توصية مجلس النوّاب وإجراء التحقيق الجنائي/مازن صفية
المحامي مازن أحمد صفية*:
طرحت التوصية الأخيرة التي أقرّها المجلس النيابي بإجراء التدقيق الجنائي في جميع الوزارات والإدارات العامة والصناديق والمؤسّسات والمصالح المستقلّة – ردّاً على رسالة رئيس الجمهورية – تساؤلات عديدة لدى المتابعين والمراقبين ورجال القانون حول توقيت إعلانها والغاية من هذا الإعلان وتأثيرها القانوني ومفاعيلها تجاه قانون السرّية المصرفية الذي شكّل العائق القانوني القوي الذي تذرّع به حاكم مصرف لبنان بوجه شركة “الفاريز ومارسال” والذي منعها من إتمام مهمّتها بإجراء التدقيق الجنائي، ثمّ دفعها لترك لبنان بعد فسخ العقد الموقّع بينها وبين الحكومة اللبنانية بسبب تلكؤ السلطات المختصة بتسهيل مهمّتها بحسب أسبابها المعلنة منها ما تسبّب بخسارة لبنان مبلغ ٨٠٠ ألف دولار تمثّل الدفعة الأولى التي سدّدت للشركة دون جدوى!
لقد أنكر البعض على هذه التوصية أيّة قيمة قانونية أو صفة إلزامية واعتبرها وسيلة تذاكي من بعض القوى السياسية للتنصّل من صبغة الإتهام لهم بتعطيل التدقيق، بينما اعتبرها البعض مخرجاً وفتوى تشريعية قانونية لتعطيل مفاعيل السرّية المصرفية، ومدخلاً للعودة إلى عملية التدقيق الجنائي دون أيّة ذرائع أو عوائق قانونية.
وبين هذا الرأي وذاك وتضارب الآراء بين مؤيّد ومعارض لتلك الخطوة، نجد أنّه من المفيد أن نستعرض النصوص والمبادئء القانونية التي تحكم هذا الموضوع لنبني عليه رأياً وخلاصة قد تغني النقاش القانوني حوله.
يحقّ للمجلس النيابي أن يصدر توصيات أو رغبات وتمنّيات إضافة لوظيفته الرئيسية في التشريع وإقرار القوانين، وهذا الحقّ يجد أساسه القانوني في النظام الداخلي للمجلس النيابي السابق الصادر في العام ١٩٥٣ في المواد ٧٩ و٨١ منه حيث تنصّ المادة ٧٩ المذكورة على التالي:”إنّ التصويت على الرغبات والمقرّرات والتمنّيات والإقتراحات في غير مشروعات اقتراحات القوانين والثقة بالحكومة يجري بطريقة …”.
كذلك نصّت المادة ٨٠ على أنّه:”يجري التصويت على مشاريع القوانين مادة مادة ….”.
أمّا المادة ٨١ من نفس القانون فتنصّ على أنّه:”لا يقترع على الرغبات والتمنّيات والإقتراحات المتعلّقة بالسياسة الخارجية إلاّ بعد درسها من قبل لجنة الخارجية”.
وأيضاً وأيضاً جاء في الماده ٨٧ من النظام الداخلي للمجلس النيابي الصادر في العام ١٩٩٤ وتعديلاته اللاحقة عليه والتي عدّلت بموجبها بعض نصوص القانون القديم، أنّه:”يجري التصويت علي التوصيات وسائر القرارات وسائر المواضيع الواردة في المواد السابقة بطريقة رفع الأيدي …”.
بينما شرحت المادة ٨١ لغاية المادة ٨٦ من نفس القانون آلية التصويت على مشاريع القوانين والثقة والموازنة وغيرها من المواضيع التي في صلب مهام واختصاصات السلطة التشريعية.
ولكن، وإن كانت هذه التوصية قد صدرت عن سلطة تشريعية، أو حتّى حازت على إجماع أصوات النوّاب بعد التصويت عليها في المجلس النيابي، إلاّ أنّها لا يمكن أن ترتقي لمرتبة القاعدة التشريعية الملزمة (بمعنى النصّ القانوني) الذي يسمح ويتيح تعطيل مفاعيل قانون السرّية المصرفية الساري المفعول والملزم تجاه الجميع وتجاه السلطات العامة أيضاً بحسب نصّ المادة ٢ من قانون السرّية المصرفية الصادر في العام ١٩٥٦ طالما أنّ شروط المواد ٧ منه والفقرة الثانية من البند ٤ من المادة ٦ من القانون الرقم ٢٠٠١/٣١٨ والمعدّل في العام ٢٠١٢ والمتعلّق بمكافحة تبييض الأموال وجرائم الإرهاب عبر هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان غير متحقّقتين حتّى تاريخه، وهما الاستثناءان القانونيان الوحيدان اللذان يتيحان التنصّل من أحكام السرّية المصرفية.
إنّ تمييز المشترع في مواد النظام الداخلي للمجلس النيابي بين آليات التصويت على التوصية وتلك المتعلّقة بمشاريع القوانين، ينبىء بشكل صريح بنّية المشرع باستبعاد التوصية من دائرة تصنيفها أو تكييفها كقانون أو وضعها بمصاف القاعدة القانونية.
إنّ آلية تشريع القوانين محصورة بطريقتين لا تشكّل التوصية الصادرة عن المجلس النيابي وفقاً للطريقة التي صدرت بها إحدى صورها مع الإشارة إلى أنّه وفي نفس الجلسة التي صدرت خلالها التوصية جرى إقرار قوانين، ما يؤكّد إرادة المشترع الواضحة بتمييز التوصية الصادرة عنه عن القوانين التي أقرّها والإكتفاء باعتبار تلك التوصية إعلان نوايا أو رغبة أو إثبات على حسن النوايا بإجراء التدقيق تجاه الخارج قبل الداخل.
1- إقتراح القانون (proposition de loi) والذي يقدّمه النوّاب وفق نصّ المادتين ١٠١ و١٠٢ من النظام الداخلي لمجلس النوّاب .
2- مشروع القانون (projet de loi) الذي تحيله الحكومة عبر رئيس الجمهورية على المجلس النيابي لمناقشته تمهيداً لإقراره بالإرتكاز إلى نصّي المادتين ٥٣ و٥٨ من الدستور.
إنّ التوصية أو أيّة مقرّرات أو مواقف أيّاً كان شكلها أو موضوعها أو تسميتها وحتّى لو كانت صادرة عن المجلس النيابي بالإجماع وطالما أنّها لم تمرّ وفق هذين الممرّين الإلزاميين باتباع إجراءاتها، فإنّه لا يمكن اعتبارها قاعدة قانونية ذات اثر، وبالتالي لا يكون لها أيّ أثر أو مفعول قانوني ملزم تجاه الغير.
أضف إلى ذلك، أنّ مبدأي الشرعية وتوازي الأشكال (parallelisme des formes) لا يسمح بتعطيل أو تعديل أو إلغاء أيّ تشريع أو قاعدة أو نصّ قانوني يترتّب عليه مفاعيل قانونية إلاّ باعتماد نصّ مماثل مضاد ( acte contraire ) وفق نفس الطريقة والإجراءات والأصول التي صدر بها ذلك التشريع أو النصّ القانوني وعن ذات السلطة صاحبة الصلاحية أو عن سلطة أخرى صاحبة اختصاص تصدر نصوصاً ذات قيمة قانونية أعلى من ناحية التراتبية وتسلسل القواعد القانونية ( دستور – قانون – مرسوم إشتراعي…).
إنّ من شروط صحّة القاعدة القانونية صدورها عن السلطة صاحبة الإختصاص بشكل مكتوب وبعبارات واضحة ومحدّدة، كما تدرّجها بمراحل متعدّدة (السنّ – الإقرار – الإصدار – النشر) لكي تصبح نافذة وملزمة على الجميع.
أمام هذا السرد، فإنّ التوصية الصادرة عن المجلس النيابي لا تشكّل قانوناً ولا تعفي القوى السياسية التي وافقت عليها من السير جدّياً باقتراح قانون معجّل ثمّ إقراره يسمح بإجراء التدقيق الجنائي الشامل في مؤسّسات الدولة وهيئاتها ومصالحها وصناديقها كافة يوقف مفاعيل التذرّع بالسرّية المصرفية في كلّ ما هو مرتبط بهذا التدقيق ومتطلّباته ومتفرّعاته ويعفي من المسؤولية المدنية والجزائية أيّة سلطة دستورية أو جهة إدارية أو شخص طبيعي أو معنوي وطني أو أجنبي يتولّى عملية التدقيق هذه، كما تعفي أيضاً من المسؤولية كافة الجهات أو الإدارات أو أيّ شخص طبيعي أو معنوي يقدّم أيّة معلومات أو مستندات لتسهيل إتمام إجراء هذا التدقيق الجنائي والوصول لغاياته المنشودة.
أمّا في حال تعذّر إقرار هذا القانون أو الإمتناع عن السير به من قبل القوى السياسية، فإنّه وفي حال وجود النيّة الجدّية والصادقة لإجراء هذا التدقيق والوصول به لغاياته المرجوة، فإنّه لا مفرّ حينها من أن تطلب الحكومة اللبنانية المستقيلة أو مدعي عام التمييز تبعاً لصلاحياته تباعاً من هيئة القضايا في وزارة العدل ومن ديوان المحاسبة والهيئات الرقابية ذات الصفة القضائية، وكذلك من هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان، إجراء التحقيقات والملاحقات القضائية بجرائم الإثراء غير المشروع، أو جرائم تبييض الأموال، أو الطلب من مصرف لبنان تقديم المعلومات عن جميع الحسابات المصرفية دون بيان أسماء أصحابها، الأمر الذي يسمح بتجاوز وتعطيل مفاعيل مخالفة قانون السرّية المصرفية، وخلال التحقيق وبعد التثبّت من وجود شبهات في بعض الحسابات حول ارتكابات مالية تمسّ المال العام، يمكن حينها إجراء الملاحقات القضائية الخاصة بتلك الحسابات ما سيسمح حتماً بكشف أسماء أصحابها وملاحقتهم دون إثارة مسؤولية القائم بتلك الملاحقات وكلّ من ساهم بكشف المرتكبين.
وعسى أن تتجسّد هذه التوصية بقانون يُعَبِّر فعلياً عن إرادة وتطلّعات اللبنانيين في كشف الفاسدين والمرتكبين واستعادة الأموال المنهوبة فلا تذهب تضحياتهم وصرخاتهم هباءً في وطن جريح يصارع من أجل البقاء.
*عضو الدائرة القانونية لمجموعة “الشعب يريد إصلاح النظام”.
“محكمة” – الإثنين في 2020/11/30