حاكم مصرف لبنان والمنظومة الحاكمة/ فرانسوا ضاهر
القاضي السابق والمحامي فرانسوا ضاهـر:
إنّ العقد الذي أبرم سنة ٢٠٠٢ بين مصرف لبنان وشركة “فوري” والذي بموجبه مُنحت الشركة المذكورة حصرية تسلّم وتسليم شهادات الإيداع وسندات الخزينة وشهادات اليوروبوندز، التي كانت تُصدرها الدولة اللبنانية ممثلةً بوزير المالية أو يُصدرها مصرف لبنان، لمقرضيهما من أفراد ومؤسّسات مالية دولية ومصارف محلية أو أجنبية بالعملتين اللبنانية والصعبة لقاء عمولة تستوفيها من هؤلاء المقرضين كمداخيل مباشرة لها، قد تمّ بعلم ومعرفة أركان الدولة أجمعين.
علماً أنّ هذا النوع من التعاقد الذي له طابع شرعي في الشكل، هو غير قانوني في المضمون، لأن مصرف لبنان أولى شركة خاصة حصرية تسلّم وتسليم سندات وشهادات الإقتراض العمومية الى المقرضين لقاء منافع مالية تستوفيها منهم لنفسها.
في حين، أنه كان بإمكانه أن يُتمِّ هو هذه العملية حتّى تشكّل المداخيل والعمولات الناشئة عنها إيرادات ومداخيل لمصلحة الخزينة العامة أو حتى لمصرف لبنان بالذات. فيكون بالتالي الإمتياز الذي منحه مصرف لبنان لشركة “فوري” غير مبرّر وغير مشروع من زاوية أنه كان الأجدى به أن يحتفظ به لنفسه.
وإنه إذا كانت مداخيل شركة “فوري” من هذا العقد غير مشروعة وهي تعود ملكيتها لشقيق حاكم مصرف لبنان في الظاهر. غير أن هذا الأخير هو في موقع الشبهة حكماً بالإفادة من المداخيل التي كانت تجنيها تلك الشركة.
وإنه إذا ما تبيّن أن الأموال التي دخلت الى حسابات شركة “فوري” قد تمّ تحويلها الى الخارج وقد تمّ شراء مقتنيات وأوراق مالية وعقارات بها في بلدان أجنبية، وهي واقعة على إسم حاكم مصرف لبنان أو شقيقه، فنكون أمام جرم تبييض الأموال. بحيث يعود للدول حيث تقع تلك الأموال، أن تبادر الى ملاحقة حائزيها ومالكيها أينما يقيمون وأيّاً تكن جنسيتهم.
وتكون بالتالي الدول الأوروبية الثلاث اللوكسمبورغ وفرنسا وألمانيا حيث تتواجد تلك الأموال على أراضيها معنيّة بالتحقيق مع الأشخاص الذين يملكونها للتثبّت من مشروعية الأموال التي اكتسبوها بها.
أما غضّ طرف أركان المنظومة عن كلّ هذه المسألة أو هذا الملف ومحاولتها طمسه أو على الأقل إطفائه عبر أتباعها في المؤسسة القضائية، فلأنها ولّت حاكم مصرف لبنان إدارة كلّ السياسة المالية والنقدية في البلاد، بخاصة بعد إندلاع الأزمة المصرفية فيها وتظهّر حالة الشحّ الهائل في سيولتها. ما انعكس سلباً على سعر صرف العملة الوطنية، وتالياً على قدرتها الشرائية، في ظلّ السياسات الخارجية التي مُورست وأدّت الى وقف رفد لبنان بالعملات الصعبة بصورة إنحدارية على التوالي منذ سنة 2014 وحتى تاريخه.
وإذ بمصرف لبنان، إنفاذاً للمهمة الموكلة إليه، أن بادر الى إصدار التعاميم تباعاً التي شكّلت ضبطاً لسحوبات المودعين بالعملتين اللبنانية والأجنبية،
كذلك إقتطاعات جذريةً على تلك السحوبات المرخّص بها. وذلك بهدف تحجيم كتلة الودائع وإيفائها بالتجزئة بأقلّ بكثير من قيمتها الإسمية.
كما عمد أيضاً الى إصدار غيرها من التعاميم التي مكّنت المقترضين من المصارف بالعملة الأجنبية من إيفاء ديونهم تجاهها، إما بواسطة الشيكات المصرفية بذات العملة وإما نقداً بالعملة الوطنية على سعر صرفها الأساسي (1507 لل./د.أ.). الأمر الذي كبّد تلك المصارف خسائر مليارية تُرجِمت شحّاً في سيولتها تجاه مودعيها.
وفي مرحلةٍ لاحقة أصدر مصرف لبنان التعميم 161 الذي كان مصدراً لتدخّله في السوق الحرّة من زاوية ضخّ العملة الصعبة فيها على حساب إحتياطاته بتلك العملة التي تعود لودائع المودعين المودعة من المصارف لديه.
كما وعمّم إستخدام هذا التعميم على رواتب موظفي القطاع العام في لبنان البالغ عددهم حوالي /000 320/ موظفاً بدون أية سقوف لقيم تلك الرواتب، بحيث مكّنهم من استيفائها بالدولار الاميركي النقدي على سعر شرائه المعلن على منصة صيرفة.
كما ووسّع أيضاً نطاق التعميم المذكور ليشمل الأفراد والمؤسسات والشركات إذ رخّص لها بشراء الدولارات الأميركية بالليرة اللبنانية من منصة صيرفة، بدون أية سقوف لحجم الكتل الدولارية المشتراة. بحيث كانت تعمد في ما بعد الى بيعها في السوق الحرة محقّقة ربحية مجانية ملموسة، ناتجة عن الفارق في تسعيرتي الدولار الاميركي، الأمر الذي أدّى الى استنزاف وتبديد إحتياطات مصرف لبنان بالعملة الصعبة بشكلٍ دراماتيكي.
بحيث يكون كلّ ما أصدره مصرف لبنان من تعاميم قد رمى في مجمله الى إجراء إقتطاعات جذرية على الكتلة الإيداعية للمودعين بالعملة الصعبة في المصارف والى تصفية ديون المقترضين منها بخسائر هائلة ألحقها بها وإرتدّت نقصاً وشحّاً في سيولتها تجاه هؤلاء المودعين أنفسهم.
فضلاً عن أن المصرف المذكور قد عمد أيضاً الى تبرئة الدولة من مديونيتها العامة من خلال قيدها على نفسه توظيفات أخرى (other assets)، بدلاً من خسائر، في ميزانياته، ما أدّى الى تحريرها من عبئها وحصر إيفائها بأصول مصرف لبنان وإحتياطاته الخاصة، التي لا تتناسب بشيء مع مقدار وحجم ودائع المودعين بالعملة الأجنبية العالقة لدى المصارف، والتي لا تتوافر فيها السيولة لردّها الى أصحابها.
ضمن هذا الإطار العام كلّه، نفهم كيف أنّ أركان المنظومة الحاكمة المقرّرة في البلد تغطّي الشبهات الجرميّة التي تدور حول أفعال حاكم مصرف لبنان وشقيقه رجا وأتباعهما، وكيف أنها عجزت عن عزله من منصبه، وكيف أنها غير متفقة بعد على إستبداله، وكيف أن بعضها لا يتورّع حتى عن الهمس بإسمه كمرشح لرئاسة الجمهورية؟
فذلك لأن الحاكم المذكور قد مارس كلّ السياسات التي بدّدت ودائع المودعين في المصارف، وأثرت المقترضين على حساب هؤلاء المودعين، وأطاحت بإحتياطات مصرف لبنان بالعملة الصعبة، على قدم وساق، ولا سيما بالتعميم 161 وتطبيقاته. فضلاً عن كلّ سياسة الدعم العشوائي واللامحدود للسلع الإستهلاكية والمحروقات التي إستمرّ في ممارستها بعد 2019/10/17 وتغطيته للتحويلات المالية الطائلة التي تمّت إلى الخارج حتى بعد هذا التاريخ.
حتى يصحّ الإستنتاج بأن أركان المنظومة الحاكمة المقرّرة تعمل بالتنسيق والتماهي والتواطؤ مع حاكميّة مصرف لبنان كوحدة متكاملة متضامنة على حساب ودائع المودعين في المصارف.
وإن كلّ مداعاة من هؤلاء المودعين لا تستقيم إلاّ إذا اتّخذت طابعاً جنائياً دولياً، يُثار أمام “المحكمة الجنائية الدولية” من زاوية أن هناك “جريمة إبادة شعب بأكمله”، او “جريمة ضد الإنسانية”، قياساً على “جرائم القتل الجماعي” او “التطهير العرقي” التي تختص بالنظر فيها، والتي تمّت على أيدي أركان المنظومة الحاكمة المقرّرة ومصرف لبنان وإداريي ومساهمي المصارف على حدٍّ سواء.
“محكمة” – الخميس في 2023/3/16