جورج عقيص المُكره على الإستقالة لـ”محكمة”: هناك قضاة حزبيون.. ولإعادة النظر بتشكيل “المجلس الأعلى”/علي الموسوي
أجرى الحوار علي الموسوي:
مع أنّ جورج عقيص خرج من هيكل العدلية منذ أكثر من ستّ سنوات مُكْرهاً، إلاّ أنّه لا يزال ينبض بحبّ القضاء فيتنفّسه يومياً، ويمدّ زملاءه الملتزمين الصمت المبرح بقوّة “موجب التحفّظ” القاهر، بأوكسجين الصمود في مواجهة رياح التجريح من السياسيين تحديداً، ولا يتوانى عن الكتابة بحبر الألق دفاعاً عن قضاء يريد من تصدر الأحكام باسمه، قوياً وعادلاً وقادراً، لأنّه السبيل المستقيم لديمومة الدولة الحيّة والحيوية.
ومع أنّ عقيص المشبع بالعنفوان، يعيش معظم أوقاته خارج لبنان، إلاّ أنّ مواكبته اليومية للمستجدّات القضائية توحي وكأنّه يعيش في رحاب قصور العدل والمحاكم، فما استلّ قلمه إلاّ ليقول خيراً، وهذا ما تشي به مواقفه الصريحة وكتاباته المحرّضة من أجل قيام قضاء مستقلّ في كلّ شيء.
وينتقد عقيص طريقة تظهير التشكيلات القضائية الأخيرة، ويقول:”من جاء إلى الحكم تحت شعار الإصلاح والتغيير بدا أنّه مستميت للدخول العلني في بازار التوزيعات القضائية، فظهر المشهد الذي سبق ورافق التشكيلات فاقعاً في خرقه لأبسط قواعد ومعايير المناقلات”، داعياً مجلس القضاء الأعلى إلى رفع الصوت عالياً من أجلّ حثّ السلطة السياسية وعبرها السلطة التشريعية على إقرار مشروع قانون تعديل المادة الخامسة من قانون تنظيم القضاء العدلي.
مواقف عديدة أعلنها عقيص في حواره مع “محكمة” هنا تقاصيله:
• للمرّة الأولى في تاريخ القضاء يكون السياسيون واضحين في “تناتش” التشكيلات القضائية، وبرغم مرور رؤساء جمهورية وحكومات كثر، لم تكن السطوة بهذا الشكل الواضح والفاضح على التشكيلات. كيف تفسّر هذا المشهد المتعارض والعدالة الحقّة؟ وهل له أسبابه على الرغم من وجود مبدأ فصل السلطات غير المعمول به بتاتاً؟.
لا بّد أوّلاً من التأكيد على أنّ معاناة القضاء ليست وليدة هذه التشكيلات ولا ممارسات السلطة الحالية فقط، بل هي نتيجة تراكمات تمتدّ لعقود من الزمن. وهذه التراكمات بعضها يعود إلى استشراء الفساد السياسي ومنطق المزرعة والمحاصصة الذي يسود المشهد السياسي منذ مدّة طويلة، والبعض الآخر يعود إلى استسلام السلطة القضائية بالكامل إلى هذا المنطق، دون أيّ إرادة لمقاومة منطق الحكم السياسي السائد، وارتضاء شريحة واسعة من القضاة الاحتماء بمظلّة سياسية طائفية توخّياً لاستلام المناصب القضائية الأرفع، ما خلق نوعاً من نادٍ مقفل للقضاة المسيّسين تَحكَّم بالمفاصل القضائية الأساسية ومنع أيّ تشكيل لنواة حركة قضائية إصلاحية مقابلة.
والأهمّ من كلّ ذلك، تمّ بناء جيل من القضاة المسيّسين والحزبيين، سُمّي بعضهم في مجالس القضاء الأعلى المتعاقبة بشكل سمح لهؤلاء قمع أيّ تحرّك قضائي جدّي ينهض بالعدلية ويعيد لها بعضاً من إحترامها وألقها السابقين. ومع هذا العهد، بدت إرادة الاستيلاء السياسي الكامل على القضاء واضحة دون أيّ لبس أو حياء، فمن جاء إلى الحكم تحت شعار الإصلاح والتغيير بدا أنّه مستميت للدخول العلني في بازار التوزيعات – ولا أقول المناقلات- القضائية، فظهر المشهد الذي سبق ورافق التشكيلات فاقعاً في خرقه لأبسط قواعد ومعايير المناقلات، وتظهّر السلوك العام للسياسيين في تعاطيهم مع القضاة بشكل واضح وفاضح دون أيّ ستر.
الأخطر في كلّ ذلك أنّه تمّ إنشاء جزر قضائية، حزبية، طائفية، ترتبط مباشرة بزعماء السياسة، دون أيّ مرور بالهرمية القضائية، ما قد يؤسّس إلى منظومة قد يصعب تفكيكها في وقت لاحق دون حصول تداعيات على البنيان الداخلي للقضاء.
صراع سياسي قضائي
• كيف يمكن كسر رهبة السلطة السياسية على التشكيلات القضائية؟.
الحلقة الأهمّ هي مجلس القضاء الأعلى، أو السلطة التي أعطيت قانوناً صلاحية تسيير وإدارة ومراقبة المرفق العدلي. هذه الحلقة، مع الأسف، تمّ تحييدها تارةً، وترهيبها تارةً أخرى، واستمالتها في كثير من الأحوال. إنّ استتباب الأمور بين أيّ مجلس قضاء، وأيّ سلطة سياسية في أيّ دولة في العالم هو بحدّ ذاته مؤشّر سلبي، لأنّ منطق الأمور يحتمّ صراعاً دائماً، راقياً حتماً، بين سلطة سياسية تسعى إلى تسخير مؤسّسات الدولة للمصلحة السياسية العليا، وبين سلطة قضائية تسعى إلى الحفاظ على استقلالية القضاء على الدوام. فكم بالحريّ “الوئام التام” بين السلطة القضائية والسلطة السياسية في لبنان، التي تصنّف بحسب التقارير الدولية، وليس فقط بحسب الرأي العام اللبناني، من الأكثر فساداً. هذا الوئام هو مصدر قلقنا الدائم. ولا يظنّن أحد بأنّ مجلس القضاء الأعلى تخاصم مع السلطة السياسية إبّان الاعتكاف الأخير وأزمة صندوق التعاضد وسلسلة الرتب والرواتب، لأنّ ما بدا واضحاً أنّ مجلس القضاء كان منزعجاً ومربكاً من الإعتكاف، وربّما مرغماً على السير به تحت ضغط مجموعة من القضاة، ورأينا كيف استعجل فضّه لمجرّد أنّه وُعِد بإصلاح الضرر الفادح الذي ارتكب بحقّ الجسم القضائي.
خلاصة القول إنّه لا بدّ من إعادة النظر بطريقة تشكيل مجلس القضاء الأعلى والعمل على إلغاء استتباعه إلى السلطة السياسية. وخارطة الطريق في هذا السياق واضحة: التعديل التشريعي لقانون التنظيم القضائي إمّا لناحية طريقة تعيين (أو انتخاب) أعضاء مجلس القضاء الأعلى، أو على الأقلّ طريقة إقرار التشكيلات القضائية بشكل يعطي المجلس، أياً كانت طريقة تشكيله، هامشاً أوسع في إقرار التشكيلات دون الحاجة إلى الموافقة أو البركة السياسية.
وبعد ذلك، يقتضي تفعيل هيئة التفتيش القضائي، التي يقتضي أن تكون مستقلّة تماماً عن مجلس القضاء الأعلى، وفق ما هو معمول به في أرقى الديمقراطيات (الدانمارك، هولندا) ويناط بها تقييم الأداء العام لكلّ قاض، فتعطى الكلمة الفصل بالتشكيلات وفق معايير واضحة ومعلومة بحيث يعرف القاضي سلفاً مساره الوظيفي إنطلاقاً من اجتهاده وسلوكه ونشاطه وكفاءته العلمية.
قد يردّ على ما سبق بالسؤال: كيف السبيل إلى التعديل التشريعي طالما أنّ السلطة المشترعة هي نفسها السلطة التي لا تريد للقضاء في لبنان أيّ قيامة؟
الردّ على هذا السؤال المشروع، يكمن في الدور المحوري الذي يفترض أن يلعبه وزير العدل، الذي يجب أن يتسلّح بإرادة ورؤيا للإصلاح القضائي، متكّلاً على لوبي نيابي يعمل في نفس الاتجاه، ومجلس قضاء صارم، غير متخاذل، وغير متهاون في المطالبة الدائمة والمزعجة باستقلال السلطة القضائية.
كلّ ما عدا ذلك سيُبقي القضاء في حالة صراع مع الذات، وستبقى المؤسّسات في هذه الحالة من التراجع، لأنّه لا قيام لدولة المؤسّسات في ظلّ قضاء مكبّل بقيود السياسة.
الإصلاح يبدأ من القاضي نفسه
• إزاء إصرار قلّة قليلة من الشعب على إبقاء القضاء الملجأ الأوّل والأخير له، هناك ارتفاع كبير في قلّة ثقة الرأي العام بالقضاء. ما مردّ هذا الخلل، القضاة أنفسهم، أم أهل السياسة، أم عدم الإلتزام بتنفيذ الدستور والقوانين المرعية الإجراء حرفياً؟
إنّ شريحة كبيرة من القضاة أنفسهم غير مقتنعة بأنّها سلطة دستورية قائمة بذاتها، فكيف لنا أن نقنع الرأي العام بذلك؟ هذا يقودني إلى بدايات المشكلة وهي تحديداً، طرق استقطاب القضاة والتي يجب حتماً إدخال تعديلات جوهرية عليها لضمان انتساب قضاة يتمتعون بأعلى المعايير الأخلاقية إلى القضاء، ليس أقلّ هذه التعديلات إجراء اختبارات نفسية صارمة ومستمرّة في الزمن طوال سنوات التدرّج في المعهد. الإصلاح حتماً يبدأ من القاضي نفسه، وفي أسوأ الأنظمة وأكثرها تدّخلاً للسلطة السياسية في أعمال السلطة القضائية، يبقى بإمكان القاضي أن يحافظ أوّلاً على سلوك يوحي بالثقة: إنّ القاضي المحترم في سلوكه، النشيط، المجتهد لا يحتاج إلى تشريعات ولا إلى احترام لفصل السلطات، لا أحد يقنعني بعكس ذلك. الإصلاح الذي نطالب به يطال فقط القضاء كسلطة، أمّا الإصلاح الشخصي فينبع من القاضي نفسه، القاضي الذي نحسن اختياره والذي نوفّر له أحسن أنواع التدريب المهني ومن ثمّ نحاسبه بواسطة التفتيش القضائي. كلّ ذلك لا يحتاج إلى موافقة سياسية. يجب ألاّ نغشّ أنفسنا وألاّ نغشّ الرأي العام، هذه كلّها إجراءات داخلية تخلّف الجهاز القضائي نفسه عن القيام بها، واللوم يقع أوّلاً وأخيراً عليه.
• هناك من يجزم بأنّ مجلس القضاء الأعلى ارتكب خطأ كبيراً عندما تناهت إلى سمعه نيّة السلطة السياسية إستبعاد مشروع قانون تعديل المادة الخامسة من قانون تنظيم القضاء العدلي عن جدول الجلسات التشريعية للمجلس النيابي في شهر كانون الثاني 2017، إذ كان يفترض بمجلس القضاء أن يبادر فوراً إلى إعلاء الصوت وإعلان الإعتكاف تنديداً برفض تمرير هذا المشروع، ما هو رأيك في ذلك؟.
لم تفت الفرصة بعد. بإمكان مجلس القضاء الأعلى أن يتحرّك مجدّداً، وأن يصدر البيان تلو البيان، أن يعلي الصوت كما قلت، أن لا يترك وسيلة أو طريقة للتعبير الحرّ والعلني عن أهمية هذا التعديل إلاّ ويتّخذها، ما الذي يمنعه؟ لا شيء.
مجلس القضاء يتحمّل المسؤولية
• إعتكف القضاة في توقيت غير موجع للسلطة السياسية من أجل المطالبة باستعادة مكتسباتهم كالحفاظ على ديمومة أمنهم الصحّي على سبيل المثال لا الحصر، وفجأة فرط عقد هذا الإعتكاف من دون أن يحقّق الإعتكاف الغاية المرجوة منه، فمن يتحمّل مسؤولية هذه السياسة القضائية الخاطئة والتي لا شكّ أنّها تنعكس سلباً على المجرى العام للسلطة القضائية، وتركت تداعيات وأثاراً غير صحيّة على الجسم القضائي برمّته؟
أستطيع الجزم بأنّ التحرّك القضائي الأخير قد يكون الأهمّ في تاريخ العدلية، إنْ لناحية العدد الكبير من القضاة الذين وقّعوا على العريضة المطلبية، المادية والمعنوية، أو لناحية طول مدّة الاعتكاف. كانت فرصة فريدة للضغط الإضافي على أبواب السنة القضائية، لكنّها أهدرت دون أيّ مقابل، والمسؤولية في ذلك يتحمّلها أعضاء مجلس القضاء الأعلى متحدين ومنفردين. وأعتقد أنّ الإنصاف يقتضي منّا أن نحيّي ونثمّن جهود بعض القضاة الشباب المفعمين بالعنفوان القضائي، الذين طعنوا بداية في فضّ الاعتكاف دون الرجوع إليهم، ثمّ طعنوا مرّة أخرى بموجب التشكيلات الأخيرة الصادرة دون أيّ مراعاة لمعايير واضحة، وهم لا يزالون حتّى الساعة، ومع كلّ ذلك، مستعدين للتحرّك ولاتخاذ ما يلزم وبذل التضحيات من أجل الوصول إلى ما يصبون إليه من سلطةٍ قضائية مستقلة بالكامل.
على هؤلاء القضاة اليوم، وقد أصبحوا قلّة، أن يعيدوا تنظيم أنفسهم وبكلّ إيجابية. إنّ تناقص عدد الفاعلين منهم يجب أن يكون أمراً جيّداً، لأنّه لا يخوض المعارك الكبرى سوى قلّة قليلة تعرف بعضها جيّداً فتعمل بفعالية أكبر، حيث ينفرط، خلال المعارك، عقد المتردّدين الخائفين أصحاب الحسابات الشخصية. يجب أن يكون هناك قيادة ما لهذا التحرّك، مسلّم بكفاءتها وشجاعتها وحسن تدبيرها، إذ لا يمكن لأيّ تحرّك أن يكون عشوائياً، وأن تحدّد الأهداف بدقّة:
المطلب الأساسي هو تحييد صندوق التعاضد عن المزاج السياسي وإرادة السلطة. هذا الصندوق حقّ بديهي وليس منّة. ثانياً، التصويب نحو إتاحة قيام جمعيات للقضاة بأيّ شكل تنظيمي كان، وثالثاً الضغط من أجل التزام مجلس القضاء الأعلى والتفتيش القضائي معايير للمناقلات القضائية. هذه المسائل الثلاث يجب أن تبقى ماثلة في الوجدان القضائي العام، وهي معاً تتيح للقضاء التفلّت التدريجي من القبضة السياسية.
صوت صادق للقضاة
• أنت تركت القضاء ولم تقاوم الفوضى المستشرية حتّى النفس الأخير وذهبت للعمل في القضاء العربي. لماذا انسحبت من المواجهة باكراً؟ وكيف تقيّم تجربتك في رحاب العدل في لبنان وفي دولة الإمارات العربية المتحدة؟ وأين وجدت نفسك أكثر؟.
في العام 2001 كتبت مقالاً صحافياً إنتصاراً للعدلية والقضاء، وكنت بعد قاضياً منفرداً، كسرت حاجز الخوف باكراً، وكنت أعلم وقتذاك بأنّ ما أقوم به يشكّل خرقاً لموجب التحفّظ، وقد تكون زيارتي إلى التفتيش القضائي إثر المقال، زيارة يتيمة إلى مكاتب التفتيش طوال مسيرتي القضائية. بعد ذلك شاركت في معظم التحرّكات القضائية الهادفة إلى تطوير العدالة، في زمنٍ كان الخوف من السلطة السياسية لا يقارن بالوضع الحالي، إذ كان الزمن زمن وصاية كاملة وعلى كامل الدولة. عام 2010 جاءتني فرصة العمل في الخليج، فطلبت من مجلس القضاء إستيداعي لمدّة سنتين أعود بعدها إلى العدلية، بعد أن أكون قد حسّنتُ وضعي المادي الذي لم يعد يطاق. المؤسف أنّ القيّمين على مجلس القضاء رفضوا طلبي بكلّ برودة أعصاب، مّما أكرهني على الإستقالة، مع العلم أنّ زملاء آخرين استحصلوا بعد ذلك على استيداع وانتقلوا للعمل معي، يا للسخرية، ثمّ عادوا للعمل في لبنان. إنّ إرادتي إذاً، لم تكن متّجهة لترك القضاء نهائياً، بل أكرهتُ على ذلك. ولكنْ بما أنّ المرء يرزق على قدر نواياه، أظنّ أنّ الذين أرادوا إيذائي من خلال دفعي للإستقالة، قدّموا لي خدمة جلّة، فإلى جانب العمل الممتع والخبرة العالية التي أحصل عليها حيث أعمل، إستطعت أن أكون صوتاً صادقاً للعديد من القضاة الشرفاء داخل القضاء اللبناني، الممنوع عليهم التصريح، وهو الأمر الذي سأحافظ على وتيرته في الأيّام القادمة.
ما أقوم به حالياً في الإمارات، هو فرصة فريدة في الإحتكاك العالمي في مجال الإدارة القضائية، ولكنّني حتماً أشتاق إلى قاعة المحكمة والقوس في لبنان، وسيبقى في داخلي شيء منها حتّى آخر العمر.
• ما هو رأيك بالإحتفالية السياسية بافتتاح السنة القضائية؟.
تحتاج السلطة إلى الكثير لكي تستعيد المصداقية. قيل سابقاً الكثير ولم ينفّذ شيء. لماذا يريدوننا أن نصدّق اليوم، حسن نواياهم، وهي بدت واضحة من خلال التشكيلات الأخيرة؟.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 23 – تشرين الثاني 2017 – السنة الثانية)