جرأة سياسية وثغرات قانونية في قرار مازح بمنع الإعلام من محادثة سفيرة “الشيطان الأكبر”/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
اذا كان القاضي محمّد مازح قد فعلها ولو بطريقة شعبوية تجذب الرأي العام وتتناغم مع عواطفه ومواقفه من الولايات المتحدة الأميركية صاحبة الهيمنة الكبرى في العالم، عبر التصدّي لتدخّل سفيرتها دوروثي شيا بشؤون لبنان الداخلية بما يخالف المادة ٤١ من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية، وهو تدخّل ليس الأوّل من نوعه ولن يكون الأخير لا الآن ولا في المستقبل، إلاّ أنّ مازح أصدر قراراً يعرف في قرار نفسه أنّه غير قابل للتنفيذ ولا يمكن صرفه على أرض الواقع، وتشوبه أخطاء قانونية عديدة في الشكل والمضمون.
مصلحة الدولة العليا
وبعيداً عن قصائد المديح والتبجيل واللغة العاطفية والمشاعر الوطنية إذ لا مكان للشعر في معرض القانون، فإنّ خطوة مازح بمنع وسائل الإعلام اللبنانية والأجنبية الموجودة على الأراضي اللبنانية من أن تُجري حديثاً أو مقابلة مع السفيرة شيا، إنطوت على سلسلة أخطاء لا شكّ أنّ القضاء اللبناني في غنى عنها، كما أنّها لا تتوافق مع مصلحة الدولة العليا في الوقت الراهن في ظلّ التجاذب السياسي الحاصل في البلاد بين معسكرين متنافرين، واحد يميل إلى الولايات المتحدة الأميركية ومتفرّعاتها الغربية والعربية، وآخر ينحاز إلى إيران وروسيا والصين وسوريا.
الهوّة بين القضاء والرأي العام
ولا شكّ أنّ قرار مازح لم ينبع من “مزحة” قد تكون مكلفة متى تضافرت سياسات الدول الكبرى وتلاقت لتحقيق مصالحها، ومكلفة سياسياً واقتصادياً لبلد صغير مثل لبنان يمرّ بمرحلة دقيقة من تاريخه السياسي، إلاّ أنّه أحرج القضاء برّمته، بدءاً من مجلسه الأعلى، بقرار لا يعطي أيّ إضافة معنوية للسلطة القضائية المستقلّة، بل يزيد الشرخ بين أفراد المجتمع على غرار قرارات قضائية سابقة صدرت في سنوات متعاقبة وفي عهود مختلفة، عن المجلس العدلي والمحكمة العسكرية ومحكمة التمييز العسكرية في ملفّات شائكة تتعلّق بجرائم القتل والإرهاب والتعامل مع العدوّ الإسرائيلي وشبكاته التجسّسية.
ولا يغيب عن البال، أنّ من هلّل لقرار مازح ومن اعترض عليه من سياسيين ومواطنين في وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل الإجتماعي، وعلى الأرض من خلال إحراق العلم الأميركي كما حصل في منطقة حيّ السلّم في الضاحية الجنوبية لبيروت، إنّما ينطلق من خلفية سياسية محضة، وقلّة قليلة ناقشته من منحى قانوني وتحدّثت عن الإيجابيات والسلبيات والثغرات الكامنة في تفاصيل سطوره المؤلّفة من 104 سطور.
ووقوف الشعب اللبناني على ضفّتين متناقضتين في أمور الحياة اللبنانية على كلّ الصعد السياسية والإقتصادية والإجتماعية، ليس جديداً على الإطلاق، وجاء قرار مازح ليوسّع الهوّة بين مؤيّد للقضاء ومنتقد له، وكلّ ذلك عرضة للمتغيّرات بحسب نوع الحكم أو القرار الصادر والجهة التي يتناولها، وبالتالي لا يوجد شيء جديد على هذا المنحى، وهو قرار لن يوتّر العلاقة بين لبنان والولايات المتحدة الأميركية ولن يولّد أزمة دبلوماسية بينهما، وهو مجرّد قرار قضائي غير قابل للتنفيذ وإنْ حمل جرأة وأخطاء قانونية في آن معاً، كما أنّه تعثّر بجملة تناقضات واضحة المعالم.
إنّ أصعب ما يواجهه أيّ قرار قضائي هو عدم القدرة على تنفيذه، ويصيب هيبة القضاء في الصميم، ويدرك القاضي مازح أنّ قراره لن ينفّذ ولن يبصر النور، إنّما هو تسجيل موقف سياسي غُلّف بإطار قانوني وتوقيع قضائي دون أن تكون للقضاء أيّ صلة به إلاّ من ناحية الشخص الذي أصدره، ولذلك هو على عاتق موقّعه مازح. وكلّ قاض مسؤول عن أفعاله وأعماله وأحكامه وقراراته بغضّ النظر عن نتيجتها وصوابيتها أو عدم دقّتها.
أخطاء بالجملة
ويمكن الإضاءة على الأخطاء والتناقضات الواردة في قرار القاضي مازح على الشكل التالي:
أوّلاً: تناقل الرأي العام نسختين من قرار مازح، الأولى موقّعة من القاضي نفسه دون الكاتب، والثانية ممهورة بإمضائهما معاً. والنسخة الأولى تعرّض القرار للبطلان عملاً بالمادة 530 أصول محاكمات مدنية التي توجب توقيع الحكم من القاضي أوّلاً وقبل النطق به، ثمّ من كاتبه، الأمر غير الحاصل في هذه النسخة. فكيف سمح القاضي لنفسه تسريب هذه النسخة وهو على يقين بأنّها مخالفة صريحة للقانون وليس مجرّد عيب شكلي يمكن الرجوع عنه، بل هي تنسف القرار برمّته وتعتبره منعدم الوجود؟ وإذا كان الكاتب قد أقدم على هذه الخطوة من تلقاء نفسه دون العودة إلى القاضي فيجب تدخّل هيئة التفتيش القضائي لمعرفة حقيقة هذا التسريب وتحديد المسؤولية واتخاذ الموقف المناسب منها!
ومن المعروف أنّه بمجرّد توقيع القاضي أو القضاة، والكاتب للحكم أو القرار، يعتبر رسمياً حتّى ولو حصل فيه خطأ مادي.
وهنا لا بدّ من التذكير بواقعة حدثت مع قاض متقاعد كان يرأس محكمة استئنافية في بيروت وله باع طويل في القانون المدني وكان أستاذاً جامعياً خرّج عشرات القضاة والمحامين والحقوقيين، إذ أصدر ذات يوم قراراً لمصلحة المستأنف ووردت الحيثيات كلّها في هذا الإتجاه، غير أنّ الخلاصة تضمّنت عكس الحيثيات بتبديل غير مقصود بين عبارتي المستأنف والمستأنف عليه، ولمّا تلقّى وكيل المستأنف صورة القرار فوجئ بالتناقض بين الحيثيات والخلاصة ودخل إلى مكتب القاضي لينبّهه إلى هذا الخطأ، فما كان من القاضي إلاّ أن رفض تصحيح الخطأ وأرشده إلى تمييز القرار سبيلاً لتحصيل الحقّ والتصحيح.
كلام شيا مرفوض
ثانياً: إذا كان قاضي الأمور المستعجلة ينظر في الدعاوى المدنية والتجارية دون تلك الداخلة في عمل القضاء الإداري والجزائي والشرعي بحسب منطوق المادة 579 أ.م.م. وإذا كان تقدير العجلة ينطلق من سلطة مطلقة لقاضي الأمور المستعجلة في وصف الوقائع وتحديدها، فإنّ ما أدلت به السفيرة الأميركية شيا وبحسب العريضة المقدّمة للقاضي مازح يدخل في صلب عمل القضاء الجزائي، وبالتالي ليس من اختصاص قاضي الأمور المستعجلة. فكلام شيا يؤجّج الصراعات الطائفية والمذهبية في لبنان ويشكّل خطراً على السلم الأهلي، أيّ ما يمكن إدراجه في خانة المادة 317 من قانون العقوبات، ولكن تحول الحصانة الدبلوماسية دون ملاحقة شيا على أقوالها واستفزازها لمشاعر شريحة من اللبنانيين.
كما أنّ كلام شيا المرفوض رفضاً قاطعاً، لا يحمل خطراً داهماً ومحدقاً لكي يتحرّك قاضي الأمور المستعجلة باتجاهه ويعمل على التصدّي له من الناحية القانونية، ذلك أنّه كلام يومي يأتيه كلّ مسؤول أميركي، وهو تضاعف في الفترة الأخيرة نتيجة تضييق الحصار على لبنان الواقع في عجز مالي وإفلاس إقتصادي، كما أنّ هناك سياسيين لبنانيين يكرّرون وبشكل ممجوج كلام شيا وتراتيل دولتها العظمى، وربّما يزايدون في مواقفهم السياسية، وقد تنضح بما يثير الفتنة بين أفراد الشعب اللبناني، ويصنّف كلام هؤلاء السياسيين عادة ضمن إطار”الإتهام السياسي” الذي لا يعوّل عليه!
إتفاقية فيينا
ثالثاً: مرّ القاضي مازح على اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية الصادرة في العام 1961، من دون أن يستشهد بها في معرض تقييمه كلام السفيرة الأميركية شيا، ملمّحاً إلى المادة 41 منها دون الخوض فيها للقول بعدم جواز تدخّلها في الشؤون الداخلية للدولة اللبنانية، وذلك ليقينه بأنّ المادة 31 من الاتفاقية المذكورة تؤكّد توافر الحصانة القضائية الجنائية للدبلوماسي، وبالتالي تمنع عليه وعلى سواه ملاحقة الدبلوماسي في حال اقترافه جرماً جزائياً.
ويعرف القاضي مازح أنّ اتفاقية فيينا تتقدّم على القوانين اللبنانية في معرض العمل بها، فلماذا وضعها جانباً وانهمك في البحث عمّا يقوده إلى تحقيق موقفه السياسي من خلال القوانين المحلّية، فقدّم مقاربة تتعارض مع التفسيرات والشروحات الوافية لاتفاقية فيينا؟
persona non grata
وحاول مازح بقراره، أن يحلّ مكان وزير الخارجية اللبناني الغائب عن السمع وعن الحياة إزاء تدخّلات السفارة الأميركية وسفارات أخرى في شؤون وشجون لبنان وشعبه، ولكنّ هذا العمل لا يدخل ضمن وظيفة القاضي، ولا يحقّ له الحلول مكان السلطة التنفيذية ممثّلة بوزارة الخارجية التي يمكنها استدعاء السفيرة الأميركية والإحتجاج على كلامها وصولاً إلى إعلانها “شخصاً غير مرغوب به”(باللاتينية:persona non grata) وهو ما لن يحصل في لبنان.
الإعلام بدل عن ضائع
وإزاء عدم القدرة على ملاحقة السفيرة الأميركية قضائياً، وعدم اتخاذه أيّ تدبير بحقّها لوجود موانع قانونية تحول دون ذلك، ذهب القاضي مازح إلى استصدار أمر على عريضة معجّل التنفيذ نافذ على أصله باسم الشعب اللبناني قضى بمنع أيّ وسيلة إعلامية لبنانية أو أجنبية تعمل على الأراضي اللبنانية سواء أكانت مرئية أو مسموعة أو مكتوبة أو إلكترونية من إجراء أيّ مقابلة أو حديث مع السفيرة شيا لمدّة سنة تحت طائلة وقف الوسيلة الإعلامية المعنية عن العمل لمدّة مماثلة في حال عدم التقيّد بهذا الأمر وتحت طائلة تغريمها مبلغ 200 ألف دولار أميركي كغرامة إكراهية.
رابعاً: اللافت للنظر أنّ الاستدعاء المقدّم عبر البريد الإلكتروني للقاضي مازح، يحدّد الغاية منه وهي كلام السفيرة الأميركية وليس وسائل الإعلام، واتخاذ تدبير لوضع حدّ لتصريحاتها وليس منع هذه الوسائل الإعلامية من القيام بواجبها المهني سواء باستصراح هذه السفيرة أو ذلك السفير ولأيّ دولة انتمى.
رقابة مسبقة
غير أنّ مازح وإزاء عدم القدرة على منع شيا من الحديث، استعاض عن ذلك بمنع وسائل الإعلام من التحدّث إليها بدلاً من الإكتفاء بوسيلة واحدة محدّدة بعينها، وذهب أبعد من ذلك بتقييد الحرّية الإعلامية لمدّة سنة وهذا ما يتعارض بشكل صريح وواضح مع الدستور اللبناني ومع الحرّيات الإعلامية ومع قانون المطبوعات. وهو لم يحدّد النطاق الجغرافي للوسيلة الإعلامية، بل تركها مفتوحة بحيث تشمل وسائل إعلامية تبثّ إلى كلّ العالم وإلى جميع أرجاء المعمورة، وبالتالي يخالف المبادئ القانونية العامة.
والسؤال كيف أجاز القاضي مازح لنفسه أن يتخذّ موقفاً مسبقاً رقابياً بمنع أيّ وسيلة إعلامية من التحدّث إلى السفيرة الأميركية أو استضافتها، فيما هناك قرارات سابقة لقضاة العجلة تؤكّد بصورة نهائية عدم جواز إجراء أيّ رقابة مسبقة على وسائل الإعلام؟ وعادة تصدر قرارات قضاة العجلة بما يمنع تحقيق الضرر راهناً، وليس في المستقبل، بمعنى أنّه لا يمكن القول برقابة مسبقة على أيّ كلام قد يدلى به في مرحلة لاحقة.
وأنّى للقاضي مازح أن يعرف ما قد يدلي به هذا أو ذاك من كلام وأقوال وينجم عنه ضرر حقيقي وأكيد وهو لم يتلفّظ به بعد؟ وهل يعقل أن يستبق الحدث بتحديد المنع لمدّة سنة من دون وجود ضرر حقيقي يستدعي هذه العقوبة المانعة في الأصل للحرّية الإعلامية؟
وكيف سمح القاضي مازح لنفسه إصدار قرار على شكل أنظمة وبما يخالف المادة 3 من قانون أصول المحاكمات المدنية التي تمنع القاضي من وضع أحكامه في صيغة الأنظمة، وحَبَسَ وسائل الإعلام لمدّة سنة عن أداء دورها الملتزم “بالمناقبية الإعلامية” كما يفترض، ومنعها من إجراء أيّ مقابلة مع شيا مع تهديدها بوقفها سنة مماثلة في حال تجرأت وخالفت قراره وتغريمها مائتي ألف دولار أميركي وليس بالعملة الوطنية أيّ الليرة اللبنانية؟
شروط تدخّل قاضي العجلة
ألم يكن بإمكان المتضرّر من الوسيلة الإعلامية، وهي هنا “الحدث – العربية” التي استضافت شيا، اللجوء إلى محكمة المطبوعات لمقاضاتها وفق ما تنصّ عليه أحكام قانون المطبوعات، علماً أنّ قاضي أمور العجلة يستطيع التدخّل لاتخاذ أيّ تدبير ملائم في حال توافر الشروط القانونية التي تتيح له التدخّل وهذا غير متوافر في هذه الدعوى؟
وقد تعرّض القاضي مازح “للأساس” من خلال قوله إنّ حديث شيا الإعلامي يسيء لمشاعر كثير من اللبنانيين بينهم المستدعية فاتن علي قصير، وإذا كان هذا التوصيف دقيقاً وحقيقاً وليس الإكتفاء بظاهر الحال، فإنّه يخرج عن صلاحية قاضي العجلة لينصبّ في صميم مهام محكمة المطبوعات، فمن حقّ قاضي العجلة أن يسارع إلى وقف حلقة تلفزيونية قبل بثّها بناء على مقتطفات ترويجية لها يستشفّ منها وجود ضرر ما، بينما المقابلة التلفزيونية مع شيا بثّت على الهواء مباشرة بما فيها من تطاول على السيادة اللبنانية وكلام جارح بحقّ اللبنانيين، ولم يعد بالإمكان وقفها، وبالتالي خرجت عن صلاحية قاضي العجلة ولم يعد من صلاحياته تقرير عقوبة لمدّة سنة كاملة عن كلام مستقبلي تنوي هذه السفيرة الإدلاء به فهذا تعرّض فاضح للأساس يخرج عن نطاق مهام قاضي العجلة، فالضرر الناجم عن كلام السفيرة شيا وقع ولم يعد يحقّ لقاضي العجلة التصدّي له.
منع الإعلام من المنازعة
خامساً: لقد خالف القاضي مازح القانون بإصدار قراره بصورة رجائية ومن دون منازعة الشخص المستهدف، أيّ وسائل الإعلام بعدما استبعد السفيرة الأميركية من حلقة الإدانة والعقوبة لصعوبة تحقيق ذلك، فكيف أجاز لنفسه القيام بهذا التصرّف ومنع أصحاب المصلحة من المناقشة وإبداء آرائهم ومواقفهم من الاستدعاء المقدّم إليه، وهو ما لا يحصل إلاّ في الدول الديكتاتورية وليس في الدول الديموقراطية؟
ألم يكن من الأفضل للقاضي مازح استدعاء وسائل الإعلام اللبنانية وتلك العاملة على الأراضي اللبنانية التي يرى أنّها قد تستقبل السفيرة الأميركية على شاشتها في أيّة لحظة، وسماع موقفها ودفاعها بدلاً من معاقبتها بصورة قاسية؟
أكثر من المطلوب
سادساً: إنّ منع سفيرة “الشيطان الأكبر” من الحديث مستقبلاً، لا يُتخذّ في قرار أمر على عريضة، حتّى ولو كان كلامها مضرّاً ومؤذياً لمشاعر اللبنانيين ويعتبر تدخّلاً في شؤون الدولة اللبنانية.
وأخيراً، لقد بالغ القاضي مازح في قراره وأعطى المستدعية قصير أكثر ممّا طالبت به أو كانت تتطلع إليه وادعت به(باللاتيني: Ultra Petita) حيث قرّر عقوبة المنع سنة كاملة، بالإضافة إلى عدم اختصاصه ومخالفته اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لأنّه ليس من صلاحيته تفسيرها، وكلّ هذه العوامل تعرّض قراره للبطلان.
“محكمة” – الأحد في 2020/6/28