أبحاث ودراسات

شروط التقدّم بدعوى المخاصمة/ غادة عون

القاضي غادة عون(النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان):
درج بعض المحامين بهدف تأخير البت بالدعاوى والحؤول دون ملاحقة موكليهم ، إلى التقدّم بدعاوى مخاصمة الدولة، إمّا بوجه قضاة التحقيق أو بوجه قضاة النيابة العامة الاستئنافية ، بما من شأنه التسبّب بعرقلة سير العدالة إلى أمد غير معروف بالنظر لعدم تشكيل الهيئة العامة لمحكمة التمييز حتّى تاريخه للبتّ بطلبات المخاصمة، ودون وجود أيّ سبب وجيه يبرّر ذلك.
تأسيسًا على ذلك، أجد من المفيد والضروري، إبداء الملاحظات التالية:
أوّلًا: في عبثية التقدّم بدعوى مخاصمة في ظلّ عدم وجود هيئة عامة مشكّلة أصولًا للنظر في هذه الدعوى:
الكلّ يعلم ، القاصي والداني يعلم، بأنّ الهيئة العامة لمحكمة التمييز التي تنظر حصرًا في دعاوى المخاصمة هي غير مشكّلة حاليًا نتيجة عدم صدور المراسيم المطلوبة لملء الشواغر في تشكيل أعضائها، فكيف يمكن ترتيب نتائج قانونية على مجرّد التقدّم بدعوى مخاصمة وقيدها في قلم الهيئة، في حين لم يصدر حتى تاريخه أيّ قرار عن هذه الهيئة (والتي هي غير موجودة في الوقت الراهن) بقبول هذه الدعوى؟
وكيف يمكن رفع يد قاض عن الاستمرار في النظر في الدعاوى العالقة أمامه، وتعطيل الوظيفة القضائية، بمجرّد تقرير رئيس قلم الهيئة العامة لمحكمة التمييز قيد دعوى المخاصمة في سجّل الدعاوى بدون وجود هيئة قضائية لتقرّر ذلك؟ هل أصبح في هذا الزمن الرديء الذي تقلّص فيه دور القضاء في الدفاع عن الحقوق ، من حق موظّف أن يعرقل سير العدالة ؟ وأن يقرّر وجوب تنحي قاض عن متابعة عمله وإقصائه بفعل سوء نيّة بعض المحامين؟
ألا يجب لرئيس مجلس القضاء الأعلى أن يوعز لرئيس قلم الهيئة العامة لمحكمة التمييز بعدم قيد دعاوى المخاصمة، طالما أنّ هذه الهيئة غير مشكّلة أصولًا، والتي هي وحدها المخوّلة وقبل البتّ بأساس النزاع القول ما إذا كانت دعوى المخاصمة هي حرية بالقبول أم لا، على أن يصار لاحقًا إلى النظر في أساسها؟
فنصّ المادة /750/ أ.م.م. يشير بوضوح إلى وجوب أوّلًا أن تقبل الهيئة العامة دعوى المخاصمة في الشكل ، فتتحقّق من توافر شروطها القانونية ومن جدّية أسبابها لتقرّر من ثمّ قبولها. ولقد ورد في هذا النص حرفيًا بأنّه على الهيئة العامة ” أن تنظر أوّلًا في استيفاء الدعوى لشروطها القانونية ، وفي جدّية أسبابها ،وبالتالي في إمكان قبولها”.
يستفاد تبعًا لما تقدّم، أنّ قبول دعوى المخاصمة من قبل الهيئة العامة ليس حتميًا بمجرّد قيدها في القلم، فكيف يمكن والحالة هذه ترتيب كافة النتائج القانونية على هذه الدعوى، ومنع القاضي من إكمال عمله في ظلّ وجود احتمال كبير في أن تردّ الهيئة العامة في الشكل هذه الدعوى ، خاصة أنّه من الثابت والمعروف أنّ هناك مئات الدعاوى التي تقدّم أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز ولا يتمّ قبول إلّا القليل منها؟
وكيف يمكن تصوّر، والحالة ما ذكر، وفي ظلّ عدم وجود هيئة عامة لمحكمة التمييز، وفي ظل احتمال عدم قبول دعاوى المخاصمة من قبل الهيئة العامة شكلًا، أن ترتفع حكمًا يد القاضي المقامة بوجهه هذه الدعوى عن النظر في النزاع المعروض أمامه والمتعلّق بحقوق أشخاص يلتمسون منه العدالة؟
وهل أصبح المطلوب فقط ، تعطيل القضاء والتحايل على القانون لتمكين المرتكب من الإفلات من الملاحقة؟
فالمبدأ العام الذي يجب حمايته هو ممارسة الحقّ أو القيام بالواجب، لا تعطيل الوظيفة القضائية وإهدار العلّة من النصّ بتشويه مضمونه، عن طريق عزله عن سائر الأحكام والنصوص المترابطة معه، والتي تكون واردة عادة تحت عنوان واحد، كما هي الحال بالنسبة للمواد /741/ أ.م.م. وما يليها الواردة تحت عنوان: “مداعاة الدولة بشأن المسؤولية الناجمة عن اعمال القضاة “.
وبالتالي، من الواجب تفسير جميع النصوص الواردة تحت عنوان واحد بما يتوافق مع أعمال كافة أحكامها ، لا الأخذ بالبعض منها وإهمال البعض الآخر.
إنّ هذه النظرية، التي يدفع بها البعض، أيّ رفع يد القاضي بمجرّد قيد دعوى مداعاة الدولة في قلم الهيئة العامة لمحكمة التمييز ، تخالف تمامًا كلّ منطق قانوني والغاية التي أرادها المشترع من تقديم دعوى المخاصمة ، وهي إعطاء فرصة أخيرة لأحد المتقاضين لاستعادة حقوقه في حال وجود أيّ غش أو خطأ جسيم ، لا من أجل تمكين المدعى عليه من ربح الوقت والمماطلة والتملّص من المسؤولية. فضلًا عن أنّ النتيجة العملية لتشويه النصّ وتفسيره على الوجه المبيّن أعلاه هو إعطاء موظّف (ومع احترامي لكلّ الموظّفين) السلطة لرفع يد قاض ووقفه عن متابعة عمله بمجرّد قيامه بقيد الدعوى قلميًا في سجّلات الهيئة العامة لمحكمة التمييز، دون وجود هيئة للإطلاع عليها لتقرّر ما إذا كانت حرِية بالقبول.
فتقديم دعوى أمام هيئة غير موجودة في ظلّ عدم معرفة ما إذا كانت هذه الهيئة عندما ستتشكّل ستقبلها أم لا ، لا يمكن أن يترتّب عنه رفع يد القاضي ومنعه من متابعة أعمال وظيفته. هذا تشويه لمضمون النصّ وللتفسير السليم له. يجب وضع حدّ له حماية لما تبقى من عدالة في هذا البلد.
إنّ تحميل العبارات الواردة في الفقرة الأخيرة من المادة /751/ أ. م.م. أكثر من مضمونها ، لا يحقّق الغاية التي توخّاها المشترع وهي عدم عرقلة سير العدالة وتعطيل الوظيفة القضائية ، إلّا في حالة وحيدة وهي قبول دعوى المخاصمة من قبل الهيئة العامة لمحكمة التمييز في الشكل.
تأسيسًا على ما تقدّم، نعود ونؤكّد أنّه لا يمكن ترتيب أيّة نتائج قانونية على مجرّد قيد دعوى المخاصمة في سجّلات الهيئة العامة لمحكمة التمييز، في ظلّ عدم وجود هيئة عامة مشكّلة أصولًا للبتّ بهذه الدعاوى.
ثانيًا: إستطرادًا وفي حال وجود هيئة عامة لمحكمة التمييز للبتّ بطلبات المخاصمة ، من الواجب قانونًا إبلاغ القاضي شخصيًا وبالذات هذه الدعوى:
على ضوء أحكام المادة /751/ أ.م.م. فإنّه لا يصحّ بتاتًا وفقًا لما يتذرّع به البعض القول ، بأنّه لا حاجة لإبلاغ القاضي المنسوب إليه سبب المخاصمة في دعوى مداعاة الدولة ، وإلّا ما الغاية من قول المشترع في الفقرة الأولى من المادة /751/ أ.م.م. بأنّه يكون للقاضي المنسوب إليه سبب الدعوى التدخّل في أيّ وقت لإبداء أقواله وطلب الحكم له بالتعويض ضدّ المدعي عند الإقتضاء ، إذا لم يكن هناك من حاجة لإبلاغه؟ وكيف يمكن لهذا القاضي التدخّل وإبداء ملاحظاته إذا لم يكن قد أبلغ دعوى المخاصمة؟ وبالتالي، فإنّ اجتزاء النصّ وتفسير فقرة منه وهي الفقرة الأخيرة، بما لا يتناسب مع مجمل الأحكام التي تضمّنها النصّ المذكور، من شأنه أن يجافي الحقيقة ويشوّه مضمون القانون ونيّة المشترع.
بحيث وعلى فرض اعتبار أنّ يد القاضي المنسوب إليه سبب الدعوى ترتفع بنتيجة تقديم الاستحضار، إلّا أنّه يبقى من الواجب إبلاغ هذا الاستحضار من القاضي، وهو المعني الأوّل في دعوى المداعاة، والقول بخلاف ذلك يجافي المنطق القانوني السليم ، والمبادئ العامة التي ارتكزت عليها قوانين أصول المحاكمات سواء المدنية منها أو الجزائية ، ومن أهمّها احترام حقّ الدفاع بعد إتاحة المجال للمنسوب إليه الخطأ أو الغشّ بأن يبلّغ أصولًا ليدافع عن نفسه.
أخيرًا، وعلى أمل أن تستقيم العدالة ويبزغ فجر القيامة ويسطع نورالحقّ في بلادي ، سنظلّ نعلّي الصوت حماية للحقوق وأمانة للقسم.
“محكمة” – الإثنين في 2024/3/11
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً على أيّ شخص، طبيعيًا كان أم معنويًا وخصوصًا الإعلامية ودور النشر والمكتبات منها، نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، كما يمنع نشر وتصوير أيّ خبر بطريقة الـ”screenshot” وتبادله عبر مواقع التواصل الإجتماعي وتحديدًا منها “الفايسبوك” و”الواتساب”، ما لم يرفق باسم “محكمة” والإشارة إليها كمصدر، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!