقف قد أوقف تعسفًا، يبقى السؤال أنّه إذا تمّ إعمال هذا السند القانوني فلماذا لم يبادر حضرة المدعي العام التمييزي إلى إخلاء سبيل الموقوفين خلال مدّة الـ 13 شهرًا التي مضت، ولماذا تريّث في هذا الاجراء وعدم تفعيل مبدأ سمو المعاهدة على القانون الداخلي وهرمية القواعد؟
وحتّى التحقّق من تاريخ إبلاغ الأمن العام بقرار المنع من السفر يبقى السؤال كيف سافر أحد المفرج عنهم ولو كان من أصحاب الجنسية المزدوجة؟!
من المسلّم به أنّه للمحقّق العدلي أن يضع يده على الدعوى بصورة موضوعية وأن يصدر جميع المذكّرات دون طلب من النيابة العامة التميزيية( المادة 362 أ.م.ج.) ، إلّا أنّه وإن كان “ملك” الملفّ فلا يسعه عدم التنسيق والتشاور وأخذ رأي النيابة العامة بعين الإعتبار سيّما وأنّ المادة 363 أ.م.ج. تجيز للنائب العام التميزي أن يطلع على الملفّ وأن يبدي ما يراه من مطالعة أو طلب.
وإن كان للمحقّق العدلي صلاحية تفوق قاضي التحقيق العادي بما يتعلّق بمدّة التوقيف التي تبقى مفتوحة من دون سقف أعلى، إلّا أنّ للمدعي العام إبداء الرأي بطلبات إخلاء السبيل. ولا مبرّر للقول “بعدم الاعتراف بوجود النيابة العامة التمييزية” فهي في صلب المجلس العدلي تتولّى الادعاء كفريق بقوّة القانون وفقًا للمادة 357 أ.م.ج..
لا يسع كلّاً من المحقّق العدلي والمدعي العام التمييزي احتكار تحريك الضابطة العدلية وإعطاءها الأوامر المتضاربة وجعلها مكسر عصا.
إصدار القرار الاتهامي
وجد المجلس العدلي لكشف حقيقة انفجار مرفأ بيروت، فإن اقتصر الأمر فقط على محاسبة التقصير والاهمال، وتحميل المسؤولية للإداريين والأمنيين من دون كشف كافة ملابسات جريمة العصر، يكون القرار الاتهامي مجتزءًا وناقصًا.
أمّا للخروج من هذه المعمعة التي وصفها الإعلام “بحفلة جنون” و “بالعصفورية القضائية” فليصدر المحقّق العدلي الرئيس طارق بيطار قراره الاتهامي ولو ناقصًا. حينها يعود الفصل بكافة النقاط التي يعتبرها كلّ طرف غير قانونية، إلى مجلس مؤلّف من خمسة قضاة يتولّى الحكم بها، خاصة أنّ المادة 367 أ.م.ج. تمنح المجلس العدلي بناء على طلب النيابة العامة التميزية أو عفوًا، أن يجري تحقيقًا إضافيًا عليه، فهيئة المجلس تتولّى البتّ بجميع النقاط.
“محكمة” – الخميس في 2023/1/26