الدكتورة سابين الكك*
اللوبي المصرفي، أو ما يعرف رسمياً، بحسب العلم والخبر رقم ١٦٤٣ الصادر بتاريخ ٦ تشرين الأوّل ١٩٥٩، تحت إسم “جمعية المصارف في لبنان”، رَسَم بتأسيسه معالم أقوى جبهة معارضة في الواقع اللبناني، وخطّ بنشأته المتزامنة عن قصد، بعد صدور قانون “السرّية المصرفية” سنة ١٩٥٦، والممهّدة تكتيكياً، لصدور قانون النقد والتسليف سنة ١٩٦٣، منعطفاً تاريخياً حاسماً سرعان ما تحوّلت معه الأهداف النقابية والمهنية إلى تكتلٍ ذات تأثير كبير في المنظومة، السياسية والاجتماعية والمالية والإقتصادية والإعلامية في لبنان.
عوامل عديدة ساهمت في إخفاء حقيقة الدور الذي اعتمدته جمعية المصارف كلاعبٍ رئيسي فرض شروطه ومصالحه على الساحة اللبنانية بدءاً من القطاع المصرفي وعبْره استطاعت التحكّم باتقانٍ في لعبة القطاعات الاقتصادية والتجارية والاجتماعية وتربّعت باحترافٍ شديد على عرش اللعبة السياسية محرّكاً بخبثٍ الخفايا والكواليس.
اليوم، ونحن في خضمّ أزمة مصرفية حادة، لا تنفصل، من جهةٍ، بأسبابها وسياقها ومفاعيلها عن الأزمة النقدية والمالية، وترتبط، من جهةٍ أخرى، مفصلياً وزمنياً واستراتيجياً بواقع سياسيّ مأزوم وبوضع إقتصادي مهزوم، تطلّ، جمعية المصارف في لبنان على الناس المترنّحين تحت وابل كلّ تلك الأزمات التي تلقي بثقلها الاجتماعي والمعيشي عليهم، لتطلق مجموعة من التدابير المصرفية المخالفة للقوانين والأنظمة المرعية الاجراء، شكلاً ومضموناً، غير آبهةٍ إلّا بمصالح لوبي المال والأعمال تحت حججٍ باتت مكشوفة بالأرقام والوقائع.
وسارع الكثيرون من الاقتصاديين والمحللّين السياسيين إلى شرح صحّة وضرورة وأهمية الإجراءات التي لجأت إليها جمعية المصارف في بيانها الصحافي بعد أن أطلقته معلنةً قرب انتهاء حالة إقفال المؤسّسات المصرفية المتخفية تحت حجّة إضراب إتحاد نقابات موظّفي المصارف. ولكن في المقابل، هناك حالة من الغياب شبه التام أو التغييب الإعلامي للشقّ القانوني لأزمة المصارف ولحقوق المودِعين والعملاء المتنقلّين بين الشاشات التلفريونية ومنصّات التواصل الاجتماعي علّهم يجدون ما يطمئنهم أو يخفّف من خوفهم على آخر ما تبقّى لهم من مصدر أمانٍ بعد أن استنزفت السلطة السياسية أمنهم المعيشي والاجتماعي حتّى الرمق الأخير.
ولتحديد قانوني دقيق للواقع المعتمد من قبل المصارف اللبنانية، سوف نعمد إلى شرح المخالفات القانونية الواردة عبر بيانها الصحفي، مع العلم أنّها لم تلتزم بمضمونه حتّى، وقد تمادت أكثر وأكثر في ضرب القوانين والأنظمة عرض الحائط، تحت حماية أمنية مشدّدة وغطاء المصرف المركزي المشبوه وادعاءات محاربة الفساد الكاذبة.
أوّلاً- جمعية المصارف: كيان نقابي دون صلاحيات تنظيمية
جمعية المصارف في لبنان، هي كيان نقابي تأسّس بموجب علم وخبر صادر عن وزارة الداخلية ويخضع لزوماً إلى القوانين والأنظمة التي ترعى الجمعيات في لبنان. أهدافها المعلنة حسب المادة الأولى من تعديل العلم والخبر الصادر عن وزير الداخلية حسن السبع بتاريخ ١ آذار ٢٠٠٧ تتلخّص بتوثيق أواصر التعاون والتنسيق بين أعضائها والعمل على تطوير التشريعات لترفع من شأن ومصالح أفرادها وتأمين حقوقهم بصورة أساسية، وبهذا تكون أهداف هذه الجمعية خاصة ومحصورة لتصبّ مباشرة في مصلحة المصارف الأعضاء ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تدّعي أنّها قادرة على تقييد أو تعديل أسس القطاع المصرفي.
جمعية المصارف في لبنان وبموجب كيانها القانوني كتجمّع مهني ذات أهداف نقابية لا تملك وتحت طائلة أيّ ظرف كان، الصلاحية في أن تعدّل أو تلغي أو تقيّد أو تحدّ أو تحصر، العمليات المصرفية، أيّاً كان شكلها أو طبيعتها، وهي الخاضعة أصولاً لمجموعة من القوانين، أبرزها قانون النقد والتسليف، والقانون التجاري، وقانون الموجبات والعقود، بالإضافة إلى الأنظمة السارية المفعول، وأيّ قرار أو تدبير متخذ في هذا الإطار، صراحةً أو ضمناً، يعتبر غير ملزم للمتعاملين مع المصرف، لا بل كأنّه لم يكن. وأكثر من ذلك، يقع على عاتق مصرف لبنان بصفته المؤتمن على حماية المودعين والعملاء، والملزم بالسهر على حُسْن سير القطاع المصرفي أن يلجأ إلى اتخاذ التدابير القانونية والتنظيمية بحقّ المصارف وجمعيتها.
والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف يمكن لجمعية المصارف في لبنان أن تجاهر بتعديها الواضح على صلاحيات السلطة التشريعية دون حسيب أو رقيب؟ وأين هي وزارة الداخلية بصفتها الوزارة المختصة بمراقبة ومتابعة الجمعيات المنشأة بعلم وخبر يصدر عنها؟
ثانياً- المصارف اللّبنانية: شركات تجارية مساهمة خاضعة للقانون الخاص حصراً
المصارف شركات مساهمة تخضع في تعاملاتها مع الزبائن إلى أحكام القانون الخاص، ولا يمكن أن تستند قانوناً إلى قواعد القانون الإداري الخاصة بالتدابير الاستثنائية وقاعدة الضرورات تبيح المحظورات. ذلك أنّ المشرّع منحها حقّ احتكار تلقّي الودائع من الجمهور واضعاً إيّاها تحت وطأة قواعد تنظيمية صارمة بموجب قانون النقد والتسليف حرصاً منه على سلامة القطاع المصرفي ودوره كحافظة ائتمانية للمدخرات، وفي المقابل أبقى المصارف كشركات مساهمة من أشخاص القانون الخاص تحت أحكام قانون التجارة تأكيداً منه على حقّها في اعتماد أسس الاقتصاد الحرّ والمنافسة وتحقيق الأرباح.
وبالتالي، ما تلجأ إليه المصارف اللبنانية حالياً من قيود، متذرّعةً بحالة الضرورة أو التدابير الاستثنائية، لا أساس قانونياً له. ويبدو أنّه غاب عن أذهان القيّمين على المصارف ناحية أخرى مهمّة، ألا وهي أنّ التسمية التي تطلق على أيّ تصرّف قانوني لا تغيّر شيئاً من طبيعته، لأنّ تقدير قانونية أو عدم قانونية التصرّف تتمّ عبر توصيف المفاعيل والنتائج الواقعية بعيداً عن اداعاءات أيّ طرف، وبالتالي عدم إطلاق تسمية “الكابيتال كونترول” على هذه الإجراءات لا يعني أنّها أصبحت صحيحة وشرعية، لأنّ تلك التدابير المعلنة في البيان أو المطبّقة فعلياً عند صناديق المصارف تحمل مخالفات قانونية واضحة، إضافة إلى الاستنسابية في تطبيقها بين الزبائن.
إنّ الأموال التي تتلقاها المصارف من الجمهور بحسب المادة ١٢١ من قانون النقد والتسليف هي ودائع تنتقل ملكيتها للمصارف لتتصرّف بها عبر توظيفات واستثمارات وتنتفع من الأرباح الناتجة عنها، ولكنّ المصارف تلتزم قانوناً وفقاً للمادة ٣٠٧ من قانون التجارة اللبناني بإعادة هذه المبالغ كاملة عند الطلب أو عند المواعيد المحدّدة أو حسب شروط متفق عليها مسبقاً مع المودع. وحقّ الملكية المعطى للمصارف هو من نوع خاص، لا يشمل سوى “حقّ التصرّف” في المال فقط، لأنّ حقّ الملكية للمال المودع يبقى خاضعاً للمبادئ الدستورية التي تكرّس هذا الحقّ، وهذا أمر لا مجال للنقاش حوله بدليل أنّ المبلغ المودع يبقى داخلاً في الذمّة المالية للمودع، ولا يمكن حرمانه من استعادته أو تقييد تلك العملية، إلاّ بما هو متفق عليه صراحة ومسبقاً في العقد.
وفي المقابل، فإنّ الأموال التي يتلقاها المصرف من الجمهور تسجّل في خانة الخصوم ضمن ميزانية المصرف السنوية كديون ملزم بإعادتها في مواعيدها.
وبما أنّ الأعمال المصرفية بموجب المادة ٦ من قانون التجارة تعتبر من الأعمال التجارية، وتخضع بالتالي لأحكام هذا القانون، أكّد قانون توقّف المصارف عن الدفع في مادته الرابعة على حقّ العميل الدائن أن يتقدّم أمام الغرفة الابتدائية المختصة بطلب إعلان إفلاس المصرف المدين الذي ينقطع عن دفع ودائعه، والتي تعتبر ديناً تجارياً، وذلك استناداً للمادة ٤٨٩ تجارة بحالتيها. وبالتالي، يمكن إعلان إفلاسه حتّى إذا لم ينقطع المصرف عن الدفع ولكنّه عمد إلى إخفاء وضعه المالي المتعثّر بوسائل غير مشروعة، لأنّ على المصرف أن يحافظ، بصورة مستمرّة ودائمة، على قدرة ائتمانية متينة وسليمة.
وفي هذا الصدد، يخضع مصرف لبنان أيضاً، لموجب مراقبة الوضع الائتماني لكلّ مصرف وللقطاع المصرفي كمنظومة، وهو لذلك يتمتّع بصلاحية مراقبة صارمة عبر لجنة الرقابة على المصارف، ودولياً أولت المنظّمات الدولية الناحية الائتمانية جانباً كبيراً، وبحسب اتفاقيات بازل للمخاطر المصرفية، تلزم المصارف المركزية بمتابعة وضع البنك لناحية نسبة السيولة والأموال الجاهزة وتقدير حجم المخاطر الفعلية على ضوء حجم الأعمال لكلّ مصرف نسبة إلى حجم الأموال الجاهزة ومستوى مخاطر التسليف لديه كما المخاطر التشغيلية ومخاطر سعر النقد.
قال بيار اده، رئيس جمعية المصارف سنة ١٩٦٣: “قد يجد المصرف المركزي أنّ التعاون مع جمعية المصارف هو الوسيلة الفضلى للحوؤل دون الانحرافات، بالتفاهم بدل الاكراه، وبالاقناع بدل النصوص”…
فهل سقطت النصوص، بالاقناع أو بالإكراه، على طاولة التفاهم بين المصرف المركزي وجمعية المصارف؟
*استاذة محاضرة ورئيسة قسم القانون الخاص في كلّية الحقوق- الجامعة اللبنانية.
(نشر هذا المقال في النسخة الورقية من مجلّة “محكمة” – العدد 48 – كانون الأوّل 2019)
“محكمة” – الأربعاء في 2019/12/11
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.