حاكم المصرف المركزي بين الملاحقة الجزائية والحصانة القضائية/هيثم عزو
الدكتور المحامي هيثم عزو*:
هل يتمتّع حاكم مصرف لبنان بالنظر لطبيعة المهام المُلقاة على عاتقه بحصانة تحول دون ملاحقته قضائياً وخاصةً أنَّ قانون النقد والتسليف وإنشاء المصرف المركزي المنفّذ بالمرسوم رقم 13513 تاريخ 1963/8/1 قد خوَّلهُ صلاحيات كبيرة ذات شأن كرّستها له صراحةً المادة 26 منه ولاسيّما أنَّه يشغل أيضاً بحُكْم صفته كحاكمٍ للمصرف المركزي رئاسة هيئة التحقيق الخاصة بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب حيثُ نصّت صراحةً المادة 12 من القانون الناظم للهيئة المذكورة رقم 2015/11 على تمتُّع كلّ من رئيس هيئة التحقيق الخاصة وأعضائها والعاملين لديها أو المنتدبين من قِبَلها بالحصانة ضمن نطاق عملهم بحيث لا يجوز الإدعاء عليهم أو على أحدهم أو ملاحقتهم بأيَّة مسؤولية مدنية أو جزائية تتعلّق بقيام أيّ منهم بمهامهم؟!
للإجابة على هذا التساؤل القانوني- الإشكالية، لا بدَّ بدايةً من استعراض سريع للقيود التي تعترض تحريك الدعوى العمومية ومن ثمّ لا بدّ من العودة إلى أحكام القانون الناظم لعمل حاكمية مصرف لبنان توسُّلاً لبيان الشواهد التشريعية والحجج والبراهين القانونية التي تُثبِت تمتُّع الحاكم أو لا، بحصانة قانونية ومضاهاتها بحكم المادة 12 المشار إليها.
ويقتضي التنويه بدايةً بأنّهُ يوجد أحياناً قيود قانونية تعترض سير الدعوى العمومية وتحول بالتالي دون إمكانية سماعها من قِبَل المرجع القضائي المُقدّمة إليه.
هذه القيود منها ما يتعلَّق بصفة الفعل الجرمي (كضرورة اتخاذ صفة الإدعاء الشخصي من قِبَل المتضرّر شخصياً بذاته في بعض الأفعال الجرمية للشروع بالملاحقة (Poursuite personnelle فلا يؤدّي بالتالي عِلم أو إخبار سلطة الملاحقة الجزائية بها إلى تحريك دعوى الحقّ العام تلقائياً بشأنها لكون الفعل الجرمي يندرج ضمن عداد الجرائم الموصوفة بجرائم الشكوى الذي يحتاج تحريكها والسير بها لشكوى مباشرة من المتضرّر؛ ومنها ما يتعلَّق بصفة المسألة القانونية (كالقضيّة المعترضة الطارئة Question préjudicielle التي تعترض متابعة السير بإجراءات الدعوى العمومية قبل حلّ هذه المسألة الفرعية التي اعترضتها والمتفرّعة عنها وذلكَ مِن قِبَل مرجعها القضائي المختص والذي يتوقّف على تذليلها أثر قانوني لناحية وصف الفعل المرتكب بالجريمة أو لا(، فلا يمكن بالتالي متابعة السير بإجراءات الخصومة القضائية ومتابعة الدعوى الجزائية قبل حلّ هذه المسألة الطارئة المعترضة من قبل المرجع المختص وظيفياً ونوعياً بحكم مبرم؛ ومنها ما يتعلَّق بامتياز قضائي يتمتّع به المدعى عليه الذي يشغل مركزاً قانونياً معيّناً (كالحصانة L’immunité التي يتمتعّ بها بعض الأشخاص المشتبه باقترافهم الجريمة(، فلا يمكن بالتالي الشروع بملاحقتهم قبل الحصول على إذن من المرجع الاداري المختص لرفع الحصانة عنهم.
وحيثُ إنُّهُ مِنَ المُسلَّم بهِ قانوناً في هذا الصّدد أنَّ تمتُّع صفة قانونية بحصانة قضائية -ومهما يكن نوعها وماهيتها- لا تكون إلاَّ بنصٍ قانونيٍّ صريح، باعتبار أنّها لا تُؤخذ بالإستنتاج أو بالعطف أو بالقياس، وذلك لكونها بمثابة قيد على الدعوى العمومية يُعامَل قانوناً مُعاملة الإستثناء الذي لا يُمكِن القول بوجوده إلاَّ بنصٍّ صريح. وعليه، متى لم يوجد نصّ في القانون يمنح شخصاً يشغل صفة رسمية معيّنة حصانة ما، فهذا يعني أنُّه لا يتمتّع بالصفة التي يحوزها والملاحق بها قضائياً بأيّة حصانة على الإطلاق، باعتبار أنّها لا تُفتَرض إفتراضاً Ne se présume pas ولا تُستَنتَج استنتاجاً Ne se déduis pas بل يجب النصّ عليها صراحةً في التشريع لصفة رسمية مُحدَّدة بذاتها، كما هو حال سائر الحصانات الممنوحة بموجب قوانين لأشخاصٍ يشغلونَ مراكز قانونية معيّنة، وخاصةً أنَّ الحصانات تُعطى قانوناً لأشخاص محدّدين بصفاتهم، بما يعني ذلك أنَّ الحصانة لا ترتبط بشخص الفاعل بذاته، بل بصفته القانونية الرسمية لانتسابه أو لإشغاله سلطة أو مهنة أو وظيفة أو هيئة محدّدة بذاتها وذواتها.
حيثُ ومن نحوٍ أوّل، يقتضي القول إنّه متى ما كان حاكم المصرف المركزي مُلاحقاً قضائياً بأفعال جرمية ناتجة عن عمله في مصرف لبنان، أيّ بصفته كحاكمٍ له، فيكون بالتالي خاضعاً تحت هذه الصفة القانونية فقط للقانون الناظم للمصرف المركزي الذي يرعى نظام عمله وطريقة تعيينه وإقالته ووضعه القانوني.
وعليه، بالعودة إلى أحكام هذا القانون الناظم لحاكمية المصرف المركزي ينجلي بوضوحٍ تام منهُ عدم تخصيصه أيَّة حصانة قانونية من أيِّ نوعٍ كانت لحاكم مصرف لبنان، وهذا يعني مباشرة جواز ملاحقة الحاكم في هذه الحالة في ظلّ غياب النصّ المانع من ذلك لانعدام القيد القانوني على الدعوى العمومية المساقة بحقّه والذي وحدهُ يحول دون هذا الأمر.
حيثُ ومن نحوٍ ثانٍ، إنَّ تمتُّع الحاكم بأوسع الصلاحيات بمقتضى القانون المُنشئ للمصرف المركزي لا يقود بالنتيجة إلى اعتباره متمتّعاً حُكماً بالحصانة القضائية باعتبار أنّهُ ليسَ مِن شأن الصلاحيات المُعزَّزة الممنوحة قانوناً لشخص يشغل موقع رسمي عام -ومهما كانت أهمّيته- أن تؤول بالضرورة إلى القول بوجود حصانة حُكمية لهُ لأنَّ الحصانات تُكرَّس بتشريعات ولا تُستنتّج من الصلاحيات. وعليه، ليسَ من شأن طبيعة المهام المتعدّدة المُلقاة على عاتق حاكم المصرف المركزي أن تجعلهُ متمتّعاً بالحصانة، بل من شأنها فقط أن تجعله مُتمتّعاً بأوسع الصلاحيات في سبيل النهوض بهذه المهام شريطة تكريسها له بنصٍّ قانوني، إذ إنّ المبدأ هو أيضاً “لا صلاحية بلا نصّ”، تماماً كما هو الحال بالنسبة للحصانات.
وفي هذا الصّدد، نصَّت المادة 26 من القانون الناظم للمصرف المركزي على منح الحاكم أوسع الصلاحيات لإدارة المصرف وتسيير أعماله نظراً لكون المشترع قد أخذَ بعين الإعتبار طبيعة المهام التي يُؤَدِّيها الحاكم في المَوقع الذي يشغله دون أن يكرِّس له في المقابل أيّة حصانات في أيٍّ من مواد القانون المذكور لرغبةٍ أكيدة من المشترع الذي أخذَ أيضاً في المُقابل بعين الإعتبار أهمّية هذا الموقع المالي والمصرفي العام وعدم جعل حاكمه دون ملاحقة إذا ما اقترفَ جرماً يمسّ بأهمّ خزينة في الدولة، فجعلهُ فقط متمتّعاً بأوسع الصلاحيات الإدارية لتأدية المهام الكبيرة المناطة به وبأعظم المخصّصات المالية لعدم التعدّي على الأموال العامة المؤتمَن عليها والموجودة تحتَ يديّه، دونَ منحهِ نتيجةً لذلك أيّة امتيازات قضائية لبقائه خاضعاً للمحاسبة القضائية مباشرةً دون عرقلات تمنع ذلك، وهو الأمر الذي يؤول إلى القول بأنَّ “الحاكم يتمتّع بصلاحيات لا بحصانات”.
حيثُ ومن نحوٍ ثالث، إنَّ تمتُّع الحاكم بحصانة قضائية بصفته رئيساً لهيئة التحقيق الخاصة بموجب نصّ صريح في القانون الناظم لهذه الهيئة، ليسَ من شأن ذلكَ أن يعني تمتُّعه حتماً بها بصفته كحاكمٍ لمصرف لبنان، وذلك لأنَّ الحصانة المكرّسة قانوناً لشخص بصفة قانونية محددّة بذاتها لا تمتدّ في أثرها القانوني إلى صفة قانونية أخرى لهُ قد يشغلها في الوقت عينه الشخص نفسه، باعتبار أنَّ الحصانة كانت قد كُرِّست لهُ تحتَ صفة قانونية معيّنة بالذات وليست تحتَ غيرها أو تحتَ صفته الشخصية الرسمية العامة ككلّ؛
بمعنى آخر، إنَّ الحصانة يتمّ تكريسها قانوناً لصفة محدَّدة بالذات يحوزها الشخص ولا تُكرَّس للشخص بذاتيته الشخصية في أيّ مَوقَعٍ كان فيه وخاصةً أنَّ الموقعٍ القانوني الذي يشغله الشخص والذي جاءَ خالياً من أيّة حصانة له فيه بمقتضى القانون الناظم له لا يتأثّر بموقع قانوني آخر قد يشغله ذات الشخص الذي تكرَّس حصانة لهُ فيه بمقتضى قانون آخر ناظم لهذا الموقع الآخر ولاسيّما أنّ افتراض أو استنتاج وجود الحصانة في مركز قانوني ما بالعطف على مركز قانوني آخر هو أمر غير سوي وغير مستقيم قانوناً لأنَّ الحصانات لا تُفترَض افتراضاً ولا تُستنتج استنتاجاً -كما سبقَ وأسلفنا- ولا يُمكن بالتالي الإستدلال عليها مِن خلال القياس لاختلاف المراكز القانونية المُتماثلة في هذه الحالة، ولذلك لا يمكن العطف على موقع آخر للقول بوجودها للشخص في موقعٍ خالٍ منها وخاصةً متى ما كان هذا الموقع يخضع لقانون آخر يتحدّث فقط عن حصانة للشخص فيه بصورة حصرية دون الموقع المُغاير الذي قد يشغله ذات الشخص أيضاً في ذات الوقت والذي يخضع فيه لقانون مختلف لم يمنح فيه أيّة حصانة على الإطلاق.
وعليه، لا يمكن القول بتمتّع حاكم مصرف لبنان بحصانة قضائية من خلال العطف أو القياس أو الإستدلال عليها من القانون الناظم لهيئة التحقيق الخاصة والذي كانَ قد منحه الحصانة بصفة أخرى تختلف عن صفته كحاكمٍ للمصرف المركزي وتتعلّق فقط بصفته كرئيسٍ لهيئة التحقيق الخاصة ولاسيّما أنَّ القول بعكس ذلكَ هو بمثابة “خلط الحابلِ بالنابلِ” بين صفتين قانونيتين متناقضتين في مؤسّستين مختلفتين مستقلّتين عن بعضهما البعض، ولهما مهام مغايرة كلّياً ويرعاهما قانونان مختلفان ويخضعان بالتالي لنظامين قانونيين غير متشابهين، وهو ما يوجب بالنتيجة حصر حصانة الحاكم بالمؤسّسة التي منحَ القانون الناظم لها هذه الحصانة له بحيثُ تبقى مفاعيلها محصورة فيها دون سواها ودونَ أنّ تتعدّى نطاقها، وخاصةً أنَّ الحصانة لا تتعلّق بشخصه لتمتدّ إلى أيّ موقعٍ كان فيه باعتبارها مرتبطة بالصفة القانونية المُحدّدة للمَوقَع بذاتهِ لا للشخص بذاتهِ.
لذلك، فإنَّ إمكانية الالتفاف على هذا المنطق القانوني باستنتاج أنّ للحاكم حصانة من القانون الناظم لهيئة التحقيق الخاصة هي إمكانية منعدمة تماماً طالما أنَّ هذه الحصانة غير موجودة لهُ قطّ في القانون الناظم لحاكمية مصرف لبنان.
زدْ على ذلك، أنَّ الاستدلال بهذه الطريقة على الحصانة لمنحها لحاكم المصرف المركزي تحت هذه الصفة تحديداً هو أصلاً توسّع في تفسير الإستثناء على الملاحقة القضائية المكرّس بالمادة 12 من القانون الناظم لهيئة التحقيق الخاصة والذي يجب تفسيره قانوناً بصورة ضيّقة وحصرية، فيصطدم الإستدلال بالتالي بعتبة مبدأ: “عدم جواز التوسُّع في تفسير الإستثناء” طالما أنّ الحصانة كقيد تُعامَل معاملة الإستثناء ولاسيّما أنَّ المبدأ هو جواز الملاحقة القانونية مباشرةً ما لم ينصّ المشترع على استثناء يُقيّدها ويحول دونها وخاصةً أنَّ المادة المذكورة قد نصّت صراحةً على أنَّ حصانته محصورة فقط ضمن نطاق عمله في هيئة التحقيق الخاصة دون سواها من الهيئات الأخرى الذي قد يشغلها، وبدليل ما جاءَ في حرفيّتها على:”تمتُّع كلّ من رئيس هيئة التحقيق الخاصة وأعضائها والعاملين لديها أو المنتدبين من قبلها بالحصانة ضمن نطاق عملهم بحيث لا يجوز الإدعاء عليهم أو على أحدهم أو ملاحقتهم بأيّة مسؤولية مدنية أو جزائية تتعلّق بقيام أيّ منهم بمهامهم…”. وهذا يعني أنّهُ حتّى هذه المادة التي كرَّست حصانة للحاكم بصفته رئيساً لهيئة التحقيق الخاصة حصرتها فقط بأعماله لديها وضمن نطاق عمله ومهامه فيها، فلا تكون له بالتالي حصانة مطلقة خارج نطاق هذه الهيئة ولاسيّما في ظلّ صراحة النصّ المذكور على تخصيص الحصانة بصفته فقط كرئيس لهيئة التحقيق الخاصة وليس كحاكمٍ للمصرف المركزي ونتيجةً لذلك فإنَّهُ إذا ما اقترفَ جرماً ناشئاً أو مرتبطاً بعمله ومهامه في هذا المصرف لا عن عمله ومهامه في هيئة التحقيق الخاصة المنفصلة والمستقلّة بشخصيتها المعنوية عن المصرف المركزي، لا يكون بالتالي حاكم المصرف المركزي- متى ما تمّت ملاحقته قضائياً تحتَ هذه الصفة – متمتِّعاً بأيَّة حصانة قانونية في هذا الصّدد طالما أنَّ القانون الناظم للمصرف المركزي لم يكرسّ له أيّة حصانة، على عكس ما فعل القانون الناظم لهيئة التحقيق الخاصة.
وعليه، لا يُمكن بالتالي استنتاج الحصانة لحاكم المصرف المركزي عن طريق العطف على قانون آخر يتحدّث في الحقيقة عن حصانته بصفة أخرى له مختلفة كليّاً وجذريّاً عن صفته كحاكم لمصرف لبنان وتتعلّق فقط بصفته كرئيس لهيئة التحقيق الخاصة وخاصةً أنّ حاكم المصرف المركزي يخضع في هذه الصفة فقط للقانون الناظم للمصرف المركزي، لا للقانون الناظم لهيئة التحقيق الخاصة، وبالتالي ليس من شأن إشغال الحاكم نفسه لذات الموقّعين العامين المختلفين أن يجعلَ من الحصانة المكرَّسة له فقط في أحد هذين الموقعين مُمتدة حكماً إليه على الموقع الآخر لاختلاف النظام القانوني الذي يُطبَّق على حاكم مصرف لبنان عن ذاكَ الذي يُطبّق على رئيس هيئة التحقيق وخاصةً أنّ الحاكم ولكونه رئيساً للمصرف المركزي يشغل منصباً حكمياً برئاسة هيئة التحقيق الخاصة وليس العكس، وبالتالي فإنَّ استنتاج حصانة له من موقع ارتبطَ به بصورة تبعية انطلاقاً من موقعه الأساسي هو بمثابة استنتاج لامتيازات بصورة تبعيّة لا بصورة أصليّة وهو ما لا يستقيم قانوناً، باعتبار أنَّه ليسَ للأصل أن يتبَع الفرع الذي تمّ تخصيصه قانوناً باستثناءات جعلته مستقلاًّ بها عن الأصل في مسألة معيّنة.
وحيثُ إنَّ ما يؤكّد صوابية وصحّة هذه النتيجة القانونية ويقطع الشكّ باليقين حولها هو أنَّ حاكم المصرف لبنان الذي يرأس المجلس المركزي فيه لا يشغل فقط منصب رئيس هيئة التحقيق الخاصة وإنَّما يشغل أيضاً رئاسة هيئات رسمية أخرى على علاقة بالمصرف المركزي هي الهيئة المصرفية العليا وهيئة الأسواق المالية ولم ينصّ القانون الناظم لهما على منحهِ أيَّة حصانة متعلّقة بهاتيّن الصفتيّن لهُ، الأمر الذي يعني معه عدم إمكانية استنتاج حصانة لحاكم المصرف المركزي من القانون الناظم لصفة أخرى له والذي كانَ قد حصرَ فيه حصانته تحتَ سقف هذه الصفة فقط دون سواها وذلك عن الأعمال التي يمارسها بمقتضاها وضمن حدود نطاقها، كما جاء حرفياً في نصّ المادة 12 السالفة الذكر.
وعلى ذلك، لا يمكن استنتاج لحاكم المصرف المركزي حصانة عن أعماله في هذا المصرف انطلاقاً من صفته كرئيس لهيئة التحقيق الخاصة لانعدام التلازم بينهما نتيجة عدم ارتباط مهامه واختصاصاته في كِلا الموقعين المستقلين المنفصلين وبالتالي إنعدام التشابك بين صلاحيته في هذين المركزين المذكورين الخاضعين لنظامين مختلفين.
حيثُ ومن نحوٍ رابع، لو كانَ حاكم المصرف المركزي يتمتّع فعلاً بحصانة قضائية تحتَ هذه الصفة لكانَ المشترع – لو أراد- قد نصّ صراحةً على ذلك في القانون الناظم لهذا المصرف، تماماً كما فعلَ في القانون الناظم لهيئة التحقيق الخاصة؛ أمَّا وأنّهُ لم يفعل ذلك، فهذا يعني أنّ نيَّة المشترع اتجهت بصورة مباشرة لعدم تكريس أيّة حصانة لهُ تحتَ الصفة المذكورة، وبالتالي لا حصانة حيثُ لم يُقرِّر المشترع صراحةً وجودها لشخص يتمتّع بصفةٍ قانونيةٍ ما في مركزٍ قانونيّ معيّن، لانتفاء النصّ التي تقوم بقيامهِ وتنعدِّم بانعدامهِ.
حيثُ ومن نحوٍ خامس، إنّ ما يُعزِّز عدم تمتّع حاكم مصرف لبنان بأيّة حصانة تحت هذه الصفة القانونية التي يحوزها هو القانون ذاته الناظم لعمله في المصرف المركزي والذي كان المشترع فيه بالغ الدقّة في تنظيم كلّ ما يتعلّق بحاكمية مصرف لبنان حيثُ نصَّ في المادة 19 منه على أسباب محدّدة على سبيل الحصر لإمكانية إقالة حاكم مصرف لبنان ومنها إدانته بحكم صادر عن القضاء الجزائي لإخلاله بالواجبات الوظيفية في ما عناه الفصل الأوّل من الباب الثالث من قانون العقوبات وهو ما يمكن معه الإستنتاج بأنَّه لو كان المشترع يبتغي فعلاً تكريس حصانة له تجاه أيّة ملاحقات قضائية لنصَّ صراحةً في هذا الصدد من المادة المذكورة على ذلك بوضعهِ قيداً يمنع ملاحقته إلاَّ بترخيص أو إذن مسبق من مرجع معيّن طالما أنّه تصدَّى لإمكانية إقالته حال ارتكابه لجريمة تتعلّق بالموقع الذي يشغله أو لكان قد نصّ صراحةً على تعليق الإقالة في هذه الحالة بناءً على اقتراح الحكومة التي عيّنته أو بعد استطلاع رأيها في ظلّ إشارة المشترع نفسه صراحةً في ذات المادة المذكورة على أنَّ إقالة نوّاب الحاكم من وظيفتهم لا تكون إلاَّ بناءً على اقتراح الحاكم أو بعد استطلاع رأيه. وعليه، في ظلّ هذه الدقّة التشريعية لا يمكن الإستنتاج بأنَّ المشترع أغفلَ عن غير قصد النصّ على تكريس حصانة للحاكم بل أنَّ هذا الاغفال التشريعي هو مُتقصَّد ولو كان المشترع يرغب بذلك لكان النصّ المذكور مختلفاً تماماً، لأنّهُ مثلما كان المشترع دقيقاً في تحديد أسباب وشروط إقالة الحاكم كانَ كذلك الأمر دقيقاً في عدم تحديد أيّة حصانة له حِيال أيّة ملاحقة قضائية حين اقترافه لجرم يمكن معه إقالتهُ أيضاً وبصرف النظر عن أهمّية موقعه الذي لا يُغيِّر من هذه النتيجة شيئاً إعمالاً لمبدأ: “لا امتياز قضائي بلا نصّ” طالما أنّ مفهوم الحصانة هي امتياز الإعفاء من ممارسة الولاية القضائية تجاه من يَشغل موقع رسمي معيّن تحتَ صفة معيّنة وهي لا تكون إلاَّ بمقتضى قواعد مانعة، تُضيِّق أو تَحدّ من الاختصاص القضائي ولاسيّما أنَّ الأصل هو إباحة الملاحقات، والإستثناء هو تقييدها، والقيد لا يكون إلاَّ بنصّ صريحٍ.
حيثُ ومن نحوٍ سادس وأخير، إنَّ ما يُعزِّز صوابية الرأي بعدم تمتّع حاكم المصرف المركزي بصفته المذكورة بأيَّة حصانات على الإطلاق هي الحجج والبراهين التالية:
1- عدم خضوع الحاكم للنظام العام المطبَّق على الموظّفين العموميين بموجب المرسوم الاشتراعي رقم 1959/112، بل لنظام خاص محدَّد في قانون النقد والتسليف الناظم لعمله في مصرف لبنان الذي يديره ويترأسه، فهوَ ليسَ بموظّفٍ عامٍ وفق المفهوم القانوني لهذا المصطلح بل هو متولّي لهيئة عامة ذات شخصية معنوية مستقلّة بحسب المادة 13 من قانون النقد والتسليف وهو بالتالي ذو طبيعة قانونية خاصة ومنفصلة عن الطبيعة القانونية للموظّف العام لاختلاف المركز القانوني الذي يشغله عن المركز القانوني للموظّفين العموميين وخاصةً أنَّ الطبيعة القانونية للمركز الذي يتبوَّأهُ لا ينطبق عليها إطلاقاً طبيعة الوظيفة العامة وبدليل عدم تعيينه بذات آلية تعيين موظّفي الفئة الأولى وعدم إقالته كذلك الأمر وفق الأسباب والشروط الخاصة بهم، بل وفق أسباب وشروط محدَّدة خاصة بهِ وحدهُ نصّ عليها القانون الآنف الذكر وبدليل عدم وصفه تشريعياً في أيّ من قوانين الدولة اللبنانية كمديرٍ عام أو كموظّف فئة أولى، بل تمّت تسميته صراحةً “حاكماً” لِما لهذه التسمية من مدلولات كبيرة غير موجودة قطّ في أيِّ إدارة أو مؤسّسة عامة، إلاَّ في الموقع الذي يشغلهُ؛ وبدليل أيضاً عدم تقاضيه راتباً وظيفياً كسائر الموظّفين العموميين، بل فقط مخصَّصات مالية تُحدَّد بنظامٍ خاص من قبل المجلس المركزي في مصرف لبنان على ما نصّت عليه صراحةً المادة 22 من قانون النقد والتسليف.
وعليه، فإنَّ كلّ ذلك يعني خضوع حاكم المصرف المركزي لنظام قانوني مختلف عن نظام الموظّفين العموميين ذوي الصفَّ الأوّل والذي أوجبَ القانون لملاحقتهم أخذ إذن مُسبق من الوزير الذي يدير الوزارة التابعين لها بحسب ملاكهم الوظيفي وذلكَ على عكس النظام القانوني الخاضع له الحاكم المتمثِّل بالقانون المنشئ لمصرف لبنان والذي جاءَ خالياً من الإشارة إلى أيّ إذن مُسبق يجب الحصول عليه قبل ملاحقته رغمَ نصّه صراحةً على إمكانية إقالته من منصبه بسبب إدانته بحكمٍ جزائي يتعلّق بمهامه فيه في المادة 19 منه كما سبقَ أسلفنا.
زد على ذلك، أنَّ خير دليل على عدم اعتبار الحاكم موظّفاً عاماً وعدم وجوب الحصول على إذن وظيفي لملاحقته قضائياً بجرائم ناتجة عن مهامه في المصرف المركزي هو التشريع الإستثنائي رقم 71 تاريخ 1967/12/16 المُؤلَّف من مادة وحيدة نصَّت على ما حرفيّته:”خلال مدّة شهر واحد من تاريخ العمل بهذا القانون، واستثناءً من الأحكام المخالفة من قانون النقد والتسليف، لا سيّما المادة 25 منه، يُمكن أن تُسند مهام حاكم مصرف لبنان لمدّة أقصاها ستّة أشهر لنائب الحاكم الأوّل في المصرف المذكور أو لأحد موظّفي الفئة الأولى في الإدارات العامة الذين تتوافر فيهم الشروط المفروضة لتعيين الحاكم. ولِلقائم بمهام الحاكم سائر الحقوق والصلاحيات التي للحاكم، وعليه سائر الموجبات. لا يُطبَّق على القائم بمهام الحاكم المعيّن عملاً بأحكام الفقرة الأولى أعلاه موجب التفرّغ الكلّي المنصوص عليه في المادة 20 من قانون النقد والتسليف وموجب الوضع خارج الملاك المنصوص عليه في نظام الموظّفين. يتقاضى القائم بمهام الحاكم، من موازنة نفقات المصرف الفرق بين مخصَّصات الحاكم وما يتقاضاه في وظيفته الأصلية”. وهذا الأمر بمثابة إقرار تشريعي صريح بأنَّ الحاكم ليسَ بموظّفٍ عام من الفئة الأولى في ظلّ صراحة النصّ المذكور على إمكانية إسناد حاكمية مصرف لبنان إستثناءً لأحد موظّفي الفئة الأولى ضمن شروط معيّنة ولمدّة معيّنة وإلاَّ لَما كانَ المشترع قد عمدَ أصلاً إلى تقييد ذلك بهذا الإستثناء الصريح.
2- عدم وجود سلطان رقابة أو سلطة إشراف على الحاكم في أداء مهامه من أيِّ مرجع إداري أو أيّة سلطة في الدولة لكونه سلطة حاكمة بحدّ ذاتها ذات طبيعة مستقلّة عن الوظائف العامة وخاصةً أنَّ علاقته مع السلطة التنفيذية قائمة فقط على التعاون والتنسيق دون أيّة تبعيّة إداريّة بحسب ما أكّدته أحكام المادة 71 وما يليها من القانون الناظم لعمله. وهذا يعني عدم خضوع الحاكم لأيّ سلطة وصاية تُمارس عليه من أيّ جهة كانت حكومية أو غير حكومية، لعدم وجود أيّ مرجع مختص بالوصاية الإدارية عليه بحسب صراحة النصوص القانونية وهوَ ما ينسجم تماماً مع تسميتهِ حاكماً، والحاكم مستقلّ في حكمه ولا يخضع للوصاية وخاصةً أنَّ المادة 40 من المرسوم الإشتراعي رقم 1972/4517 تؤكّد صراحةً خضوع كلّ العاملين في مصرف لبنان إلى قانون إنشائه فقط وبالتالي خضوع الحاكم حُكماً لأحكام قانون النقد والتسليف المنشئ للمصرف المركزي دون سواه، وليس في هذا القانون ما يدلّ أو يشير من قريب أو بعيد إلى ضرورة الإستحصال على أيّ إذن قبل ملاحقة الحاكم ولم يكرِّس له أيّة حصانة في أيّة مادة من مواده، وبالتالي يجوز قانوناً ملاحقته مباشرةً طالما أنَّ الحصانة التي تعترض سماع الدعوى العمومية هي استثناء على الملاحقات الجزائية المباشرة ولا يمكن القول بوجودها إلاَّ بنصّ عملاً بمبدأ:”لا استثناء بلا نصّ”؛ وعليه، فإنَّ الإستثناء على الملاحقة الجزائية المباشرة والمتعلّق بقيد الحصانات لا يتوافر قانوناً إلاَّ بنصّ واضح وصريح ولا يجوز حتَّى في حال وجود النصّ التوسُّع أصلاً في تفسير هذا الإستثناء أو القياس قانوناً عليه، فكيفَ والحال عندَ عدم وجود نصّ إطلاقاً في أيّ من قوانين الدولة اللبنانية يمنح حاكم مصرف لبنان أيَّة حصانة بهذه الصفة المحدَّدة لهُ وخاصةً أنّهُ لو شاءَ المشترع منح حاكم مصرف لبنان بصفته المذكورة حصانة لنصّ على ذلك صراحةً بنصّ خاص دونَ تردّد، كما فعلَ حين منحه الحصانة بصفته “رئيساً لهيئة التحقيق الخاصة” والتي كرَّسها أيضاً لجميع أعضاء الهيئة المذكورة بمقتضى المادة 12 من قانون الناظم لها والتي تتعلّق حصراً بالمهام التي يتولّونها في هذه الهيئة وضمن نطاق عملهم فيها، دون أن تمتدّ لتشمل أعمالهم في مؤسّسات عامة أو هيئات أخرى تخضع لقوانين وأنظمة مختلفة.
وعلى ذلك، وفي ظلّ صراحة النصوص الواردة في القانون الخاضع له حاكم المصرف المركزي والتي أعطته أوسع الصلاحيات في إدارة المصرف المركزي وتسيير أعماله والتي لم تجِز إقالته إلاَّ وفقاً لأربع حالات محدَّدة على سبيل الحصر، هي نفسها لم تمنحه في المقابل أيّة حصانة على الإطلاق، ولم تخضعه شخصياً لأيّة رقابة أو وصاية، ولم تربطه برابطة “تبعيّة” مع أيّ شخص عام أو مرجع إداري أو حكومي مختص يمكن العودة إليه لإعطاء الإذن، بل على العكس من ذلك كرّست صراحةً إستقلاليّته التامّة وتجاهلت في المقابل منحه أيّة حصانة، وخاصةً أنّهُ يتضِّح جليَّاً بالعودة إلى مُجمَل الأحكام والنصوص الواردة في قانون النقد والتسليف وإنشاء المصرف المركزي -الناظم لعمل الحاكم الذي يرأس هذا المصرف والذي يُحدد المهام والصلاحيات المنوطة بهِ ووضعه القانوني لهذا الأخير- أنّهُ لا يوجد إطلاقاً رقابة تُمارس عليه من أيّة جهة رسمية لا من قِبَل وزارة المال، ولا من قِبَل الحكومة، ولا من قِبَل مُفوّض الحكومة، ولا من قِبَل أيّ كان، وخاصةً أنَّ مدير عام وزارة المالية ومدير عام وزارة الاقتصاد المُمثّلين للسلطة التنفيذية لا يتصرّفان في المجلس المركزي لمصرف لبنان كمندوبين عن الحكومة ولا سلطة رقابة لهما عليه، وليس لهما أن يتصرّفا داخل المجلس بصفتهما الحكومية، وهما لا يمارسان لدى المصرف المذكور سوى المهام المتصلة بصفتهما كعضوين حُكميّين في المجلس المركزي لمصرف لبنان والذي يتألّف بالإضافة لهما مِنَ الحاكم رئيساً ونائبيه على ما ورِدَ في المادة 28 من القانون المذكور، وخاصةً أنَّ مفوّض الحكومة لدى المصرف المركزي والتابع لوزارة المال، يتولّى فقط مراقبة محاسبيّة المصرف لا مراقبة الحاكم شخصياً في أعماله، ويُطلِع وزير المالية دورياً على أعمال المراقبة الحسابية التي أجراها، فلا يكون بالتالي من مجال لاستخلاص من ذلك أنَّ لوزير المالية الحقّ في ممارسة أيّة وصاية على حاكم المصرف المركزي لعدم إمكانيته قانوناً في إصدار الأوامر أو التوجيهات له أو حتّى طلب إقالته بكونه ليسَ موظّفاً عاماً بالمفهوم القانوني الضيّق المقصود بهذا المصطلح، وخاصةً أنَّ الحقّ في ممارسة الوصاية الإدارية على مرفق عام لا يمكن افتراضه بطريق الاستنتاج، بل يجب أن ينصّ المشترع لزاماً على ذلك صراحةً، بما يُفضي ذلك حكماً إلى انعدام الحاجة إلى أيّ إذن بالملاحقة الجزائية ضدّ الحاكم لعدم وجود أيّ مرجع مختص لطلب الإذن منه بالملاحقة، وبالتالي لانتفاء المُبرِّر القانوني لطلب الإذن في هذه الحالة لانعدام الحصانة نتيجةً لانعدام السلطة التسلسلية على الحاكم المستقِّل استقلالاً تاماً في حاكميته لدى المصرف المركزي.
وحيثُ إنه في ضوء ما تقدّم، نخلُص إلى القول بأنَّ حاكم مصرف لبنان هو متولّي لهيئة عامة مستقّلة وذات طبيعة خاصة ولم ينصّ نظامها القانوني الخاضع له على أيّة حصانة لهُ، وبالتالي فإنّ ملاحقته ليست بحاجة لإذن مسبق طالما لا يوجد مرجع يخضع لوصايته أو لرقابته وخاصةً أنَّهُ ليسَ بموظفٍ عام، ولا يخضع بالتالي لقانون الموظّفين، بل لأحكام القانون المُنشِئ للمصرف المركزي دون سواه، والذي كرّس ذلك صراحةً في إحدى مواده والذي لا يوجد فيه على الإطلاق أيّ نصّ يفيد صراحةً بحصانة الحاكم، ولاسيّما أنَّ العلم القانوني مستقرّ على أنَّ الحصانة هي بمثابة قيد استثنائي على الملاحقة الجزائية، ولا يمكن القول بوجودها إلاَّ بنصٍّ قانوني صريح يكرّسها لشخص يتمتّع بصفة معيّنة بذاتها، تماماً كما هو حال سائر الحصانات المكرّسة لأشخاصٍ محدّدين بصفاتهم نصّ عليها لهم المشترع صراحةً في القوانين الناظمة لعملهم، بما يوجب بالنتيجة ولهذا الأسباب القانونية الموجبة السالفة الذكر السير في الدعوى العمومية التي قد تُساق قضائياً بحقّ حاكم مصرف لبنان متى ما تمَّ تحريكها أصولاً سنداً لأحكام قانون أصول المحاكمات الجزائية، سواء تمَّ ذلكَ بادعاء النيابة العامة المختصة أو بالإدعاء الشخصي المباشر من المتضّررين من الجرائم المنسوب إليه اقترافها والمرتبطة بمهامه في حاكمية المصرف المركزي.
*عضو الدائرة القانونية لحراك “الشعب يريد إصلاح النظام”.
“محكمة” – الأحد في 2020/11/15