جريمة أم “سترة” أم خطأ في الهويّة؟ العروس إسراء إبنة 12 عاماً تنتظر مولوداً!/نوال نصر
نوال نصر*:
في حين ترقد البلاد على فوهة “الزلازل”، وبينما تتجّه كلّ الأنظار إلى العاصمة بيروت الجريحة، التي تفوح منها رائحة الدم وترتسم في العيون مشاهد الدمار، حصلنا على وثيقة زواج لطفلةٍ بعمر إثنتي عشرة سنة ثُبّت زواجها في محكمة البيرة السنّية الشرعية. وأصدر الوثيقة مختار محلّة “الفرض” في عكار عامر الخلف في 16 آب 2020. فهل نحن أمام جريمة أخرى فظيعة ضحيتها الطفلة إسراء خميس؟!!
أن تتزوّج الطفلة إسراء، عمرها 12 سنة، بشاب عمره 22 سنة واسمه خالد فهذا أمر لا يمكن أن يتصوّره عقل إنسان في القرن الواحد والعشرين. فكيف لطفلة أن تحمل طفلاً بدل دمية؟ حدث هذا في وادي خالد في عائلة خميس، بين أولاد العمّ. إتصلنا ببيت أهل “العروس” وجواب الأمّ كان: زوّجتها لأنّها أحبّت إبن عمها. لكن أليس هذا الزواج مبكراً جدّاً؟ تجيب: زوّجتها وهي سعيدة وحامل في شهرها الثاني أو الثالث، وتسكن على بُعْد خمس دقائق من منزلنا. هي جارتي. وتُخبر: لديّ تسع بنات، كبيرتهنّ مواليد 1983، جميعهنّ تزوّجن.
تُردّد الوالدة: لم “أغصبها” على الزواج بل فعلت هذا برضاها. أحبّته وراحت تبكي كي تتزوّجه. وتستطرد: هي صغيرة في العمر لكنّها “من أوّل ما رأت النور” ناضجة وجدّية. ونحن عشيرة آل خميس نفضّل أن تتزوّج الفتاة بسنّ مبكر أفضل “من البهدلة”.
تزوّجت الطفلة إسراء وهي حامل بطفل. ووثيقة الزواج موقّعة من القاضي بلال حمود ومختار عكّار عمار خلف وثُبّتت في محكمة البيرة الشرعية السنية. فماذا في كامل تفاصيل القصّة؟
الوالدة “ارتاح بالها” لزواج آخرة العنقود من بناتها التسع، لكن هل “البنت” ارتاحت؟ وكيف سمح القاضي الشيخ بلال حمود بتثبيت هذه الجريمة؟ وهل تسمح المحاكم السنية بقوننة هكذا جريمة؟
رئيس المركز الإسلامي للدراسات والإعلام القاضي الشيخ خلدون عريمط يبدي ذهوله لهكذا وثيقة ويقول “هذه مخالفة قانونية أكيدة” ويستطرد “هذا ما يحدث ويتكرّر في بيئات إخواننا السوريين وأبناء الأرياف، حيث تجري إتفاقيات خارج نطاق المحكمة، على شكل زيجات عرفية بين العائلتين، وحين يأتون إلى المحاكم تكون الفتاة حاملاً، فيضطرّ القاضي إلى إثبات الزواج”.
هذا ما قد يحصل لكنّه ليس بالضرورة أن يكون قد حصل مع إسراء (مواليد 2008) وعريسها خالد (مواليد 1998). فما الذي حصل بالفعل مع إسراء وخالد؟ يجيب الشيخ عريمط “القاضي الشيخ بلال حمود من خيرة القضاة ولا يمكن أن يقترف هكذا جريمة، لكن يحدث أحياناً أنّ القاضي، على سبيل المثال لا الحسم، يتفاجأ بطلب أهالي العروسين، غير الراشدين، تزويجهما لسببٍ أو لآخر، وحين يثبت للقاضي أنّ السبب محقّ، من خلال تقارير طبّية، تصبح المحكمة ملزمة تثبيت الزواج حفاظاً على المصلحة العامة”. ويستطرد “في المجتمعات العشائرية قد تحدث بعض الأمور وتُحلّ “وكأن لا مين شاف ولا مين دري” ويقوم القاضي بلفلفة المشكلة حتّى ولو كانت تناقض ما يراه، في الحالات الطبيعية، صواباً. فالقاضي غير مضطرّ أبداً إلى كتب كتاب وإجراء مخالفة فاضحة لحقوق المرأة والطفل إذا لم يجد ضرورة. لا يُقْدم أيّ قاضٍ في الجمهورية اللبنانية على هكذا فعل إلاّ إذا كان يريد تخفيف الضرر”.
فهل هذا بالفعل ما حدث؟ هل يمكننا إعطاء حكم مخفّف لزواج طفلة؟ ماذا يقول القاضي الذي صادق على وثيقة الزواج؟
القاضي بلال حمود يشرح ما حصل “عملياً” معه: “وضع هذه العائلة على الشكل التالي: أتوا من وادي خالد، وكانت إسراء وخالد متزوّجين، نظرتُ في أوراقهما الثبوتية فتبيّن لي أنّ الفتاة بعمر صغير جدّاً، لكنّهم أصرّوا أنّها ولدت قبل أن يثبت المختار ولادتها بثمانية أعوام. أتوا بالمختار كي يثبت ذلك، وطلبتُ منهم إخضاع الفتاة إلى إختصاصية في الطبّ النسائي أثبتت أنّها بعمر 18 عاماً، وطلبتُ من طبيب عظام إثبات صحّة ما قالته الطبيبة النسائية”. ويستطرد “في كلّ الأحوال، أنا ضدّ الزواج المبكر ولديّ أبحاث في الموضوع، إلاّ إذا استدعت الضرورة. ونحن نعاني كثيراً في ضيع وادي خالد، وعددها 123، من حالات مشابهة لحالة إسراء، حيث يتأخّر الآباء في تسجيل أولادهم وبناتهم سنوات طويلة”.
مفاجآت كثيرة يقول القاضي حمود إنّها تصادفه في الموضوع “فهناك رئيس بلدية مسجّل على أنّه من مواليد العام 1975 وهو فعلياً إبن سبعين عاماً” ويتناول حالة أخرى قائلاً “الآن، بين يدي، وثيقة عن فتاة تريد الزواج وهي من مواليد 2010، يعني عمرها عشر سنوات، والعريس مواليد عام 2007، أيّ عمره 13 سنة. وضعتُ الملفّ قيد النظر واستدعيتُ الأهالي الذين أكّدوا أنّ عمر الفتاة الفعلي هو 17 عاماً وعمر الفتى 22 عاماً. نفس القصّة. وفي هذه الحالة سأقوم بما قمت به في حالة إسراء. سأطلب من طبيبة نسائية الكشف على الفتاة، وأطلب تقرير طبيب عظام لتحديد العمر من خلال عمر العظام، وسأطلب زيادة على ذلك تقرير طبيب نفسي وإفادة مختار مع شاهدين”.
لا مسؤولية إذاً على القاضي حمود إستناداً إلى ما قاله، لكن، ألا يفترض أن يقدّم القاضي في هكذا حالات دعوى أمام المراجع المختصة على من يسبّب هكذا أخطاء ويهمل التسجيل في دوائر النفوس؟ يجيب حمود “هذا الموضوع اختصاص محاكم مدنية، ومضى على حالة إسراء أكثر من عشر سنوات. والدولة باتت تتشدّد في هذا الخصوص. وأنا أطلب من الأب أن يتعهّد، في مثل هذه الحالات، على مسؤوليته الكاملة بأن يكفل ويضمن ما قد يتأتّى عن هكذا ارتباط، وأن يضمن مهر الفتاة وسائر حقوقها الشرعية” ويختم “في النهاية بدنا نستر العالم”.
القاضي يريد أن “يستر العالم” والوالدة تريد “أن تستر الإبنة” والسؤال، هل يمكننا أن نلوم مختاراً ووالداً تأخّرا عن تسجيل مولود أو مولودة في حين تأخّرت دولة بأمّها وأبيها عن تجنيب بيروت زلزالاً كارثياً؟
القاضي الشيخ بلال حمود “آدمي”. الكلّ أجمعوا على هذا. وهو أكّد أنّ تقارير الخبراء تقول إنّ الزوجة، إبنة الإثني عشر عاماً، هي أكبر بسبع أو ثماني سنوات. لكن، هل هذا يجعلنا نطمئن أنّ الفتاة ليست قاصراً؟ لا، فكلام الوالدة يوحي أنّها فضّلت “تزويج إسراء” باكراً. فهل العمر المبكر لها هو 18 عاماً؟ لا نظن. هذا لا يعني أنّنا لا نثق بكلام القاضي بل نحن نشكّ بالتقارير التي “تُركّب” أحياناً غبّ الطلب.
قصّة زواج القاصرات في لبنان “قصّة” على الرغم من مرور عقود على توقيع لبنان على الإتفاقية الدولية لحقوق الطفل. حكايات فتيات، مثل “طرابين الحبق” زُوّجن وهنّ لا يفقهن من الحياة شيئاً. ثمّة جمعيات كثيرة تناهض هذا النوع من الزواج، وجمعيات تحمي منه، وجمعيات تحذّر، وأخرى توثّق للمحاذير التي تتأتّى عن زواج القاصرات. في كلّ حال، تفيد دراسة حديثة أعدّتها منظّمة الأمم المتحدة للطفولة- يونيسف عن زواج نحو 12 مليون فتاة، تحت سنّ الثامنة عشرة، في العالم. وهذا المعدّل الذي نشهده الآن يُنذر، إذا استمرّ، بأن يتجاوز هذا الرقم، مع حلول سنة 2030، 150 مليون فتاة في العالم. ويُحكى عن زواج 28 فتاة قاصرة كلّ دقيقة واحدة، أيّ بمعدّل فتاة واحدة كلّ ثانيتين.
لن نتحدّث هنا عن مخيّمات اللاجئين، ولا عن الدول المحيطة، ولا عن العالم، بل عن لبنان واللبنانيين، وتحديداً اللبنانيات اللواتي زوّجن، أو تزوّجن، في سنّ مبكر، فكم عدد هؤلاء؟ هل من رقم محدّد؟ يبدو أنّ الأرقام، في الداخل اللبناني، بلا معنى، فهي تتغيّر إرتفاعاً أو هبوطاً بتغيّر واضعيها. في كلّ حال، في تقرير سابق لليونيسف ظهر أنّ 6 في المئة من اللبنانيات اللواتي تراوحت أعمارهنّ، أثناء إعداد التقرير، بين 20 و24 سنة، تزوّجن قبل بلوغهنّ سنّ الثامنة عشرة.
العروس اسراء خميس تزوّجت من العريس خالد خميس. وهي، بحسب والدتها، سعيدة. وهي، بحسب القاضي الشيخ بلال حمود، راشدة، وهي بحسب الإجراءات الخنفشارية “لا كبيرة ولا صغيرة”، “لا قاصرة ولا بالغة”! اللهمّ أن تكون حياتها أقلّ ضبابية وأكثر وضوحاً من “هويّة نفوسها”.
*المصدر: نداء الوطن.
“محكمة” – الخميس في 2020/8/27