حرمتنا السياسات الفاسدة جنى أيامنا.. ولإعادة النظر باعتكاف القضاة/ماري تراز القوال
النقيبة ماري تراز القوال*:
ما دمنا قد دخلنا في “يوم المحامي” مزيّنين بالشعر، يحسن بي أنا أيضًا أن أستهلّ ببيتٍ منه، بل بصدر بيتٍ، فأقول: قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ. ذلك أنّنا أصبحنا الآن على أطلال دولةٍ وأطلال قضاءٍ وأطلال مهنة، فجدير بنا أن نقف ونستوقف ونبكي ونستبكي نظير ما فعل امرؤ القيس الملك الضلّيل.
ولعلَّ أقسى وطأة الدهر على أهل الحقّ أن يروا خرابهم مستشريًا، فيرفعوا الحناجر والأقلام، ولا من يسمعون لهم ولا من يقرأون. أن يتعب منهم الكلام وهم يدعون أصحاب السلطة إلى احترام المواعيد الدستورية، وقطف ثمار الاستحقاقات عن شجرة الوطن في أوانها، كي لا تهترئ وتسقط وتُداس، أن يشهدوا عبث الزمان وبعض قادة هذا الزمان اللبناني، بأركان وطنٍ أُريد له أن يكون نطاق حريةٍ، ومجتمع وحدةٍ متنوعة، ومثال تنوّع ٍموحّدٍ، فإذا الحرّية فيه مهدورة، والوحدة ممزّقة، والتنوّع مصلوب على خشبة المصالح الفئوية والنعرات الطائفية القاتلة.
ويزيد الجرح نغرًا ما انتهت إليه البلاد من أزمات مالية ومعيشية واقتصادية تطاول الحياة في أبسط مقوّماتها، فيما ذوو شأننا متلهّون عنها بتناتش اللّقم على مائدة سلطةٍ لم تعد باذخةً كما عهدوا…
وربَّ سائلٍ: هل للمحامين من دورٍ في هذا الضّياع؟ جوابي نداءٌ إلى الزملاء المحامين النوّاب، لا أن يقوموا بدورهم الانتخابي متى دعوا إليه فقط، بل أن يمضوا فيعتصموا جميعهم معًا منذ اليوم في مبنى البرلمان، ولا يغادروه حتى انتخاب رئيسٍ جديد للجمهورية، لأنّ انتماءهم إلى الوطن وديمومته، وإلى الحقّ الذي تمثّله نقابتاهم، والذي مارسوه دفاعًا طويلًا عريضًا عن القانون والقيم والإنسان، أرفع مقامًا وأجلّ مسؤوليةً من انتمائهم إلى طوائفهم وأحزابهم ومناطقهم. فهل هم فاعلون؟ وهل هم مؤمنون حقيقةً بأنّ الفراغ فتنة أشدّ من القتل؟؟
أمّا الطلل القضائي فبكائية تحفر مجاري الدمع في القلوب والضمائر قبل الجفون والوجنات. لكنّني سألتزم بموجب التحفّظ الذي تفلّت منه بعض السادة القضاة، وأكتفي بأن أخاطبهم بالمبادئ التي بها يؤمنون ولأجلها يعملون: إنّ استقلالية القضاء حقّ للوطن وللمواطنين، مثلما هو للسلطة القضائية سواءٌ بسواء. هو حقٌّ لنا عليكم في أن تصونوا استقلاليتكم وتمنعوا بحصانتكم الذاتية كلَّ أنواع التدخّلات، كما تفعل الكثرة الساحقة منكم عندما تغلق أبوابها دون الطارقين؛ وهو حقٌّ لنا ولكم على السلطة التشريعية التي ينبغي لها أن تلتزم بأحكام الدستور الذي ينصّ بصراحة على استقلالية القضاء، فتقرّ قانونه الذي طال مبيتًا في اللجان والمناقشات.
أمّا الاعتكاف النبيلة أهدافه المحقّة، فقد ظلّ حتّى الساعة من دون نتائج إيجابية؛ فينبغي إذًا إعادة النظر فيه كوسيلةٍ، أوّل من يدفع ثمنها نحن والشعب والعدالة. وأشير هنا إلى أنّ مجلس نقابة المحامين في طرابلس، كان قد أصدر في الخامس والعشرين من آب الفائت، بيانًا أكّدَ فيه أنّ “تضامن المحاماة مع القضاء، منذ قيام الدولة إلى الآن، يحتّم على نقابتي المحامين أن تكونا معوانتين للسلطة القضائية في معركة المطالبة بحقوقها، وذلك عبر العمل الإيجابي المتمثّل في بحث أفكارٍ واقتراحات يمكنها أن تسهم في تعزيز الوضع المادي للقضاة والمحاكم، ولو بصورة مؤقّتة، ريثما تقرّ خطّة التعافي المنشود وتبدأ الأزمة المالية بالانحسار”.
وهذا ما صرنا إليه، ولو متأخّرين شهرًا ونيّفًا، في اللقاء الذي انعقد بين النقيبين في بيروت وطرابلس ورئيس مجلس القضاء الأعلى، ثمّ تبعته زيارة النقيبين إلى القصر الحكومي للمطالبة بحلول محدّدة… وأكتفي بهذا المقدار.
أمّا عن المهنة فآهٍ ثمّ آه. لقد حرمتنا السياسات الفاسدة جنى أيامنا، وصادرت صناديق نقابتينا، وأغلقت دوننا العمل، ودفعتنا إلى تعليق أثوابنا على مشاجب الانتظار المحرق للأعصاب والأعمار. لكنّنا ما زلنا نكافح بكلّ الوسائل لفتح كوّةٍ في هذا الجدار السميك؛ ولعلّنا عمّا قريبٍ واصلون إلى بعض ما نسعى إليه.
وبعد هذا كلّه، وفي غمرة الحزن الذي ينتابنا أجمعين وبخاصة في نقابة طرابلس، على رحيل من لا يزال ملء الحضور اليومي، في كلّ لفتةٍ ومجلسٍ ولقاء، نقيبنا العزيز بسام الدايه، الشريك في فكرة هذا اليوم وفي إقرار التعييد له، يبقى للمحامين أن يسألوا: كيف يستقيم لنا فرحٌ، والحلكة حولنا في كلّ صوب؟ وعليّ أن أجيب بما قلته قبلًا من أنّنا مؤمنون بأنّ هذا البلد هو فعلًا وطن الفينيق والعنقاء وتموز، وكلّ رموز القيامة في مفاهيم الحياة التي لا تنحني. ولهذا سنظلّ نقيم العيد ونبتهج، وسنبقى أمناء على القسم الذي ارتفعت به أيماننا وأصواتنا، لا من أجلِ أنفسِنا فحسب، بل من أجل لبنان الذي رجاؤه وبقاؤه معقودان على انتصار الحق… والسلام.
*ألقت نقيبة المحامين في طرابلس ماري تراز القوال فنيانوس هذه الكلمة في الإحتفال الحاشد الذي أقيم اليوم في “بيت المحامي” في نقابة المحامين في بيروت وذلك لمناسبة “يوم المحامي”.
“محكمة” – الثلاثاء في 2022/10/11