حقّ الوصول إلى المعلومات لا يعيقه عدم إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد/عصام اسماعيل
د. عصام نعمة إسماعيل:
لم تلتزم كافة الإدارات العامة بتطبيق القانون رقم 28 تاريخ 2017/2/10(الحقّ في الوصول إلى المعلومات)، حيث كانت بعض الإدارات تتمسك بحجج مختلفة للإمتناع عن تزويد المواطن بالمستندات التي يرغب بالإطلاع عليها، وكانت أبرز هذه الحجج هي عدم إقرار قانون إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. وكتب الكثير من حججٍ وحججٍ مضادة حول مفاعيل عدم إنشاء الهيئة الإدارية المستقلّة على سريان وتنفيذ قانون حقّ الوصول إلى المعلومات، إلى أن وصلت القضيّة إلى مجلس شورى الدولة الذي اتخذ قراراً حاسماً وبمقتضاه ألزم الإدارة بتنفيذ قانون حقّ الوصول إلى المعلومات بمعزلٍ عن إنشاء الهيئة الإدارية المستقلّة، وكان ذلك بموجب قراره الإعدادي رقم 116/2019-2020 تاريخ 2019/12/23 د.سامر أنوس ورفاقه/ اتحاد بلديات الفيحاء.
لقد صدر هذا القرار في المراجعة الرامية إلى إبطال القرار الضمني برفض تسليم المعلومات بناءً على الطلب المقدّم استناداً إلى قانون حقّ الوصول إلى المعلومات. وأدلى المستدعون (د. سامر أنوس ورفاقه) تأييداً لطلبهم أنّ المادة 16 من القانون رقم 28 تاريخ2017/2/10 حدّدت المهلة التي يتوجّب فيها على الإدارة الردّ على الطلب المقدّم للحصول على المعلومات خمسة عشر يوماً من تاريخ تقديمه تحت طائلة اعتباره قراراً ضمنياً بالرفض.
وكانت الإشكالية المثارة هي حول صلاحية مجلس شورى الدولة البتّ بهذه المراجعة، فالمادة 19 من هذا القانون تمنح صاحب العلاقة حقّ مراجعة الهيئة الإدارية المستقلّة المحدّدة في قانون إنشاء الهيئة الوطنية لمحافحة الفساد، وحيث إنّ قانون إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد لم يصدر بعد، فهذا ما طرح التساؤل حول جدوى وفاعلية طرق الطعن والمراجعة التي نصّ عليها قانون حقّ الوصول إلى المعلومات وما إذا كانت الإحالة إلى قانون غير موجود وهيئة غير منشأة من شأنها تعطيل أحكام القانون والحيلولة دون مراجعة القضاء الإداري مباشرة في سبيل الطعن بقرارات رفض الوصول إلى المعلومات.
لم يجد المجلس في عدم إنشاء الهيئة الإدارية المستقلّة أيّ مبرّر لكي تنزع يد القضاء الإداري عن النظر في الطعون، معلّلاً ّأن مراجعة هذه الهيئة لا تشكّل مرحلة واجبة السلوك قبل مراجعة مجلس شورى الدولة، مستنداً في تقرير هذا الحلّ الذي خلُصَ إليه إلى مبدأ أنّ الحقّ في مراجعة القضاء هو حقّ دستوري لا يمكن انكاره، وأنّ المادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسة قد نصّ على حقّ التقاضي وأن تكون قضيّة كلّ صاحب مصلحة محلّ نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة مستقلّة وحيادية، وهذه المادة كان لها بنظر المجلس قوّة النصّ الدستوري بالاستناد إلى الفقرة (ب) من مقدّمة الدستور التي أدخلت المبادئ الواردة في المواثيق الدولية الصادرة عن منظّمة الأمم المتحدة في متن الدستور.
ولهذا، فإنّ إعطاء الحقّ في الاعتراض أمام هيئات غير قضائية (ومنها: الهيئة الإدارية المستقلّة) لا يمكن أن يؤدّي إلى إقفال باب اللجوء إلى هذا القضاء، وبالتالي فإنّه يبقى لصاحب العلاقة الخيار في مراجعة الهيئة أو القضاء المختص، خاصة إذا لم تكن الهيئة قد أنشئت بعد بحيث لا يكون لصاحب العلاقة غير خيار اللجوء إلى القضاء.
ولقد تماشى هذا الاجتهاد، مع ما استقرّ عليه المجلس من أنّ النصوص التشريعية الجديدة هي نافذة باستثناء بعض الأحكام التي يقتضي لجعلها نافذة، تدخّل السلطة التنفيذية، إنّ لجهة إصدار النصوص التنظيمية التي تجعلها قابلة للتطبيق، وإنْ لجهة إصدار الأعمال الإدارية التي تقضي بتشكيل الهيئات المكلّفة بتطبيق التشريع الجديد وذلك منعاً لأيّ ” فراغ تشريعي ” (vacum juris) يكون من شأنه أن يؤدّي إلى عرقلة حسن سير العدالة وإحقاق الحقّ (.ش. رقم 666 تاريخ 2002/9/5 م.ق.إ. 2005 ص 1130 – م.ش. رقم 346 تاريخ 2003/3/10 م.ق.إ. 2007 ص 680 – م.ش. رقم 247 تاريخ 2003/12/31 م.ق.إ. 2008 ص 446 – م.ش. رقم 303 تاريخ 2004/1/20 م.ق.إ. 2008 ص 540 – م.ش. رقم 624 تاريخ 2004/5/13 م.ق.إ. 2008 ص 1106).
وتجاوز في هذا القرار المبدأي ما قضى به في قراره الصادر في قضيّة انطوان أوريان، الذي لم يلتفت يومها إلى عدم تشكيل المجلس الدستوري، فقرّر مجلس شورى الدولة عدم صلاحيته للنظر في المراجعة الرامية إلى إبطال مرسوم دعوة الهيئات الناخبة معلّلاً يومها أنّه لا محلّ للكلام على “فراغ قانوني” أو على “امتناع عن إحقاق الحقّ ” عندما يكون مرجع آخر (مجلس النوّاب قبل إنشاء المجلس الدستوري في فرنسا أو في لبنان ، والمجلس الدستوري بعد ذلك) صالحاً للنظر في الطعن المقدّم (مجلس القضايا قرار تاريخ 18 تموز 2007، انطوان أوريان/ الدولة – مجلس الوزراء – وزارة الداخلية والبلديات).
كما أعاد المجلس تطبيق نظريته السابقة حول الشكليات المستحيلة، وبمقتضاها أنّه يمكن عدم التقيّد بالأصول أو المراسيم الجوهرية عند استحالة إمكانية تطبيقها، وقد عرفت هذه النظرية بنظرية الشكليات المستحيلة التي تتحقّق عند وجود ظروف استثنائية أم قوّة قاهرة أو عند استحالة مادية أم قانونية لاتمام الإجراء المعيّن أيّ لأخذ الرأي أم الموافقة معزواً إلى الهيئة الاستشارية ذاتها التي ترفض الاجتماع لإعطاء الرأي أم الموافقة المطلوبة ( م.ش. قرار رقم 778 تاريخ 1994/9/8 الدكتور فريد جبور/ الدولة والجامعة اللبنانية، م.ق.إ. 1995 ص 608؛ م.ش. قرار رقم 549 تاريخ 1994/7/13 الدكتور جوزف بطرس/ الدولة والجامعة اللبنانية ، م.ق.إ. 1995 ص 565).
بهذا الحكم المبدأي، أزيلت العقبة أمام تطبيق قانون حقّ الوصول إلى المعلومات، وفقدت الإدارة الحجّة الأساسية التي ترتكز إليها في ردّ طلبات الإطلاع على مستندات ووثائق، كما فتح هذا الحكم الباب أمام جهات قضائية أخرى لاتخاذ ذات الموقف لا سيّما في ما يتعلّق بمحاكمة الوزراء والرؤساء، حيث إنّ قانون أصول المحاكمات أمام المجلس الأعلى، قد وضع أصولاً للملاحقة مستحيلة التطبيق، تجعل من الواجب استبداله بقانونٍ آخر يكون قابلاً للتطبيق ومنسجماً وأحكام الدستور، وبانتظار صدور هذا القانون، فإن على القضاء العدلي، الاستناد إلى نظريات الشكليات المستحيلة والاستفادة من قرار مجلس شورى الدولة محلّ التعليق، واستعادة اختصاصه باعتباره صاحب الاختصاص الأصيل في مجال الملاحقة الجزائية.
“محكمة” – الخميس في 2019/12/26