حكم ثلاثي الأبعاد عن القضاء والمحاماة والحرّيات للقاضي عبير صفا بحقّ محام تعرّض للقاضي عقيقي/علي الموسوي
المحامي المتدرّج علي الموسوي:
“إيمانًا منها بوجوب توافر التعاون والإحترام والثقة المتبادلين بشكل مستمرّ بين القضاة والمحامين تحقيقًا للعدالة”، منحت القاضي المنفرد الجزائي في بيروت عبير صفا المحامي(…) أسبابًا تخفيفية عديدة وصلت إلى حدّ وقف تنفيذ العقوبة الصادرة بحقّه بعدما كانت مدّتها سنة واحدة خُفّفت إلى غرامة مالية مقدارها سبعة ملايين ليرة وانتهت بوقف تنفيذها، وذلك على خلفية توجيهه عبر”الفايسبوك” عبارات مسيئة إلى مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بالإنابة القاضي فادي عقيقي تضمّنت تحقيرًا وقدحًا وذمًّا وبالتالي إساءة إلى السلطة القضائية ممثّلة بأحد أعضائها، ولم يكن بالإمكان إدراجها تحت خانة “الدفاع عن استقلالية السلطة القضائية” كما حاول المحامي نفسه ووكلاء الدفاع عنه توصيفها، لانتفاء أيّة رابطة بين المعنى والمغزى والعبارات المستخدمة والتي تقع تحت طائلة الملاحقة القانونية الجزائية بغضّ النظر عن الأسباب الكامنة وراء اعتبار القرار المتخذ من القاضي مخالفًا للقانون أم مصيبًا ومتطابقًا معه، إذ إنّ هناك وسائل قانونية ظاهرة ومعروفة ولا تخفى على المحامين يمكن الإستدلال بها والإسترشاد بها للطعن بأيّ قرار قضائي سواء أكان صحيحًا أم خاطئًا، وسواء نال إعجاب المعنيين به أم حظي باعتراضهم.
على أنّ أهمّ ما في هذا الحكم الثلاثي الأبعاد والإرتكازات عن القضاء والمحاماة والحرّيات، هو مقاربة القاضي صفا بحكمة ومنطق وعقلانية، العلاقة الراسخة بين القضاء والمحاماة، وبالتالي بين القضاة والمحامين، من منطلق أنّهما يمثّلان “جناحي العدالة” التي لا يمكنها أن تحلّق في إرساء العدالة الحقّة من دون أحدهما، ذلك أنّ المحامي يبحث ويكتب ويرافع، والقاضي ينقّب ويدقّق ويحكم وفقًا للقوانين النافذة إحقاقًا للحقّ أوّلًا وأخيرًا، وما عدا ذلك هو تشويه لوجه العدالة السمحاء نفسها، وافتئات على مكانتها في حماية المجتمع والوطن معًا.
واعتبر المحامي أنّ بيانه المصاغ بطريقة الأحكام القضائية لما لهذه الطريقة من دلالة معيّنة لا تخفى على أحد، هو موقف إحتجاجي صارخ من إدعاء قضائي مجحف بحقّ موكّليه الناشطين في “ثورة” 17 تشرين الأوّل 2019، ومن سلسلة قرارات سابقة للنيابات العامة التي هي طرف في هذه الدعاوى، تتناول آخرين، إذ وجّهت إليهم تهمة “الإرهاب”، وهو ما يتعارض كلّيًا بحسب موقف المدافعين عنهم، مع أفعالهم وتصرّفاتهم والتي لا يمكن أن ترتقي إلى هذا الجرم الكبير بما يحمله في طيّاته من مفاهيم ودلالات، لكن فاتهم أنّ الكلمة النهائية هي لقضاء الحكم الجالس على “قوس المحكمة” وفي باله فقط، تنفيذ القانون، وتحقيق العدل، وإراحة الضمير وربّ العالمين، وليس للنيابة العامة أو ما يسمّى بـ”القضاء الواقف” الذي من مسلّمات مهامه ومسؤولياته التشدّد في الملاحقة إلى أبعد الحدود، وقد يعمد إلى “تفخيخ” “ورقة الطلب”، من منظاره، بالكثير من المواد الجرمية، وليس بالضرورة أن تكون كلّها فعّالة وحقيقية ومتطابقة مع وقائع الملفّ وما يقوله القانون في صددها، وقد يتراجع عنها خلال الجلسة الأخيرة للمحاكمة والمخصّصة لإبداء المطالعة والمرافعة، وقد يستبدلها قاضي التحقيق أو الهيئة الإتهامية أو محكمة التمييز عند وجود اختلاف في الوصف القانوني.
وبدلًا من البقاء ضمن المحاكم وما يفرضه القانون في هذا الخصوص من مراجعات، إستئنافًا وتمييزًا، بحسب حالة الملفّ والدعوى، سلك المحامي طريق مواقع التواصل الإجتماعي لإيصال صوته الإعتراضي، وبالتالي صوت موكّليه الذي هو مؤتمن بحُكْم وكالته، على مصالحهم حتّى ولو كانوا مذنبين وتقتضي أفعالهم الإدانة والتجريم، خصوصًا وأنّه أصبح لهذه المواقع من “فايسبوك” و”اكس” و”تويتر”، و”واتساب” و”تلغرام” و”إنستغرام”، و…، حضورها الكبير في حياة الرأي العام باختلاف توجّهاته ومشاربه وميوله الفكرية والثقافية والسياسية والعقائدية والدينية. وفي كثير من الأحيان أضحت هذه المواقع هي الموجّه والبوصلة في تحديد المواقف من المعروض عليها دون تحقّق أو تبيين، ممّا يقتضي معرفة حُسْن استعمالها من مساوئه.
ولكنّ العبارات المستخدمة من المحامي لم تبق ضمن إطار الإنتقاد البنّاء أو المقبول والمعقول، بل امتطت التجريح المقصود، وهذا ما استدعى من القاضي صفا أن تلفت الأنظار إليه في متن حكمها، فقالت بصريح العبارة في الصفحة الثامنة منه، إنّها “عبارات جارحة تنطوي على الكثير من الإساءة والإزدراء والتشكيك والإستخفاف في حقّ قاضٍ جرّاء قيامه بمهامه”. ومن يمعن النظر في نصّ البيان/الحكم، يلمس عن كثب جملة عبارات جارحة وغير مألوفة في التخاطب بين القضاة والمحامين سواء أكان خلال جلسات المحاكمات أو ضمن اللوائح والمذكّرات، أو الكتابات القانونية المنشورة تعليقًا وقراءة، على حكم أو قرار قضائي صادر عن هذا القاضي أو هذه المحكمة أو تلك، ويلمس أكثر أنّ هذه العبارات المشكو منها ترمي إلى النيل من شرف القاضي وكرامته وعمله ومكانته، وزعزعة الثقة بوجوده في السلطة القضائية وما تمثّله هذه السلطة من أهمّية بالغة القصوى في بناء الإنسان وصون المجتمع وقيام الدولة العادلة والقادرة.
وهذا ما دفع القاضي عبير صفا إلى القول إنّ “العبارات الواردة في متن البيان المذكور جاءت خارجة كلّيًا عن أدبيات التخاطب وحدود اللّياقة في إبداء الرأي القانوني، وانطوت على تحقير لا يليق صدوره عن محامٍ ينتسب إلى نقابة هي شريكة السلطة القضائية في تحقيق العدالة، متوجّهًا عبر نشر بيانه المذكور إلى عدد كبير من الأشخاص، مستخدمًا عبارات تتضمّن تحقيرًا وإهانات في حقّ قاضٍ من شأنها النيل من كرامته وسمعته ضمن بيئته ومجتمعه”.
كما أخذت القاضي صفا على المحامي المقصود بهذا الحكم المؤلّف من عشر صفحات “فولسكاب” لجوءه إلى مواقع التواصل الإجتماعي عوضًا عن استكمال مسيره ضمن أروقة المحاكم المعنية، وهو ما كان يرجّح معه وصوله إلى مبتغاه دون تعريض نفسه للملاحقة الجزائية وفي جرم مشهود لم يتمكّن من نفي حصوله بهذه الطريقة التي فرضت عدم طلب إذن ملاحقة من مجلس نقابة المحامين عملًا بنصّ المادة /79/ من قانون تنظيم مهنة المحاماة التي استثنت الجرم المشهود من تقديم طلب لنيل إذن بالملاحقة، سواء أكان عن فعل نشأ عن ممارسة المهنة أو بمعرضها أو بدونها، فتحديد ذلك يعود لمجلس النقابة وحده. وفي ضوء قرار هذا المجلس الواجب والضروري يُبْنى على الشيء مقتضاه القانوني المناسب، ومن الممكن إستئنافه أمام محكمة الإستئناف المدنية المعنية أو ما يعرف اختصارًا بـ”المحكمة النقابية”.
وأثار المحامي ووكلاؤه القانونيون في إطار ردّ الدعوى عنه، مسألة عدم وقوع العبارات الجارحة المشكو منها على القاضي عقيقي خلال وجوده على قوس المحكمة، واعتبار القاضي موظّفًا. فردّت القاضي صفا على هذا المنحى بتأكيد المؤكّد من أنّ القاضي وبفعل الدستور والقانون، ليس موظّفًا، بل “يمارس سلطة عامة”، ويتمتّع بالصفة القضائية سواء أكان جالسًا على قوس المحكمة أو خارجها، فقضاة النيابات العامة وإنْ كانوا بحكم وظيفتهم القضائية والمهام الموكلة إليهم طرفًا في الدعوى، ولا يتمثّلون دائمًا في المحاكم كما هو الحال مثلًا أمام القاضي المنفرد الجزائي، إلّا أنّ ذلك لا يحجب عنهم صفتهم القضائية، ومن يكن اليوم منهم في هذا المركز، يمكن كثيرًا أن يصبح في مركز قضائي آخر كأن يمارس دور قاضي الحكم، عند صدور تشكيلات ومناقلات قضائية شاملة أو جزئية، وهذا أمر مباح ومعروف من الجميع.
واستبعدت القاضي صفا تصنيف البيان المشكو منه، في عداد حرّية التعبير لأنّه يجافيها كلّيًا، خصوصًا إذا ما تجاوزت العبارات المستخدمة السقف القانوني المسموح به، والذي لا تقبل به، مهنة المحاماة أيضًا، وليس القضاء بمفرده.
لقد قدّمت القاضي صفا في مقاربتها لموضوع الملفّ هذا، قراءة مدروسة بعناية فائقة واهتمام شديد، لأهمّية وجود القضاء والمحاماة في حياة الإنسان، وانسجامهما في مهام رسالتهما الواحدة والموحّدة في خدمة الحقيقة الساطعة، وهما يكملان بعضهما بعضًا، والتفريط بثقة أحدهما لا بدّ أن ينال بطريقة من الطرائق، الآخر، خصوصًا وأنّهما “جناحا العدالة”.
وكان بإمكان القاضي صفا أن تبقي العقوبة السجنية بحقّ المحامي، إلّا أنّها وفي ما يدلّ على نيّتها الحسنة وتقديرها لدور المحامي في تأدية رسالته القانونية الصافية وإبقاء رابطة العلاقة بين القضاة والمحامين متينة وراقية وشامخة، وبما تملك من حقّ التقدير المعطى لها سندًا لسلطتها التقديرية التي لا يمكن انتزاعها منها، منحت المحامي أسبابًا تخفيفية وصلت إلى حدّ وقف تنفيذ العقوبة.
“محكمة” تتفرّد بنشر حكم القاضي عبير صفا كاملًا لما تضمّنه من معاني وخلاصات راقية ومعبّرة على الصعيد القانوني، وعلى مستوى العلاقة بين القضاء والمحاماة والحرّيات العامة:
باسم الشعب اللبناني
إنّ القاضي المنفرد الجزائي في بيروت،
لدى التدقيق،
وبعد الإطّلاع على الملف المُحال أمام هذه المحكمة من قبل النيابة العامة الإستئنافية في بيروت تحت الرقم 2021/1897،
وعلى القرار الظنّي الصادر عن قاضي التحقيق في بيروت بتاريخ 2021/11/2 وتحت الرقم 2021/152، والقاضي بالظنّ في المدّعى عليه:
(…)، والدته (…)، مواليد:(…)، لبناني الجنسية، سجل(…) ، تُرك لقاء سند إقامة من قبل قاضي التحقيق بتاريخ 2021/10/22،
بمقتضى المواد 383، 386 و388 من قانون العقوبات،
وبنتيجة المحاكمة العلنية الوجاهية، وبعد الإطّلاع على أوراق الدعوى كافة وتلاوتها علنًا،
تبيّن التالي:
أولاً- في الوقائع:
عند الساعة الرابعة عشرة من تاريخ 2021/2/7 تمّ تنظيم محضر تحقيق أولي لدى قسم المباحث الجنائية المركزية بناءً على تكليف شفهي صادر عن النائب العام التمييزي مفاده التحقيق ببيان تمّ نشره على موقع الفايسبوك من حساب بإسم المدعى عليه يتضمّن التالي بيانه: “حكم، بإسم ثورة 17 تشرين، بالإستناد إلى جرم توقيف عدّة ناشطين من البقاع دون مسوغ قانوني وبالإستناد إلى إشارة القاضي فادي عقيقي ما يشكّل جرم الإعتداء على ثورة 17 تشرين ومحاولة كسر إرادة المنتفضين بوجه الفاسدين من أجل استرجاع الوطن، وحيث إن التطبيق السليم للقانون في معرض التحقيق بجريمة من أي نوع كان، يستوجب مواجهة المشتبه بهم بالأدلّة وثم التثبّت من توافر العناصر الجرمية المادية منها والمعنوية ليحصل التوقيف ويستكمل الملف القضائي وصولاً إلى الحكم، وحيث من الواقع المُمارس على يد قضاة قصار الهامة القانونية والوطنية يتبيّن أنه تم استحضار ناشطو الرأي الحرّ وعندما أثبتوا عدم اشتراكهم بأعمال الشغب موضوع الإتهام وقدموا الأدلّة المثبتة لذلك تمّ إيقافهم بجرم “المواطنة” كرمى لعيون وليّ النعمة السياسي أثبتت هذه الواقعة بالمشاهدة العينية وحضور التحقيقات الجارية سندًا للمادة 47، بناءً لما تقدّم، تقرّر إدانة المدعو فادي عقيقي بجرم فقدان النزاهة والكفاءة والمهنية والحرفية والحسّ الوطني وثبات ولائه لمرجعيته السياسية”،
وتبيّن من خلال مراجعة موقع الفايسبوك بأن الحساب الذي نُشر عليه البيان المذكور يعود للمدعى عليه، وهو محامٍ، وأنه عند الساعة 14:30 من التاريخ المذكور أشار النائب العام التمييزي بإبلاغ المدعى عليه وجوب حضوره إلى مكتب المحامي العام التمييزي عماد قبلان عند الساعة العاشرة من تاريخ 2021/2/11 فتمّ إبلاغه بذلك عند الساعة 21:55 من تاريخ 2021/2/8 من قبل القائمين بالتحقيق،
وتبيّن من مراجعة مضمون المحضر التأسيسي المنظّم لدى النيابة العامة التمييزية رقم 659/م/2021 بأنه بتاريخ 2021/2/10 اتّصل المحامي ناضر كسبار بالقاضي عماد قبلان وأطلعه بأن المدعى عليه لن يحضر الجلسة بناءً لطلب نقيب المحامين،
وأنه خلال مرحلة التحقيق الإستنطاقي نفى المدعى عليه الجرائم المُسندة إليه مدليًا بأنه لم يُقدم على توصيف عبارات القدح والذم بحق القاضي فادي عقيقي بل قام بتوصيف واقع معيّن وأن التعليق الذي قام بنشره على صفحته على تطبيق الفايسبوك يعود إلى قيام مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بإبلاغه بصفته وكيل عدّة موقوفين في أحداث طرابلس، بأن الموقوفين لا يرغبون من الإستفادة من المادة 47 أ.م.ج. كما ولسبب آخر يتعلّق بإقدام القاضي عقيقي على الإدّعاء على الموقوفين سندًا للمادتين 309 و310 من قانون العقوبات وهما معلّقتان بموجب القانون المنشور بتاريخ 11/1/1958، وبعد إعادة الملف إليه من قبل قاضي التحقيق قرّر الإدّعاء على الموقوفين بجرائم الإرهاب، الأمر الذي لم يحصل أبدًا، كما تمّ الإدّعاء على الموقوفين كافة بجرم السرقة رغم إقتراف أحدهم فقط الجرم المذكور، وبسؤال قاضي التحقيق للمدعى عليه ما إذا كانت العبارات الواردة في بيانه المنشور تؤدّي لمعالجة الأخطاء القانونية في حال ثبوت حصولها أفاد بأن العبارات شكّلت تصنيفًا لما حصل،
وأنّه في جلسة المحاكمة العلنية المنعقدة بتاريخ 2024/5/16 حضر المدعى عليه وحضر عنه المحامي جاد طعمة والمحامون ملاك حمية، واصف الحركة، علي عباس، فادي كحيل، مريم بوتاري، خلود الحركة وإشراق بيضون كما حضر المحامي نهرا بجاني ممثّلاً نقابة المحامين، وكرّر المدعى عليه إفادته الإستنطاقية مضيفًا أنه لم يعُد يذكر تاريخ قيامه بنشر البيان على تطبيق فايسبوك وبأن سبب نشره إياه هو توصيف ما صدر من قرارات عن القاضي فادي عقيقي بعد قيامه بتوقيف ناشطين على إثر نشاطهم في قضايا المجتمع والفساد وإحالتهم أمام قاضي التحقيق العسكري بمواد معلّقة قانونًا من جهةٍ أولى، ومن ثم وبعد إعادة الملف إليه من قبل قاضي التحقيق العسكري ادّعى القاضي عقيقي في حق الناشطين بجرم الإرهاب، وأن البيان ليس ردّة فعل على ما صار بيانه أعلاه بل توصيف لما صدر من قرارات وإدّعاء، موضحًا بأنه كان وكيل بعض الموقوفين وما تضمّنه بيانه كان وليد سياق معيّن بدأ عام 2011 بالنسبة لتوقيف الناشطين وطريقة التعامل مع ملفاتهم والإدّعاءات المُساقة في حقهم من قبل القضاء المختصّ وتحديدًا النيابة العامة العسكرية، وأن تجارب سابقة منعته من التقدّم بطعن أصولي بالنسبة للقرارات المشكو منها، وأن سبب قيامه بنشر البيان على تطبيق الفايسبوك تحديدًا هو لإيصال التوصيف عبر وسيلة من وسائل التواصل الإجتماعي عن عدم أحقية القرارات والإدّعاء من قبل القاضي عقيقي إلى أكبر عدد ممكن من الأشخاص عن قضيّة معيّنة، وهي أحقية وجود سلطة قضائية مستقلّة تعمل بتجرّد، وأنه يعتمد عادةً هذه الوسيلة للنشر للإضاءة على أحقية القرارات الصادرة أو عدمها لنشر الوعي حول إستقلالية القضاء لدى الرأي العام، وأنه لا يوجد معرفة شخصية بينه وبين القاضي عقيقي، ولم يكن يهدف من خلال نشر البيان المذكور إلى النيل من كرامة القاضي عقيقي أو تحقيره ولم يكُن البيان موجّهًا ضدّ شخص معيّن بذاته، إنما إلى كلّ شخص مهما كانت صفته عند المساس بقضايا الرأي العام، وأنه لم يحضر أمام القاضي عماد قبلان لسماع إفادته بطلب من نقابة المحامين،
وأنّ المحامي جاد طعمة ترافع مؤكّدًا أنّ ما نشره المدعى عليه على تطبيق الفايسبوك لم يكُن بهدف التشهير بالسلطة القضائية أو بشخص القاضي عقيقي، وإنّما لإظهار أهمية إستقلالية السلطة القضائية أمام الرأي العام ودفاعًا عن الوطن، وأنّ نشر البيان بمضمونه جاء ضمن سياق زمني معيّن لا يمكن فصله عن الأحداث منذ عام 2011، وأن انتقاد السلطة القضائية مُصان ولا يؤلّف جرمًا سيّما عندما يتعلّق بالقضاء الواقف أيّ قضاة النيابة العامة الخصم في الدعاوى،
وأنّه يعتري الملف عيب شكلي جوهري باعتبار الجرم مشهودًا وعدم الإستحصال على إذن من نقابة المحامين لملاحقة المدعى عليه المحامي، فيقتضي حماية حصانته،
وأنّه يوجد تجارب مريرة سابقة بمراجعة القضاء بالطرق القانوينة بالنسبة للقرارات غير الواقعة في محلّها القانوني ولا سيّما النيابة العامة التمييزية، ولم يعُد من مجال سوى اللّجوء إلى وسائل التواصل الإجتماعي، وأنّ العناصر الجرمية للجرائم المُسندة إلى المدعى عليه غير متوافرة فلا نيّة لدى المدعى عليه بالتشهير بالقاضي فادي عقيقي أو بالسلطة القضائية على الرغم من قساوة مضمون البيان، وأنه يقتضي عدم التوسّع في تفسير نصوص المواد 383 و386 و388 من قانون العقوبات لجهة اعتبار القاضي موظّفًا أو ممثّلاً لسلطة عامة. كما تبنّى المحامي واصف الحركة مضمون مرافعة المحامي جاد طعمة، موضحًا بأنه من واجب المحامي الدفاع عن وطنه وقضايا الرأي العام حمايةً للمجتمع وأن يبقى لصيقًا لروح العدالة، ويجب عدم تجريم أيّ كلام يتناول سلطة عامة أو قضيّة عامة سيّما عندما لا تكون النيّة إستهداف الجسم القضائي، إنّما ردّ معيّن نتيجة صدور قرارات معيّنة لا تتّسم بالعدالة. وطلب المحامي جاد طعمة ردّ الدعوى شكلاً لعدم وجود إذن ملاحقة في حقّ المدعى عليه المحامي بعد اعتبار الجرم مشهودًا من قبل النيابة العامة، وإلّا إبطال التعقّبات لعدم توافر العنصر المعنوي أيّ النيّة الجرمية، والعنصر المادي الذي يوجب توجيه تحقير أو قدح وذمّ في حقّ قاضٍ على قوس المحكمة، أيّ القضاء الجالس والواقف، كما أيّد المحامون الحاضرون ما ورد أعلاه، وطلب المدعى عليه الأخذ بعين الإعتبار صوت الشعب اللبناني منذ عام 2017 ولغاية 2021/2/7، واختُتمت المحاكمة،
ثانيًا- في الأدلّة:
تأيّدت هذه الوقائع بالتالي بيانه:
الإدّعاء العام، التحقيقات الأولية والإستنطاقية، صورة البيان المنشور على صفحة المدعى عليه على تطبيق فايسبوك والمُرفقة في محضر التحقيقات الأولية، مدلول أقوال المدعى عليه، أوراق الملف كافة ومجريات المحاكمة العلنية،
ثالثًا- في القانون:
حيث إن الإدّعاء العام يُسند إلى المدعى عليه إقدامه على نشر بيان على حسابه الخاص على تطبيق الفايسبوك يتضمّن عبارات مسيئة تؤلّف تحقيرًا وقدحًا وذمًّا في حقّ القاضي فادي عقيقي، وذلك سندًا إلى المواد 383، 386 و388 من قانون العقوبات، في حين يدفع المدعى عليه بوجوب ردّ الدعوى شكلاً لعدم الإستحصال على إذن لملاحقته من نقابة المحامين واعتبار الجرم مشهودًا، كما بوجوب إبطال التعقبات المُساقة في حقّه لأنّ العبارات المشكو منها لم تقع على قضاة أثناء ممارسة مهامهم على قوس المحكمة، وأنّه لا يجوز التوسّع في تفسير نصوص المواد المُسندة إلى المدعى عليه واعتبار القاضي موظّفًا أو ممثّلاً لسلطة عامة، ولعدم توافر العنصريْن المادي والمعنوي للجرائم المدعى بها في حقّه كون الهدف من نشر البيان المشكو منه ليس استهداف القاضي فادي عقيقي بشخصه أو القضاء بشكل عام، إنّما الإضاءة على أهمية إستقلالية القضاء،
وحيث، ومن نحوٍ أوّل، وبالنسبة لطلب المدعى عليه الرامي إلى ردّ الدعوى شكلاً لعدم الإستحصال على إذن يجيز ملاحقته صادر عن نقابة المحامين وللخطأ في اعتبار الجرم مشهودًا، فإن المادة 29 أ.م.ج. قد نصّت على أنه: ” تُعدّ الجريمة مشهودة:
أ. الجريمة التي تشاهد عند وقوعها،
ب. الجريمة التي يقبض على فاعلها أثناء أو فور ارتكابها،
ج. الجريمة التي يلاحق فيها المشتبه به بناءً على صراخ الناس،
د.. الجريمة التي يتمّ اكتشافها فور الإنتهاء من ارتكابها في وقت تدلّ آثارها عليها بشكل واضح”،
ه. الجريمة التي يُضبط فيها مع شخص أو أشياء أو أسلحة أو أوراق يستدلّ منها على أنه مرتكبها، وذلك خلال الأربع والعشرين ساعة من وقوعها”،
وحيث إن المادة 79 من قانون تنظيم مهنة المحاماة قد نصّت صراحةً على أنّه: “باستثناء حالة الجرم المشهود، لا يستجوب محامٍ عن جريمة منسوبة إليه قبل إبلاغ الأمر لنقيب المحامين الذي يحقّ له حضور الإستجواب بنفسه أو بواسطة من ينتدبه من أعضاء مجلس النقابة، ولا يجوز ملاحقة المحامي لفعل نشأ عن ممارسة المهنة أو بمعرضها إلاّ بقرار من مجلس النقابة يأذن بالملاحقة…”،
وحيث وبالعودة إلى الوقائع الثابتة في الملف، يتبيّن أنه عند الساعة 14:00 من تاريخ 2021/2/7 نُظّم محضر تحقيق أولي لدى قسم المباحث الجنائية المركزية تحت الرقم 302/109 بناءً لأمر شفهي صادر عن النائب العام لدى محكمة التمييز لإجراء التحقيقات اللازمة بشأن بيان تمّ نشره على الحساب الخاص بالمدعى عليه على تطبيق الفايسبوك تناول فيه قرارًا صادرًا عن القاضي فادي عقيقي، وأنّه عند الساعة 14:30 أشار المدعي العام التمييزي بوجوب إبلاغ المحامي، المدعى عليه، الحضور إلى مكتب المحامي العام التمييزي عماد قبلان لسماع إفادته، فتمّ الإتصال به من قبل القائمين بالتحقيق عند الساعة 9:55 من تاريخ 2021/2/8 وإبلاغه وجوب الحضور إلى مكتب القاضي عماد قبلان عند الساعة العاشرة من تاريخ 2021/2/11. كما يتبيّن من مراجعة مضمون المحضر التأسيسي لدى النيابة العامة التمييزية المُنظّم تحت الرقم 659/م/2021 أنّه بتاريخ 2021/2/10 اتّصل المحامي ناضر كسبار بالقاضي عماد قبلان وأعلمه بأن المدعى عليه لن يحضر الجلسة المخصّصة لسماع إفادته بناءً لطلب نقيب المحامين، فأُحيل الملف إلى النيابة العامة الإستنئافية في بيروت وفقًا للصلاحية،
وحيث يتبيّن من مراجعة الصورة العائدة للبيان المنشور من قبل المدعى عليه على حسابه الخاص على تطبيق الفايسبوك والمُرفقة في محضر التحقيق الأولي بأن تاريخ وساعة نشر البيان المذكور غير واضحيْن، وبأن المدعى عليه قد أفاد خلال جلسة استجوابه أمام هذه المحكمة بأنه لم يعُد يذكر تاريخ نشره البيان إلاّ أنه أفاد عند سؤاله من قبل هذه المحكمة بعد استجوابه عمّا يطلبه “الأخذ بالإعتبار صوت الشعب اللبناني منذ عام 2017 ولغاية 7/2/2021” الصفحتين 13 و14 من محضر ضبط المحاكمة)، وهو تاريخ تنظيم محضر التحقيق الأولي المذكور أعلاه في حقه،
وحيث والحال ما ذُكر فإن المدعى عليه لم يُقِم الدليل على عدم نشر البيان المشكو منه بتاريخ 2021/2/7 على حسابه على تطبيق الفايسبوك، ولم يتقدّم من هذه المحكمة بأي دليل يُثبت بأن التحقيقات والملاحقة لم تباشر خلال مهلة الأربع والعشرين ساعة من تاريخ نشره البيان المذكور، أيّ أنّه لم يُثبت بأنّ الجرم ليس مشهودًا وبأنّ الملاحقة والتحقيقات جاءت خارج مهلة الأربع والعشرين ساعة من تاريخ ارتكابه الجرم- في حال توافر عناصره وفقًا لما سيلي بيانه لاحقًا في متن هذا الحكم- وبالتالي فإنّ بدء الملاحقة في حقه وفقًا للتفصيل المُساق أعلاه والوارد بشكل دقيق في محضر التحقيق الأولي المنظّم في حقه، خلال مهلة أربع وعشرين ساعة من تاريخ نشره البيان المذكور، من شأنه أن يحجب وجوب الإستحصال على إذن صادر من نقابة المحامين للتمكّن من ملاحقته جزائيًا، وذلك وفقًا لصراحة نصّ المادة 79 من تنظيم مهنة المحاماة التي استثنت صراحةً حالة الجرم المشهود من مبدأ وجوب الإستحصال على إذن من نقابة المحامين، ما يوجب معه بالتالي ردّ إدلاءات المدعى عليه لجهة وجوب ردّ الدعوى شكلاً لعدم الإستحصال على إذن لملاحقته،
وحيث ومن نحوٍ ثانٍ، فإن المدعى عليه يدلي بأن العبارات الواردة في متن البيان المنشور من قبله والمشكو منها لم تقع على قضاة أثناء ممارسة مهامهم على قوس المحكمة وأنّه لا يجوز التوسّع في تفسير نصوص المواد المُسندة إلى المدعى عليه واعتبار القاضي موظّفًا أو ممثّلاً لسلطة عامة،
وحيث وخلافًا لما يدلي به المدعى عليه فقد نصّت المادة 20 من الدستور اللبناني صراحةً على أن “السلطة القضائية تتولاّها المحاكم على اختلاف درجاتها واختصاصاتها ضمن نظام ينصّ عليه القانون”، وبالتالي فإنّ القاضي يمارس سلطة عامة وليس موظّفًا بالمعنى التقليدي للكلمة ولا يخضع لإدارة معيّنة، ومن نافل القول عدم اعتبار نصّ الفقرة الرابعة من المادة 383 من قانون العقوبات غير شامل للقضاة في حال وقوع فعل التحقير عليهم بدليل تشديد العقوبة المنصوص عنها في المادة 383 المذكورة في الفقرة الخامسة من المادة عينها في حال وقوع فعل التحقير على قاضٍ “في منصّة القضاء” أيّ على قوس المحكمة أو أثناء انعقاد الجلسات، أضِف إلى أنّ الفقرة الثالثة من المادة 386 من قانون العقوبات نصّت على مدّة العقوبة في جريمة الذمّ عند توافر عناصرها إذا وُجّه الذمّ إلى المحاكم … أو موظّف ممّن يمارسون السلطة العامة”، كما نصّت الفقرة ما قبل الأخيرة من المادة 388 من القانون المذكور على عقوبة جريمة القدح في حال توافر عناصرها عند توجيه القدح إلى المحاكم … أو موظّف يمارس السلطة العامة من أجل وظيفته أو صفته”،
وحيث إنّه يُفهم من مضمون المواد المشار إليها أعلاه بأنه يُشترط- وبالإضافة إلى توافر العناصر الجرمية لجرائم القدح والذم والتحقير من مادية ومعنوية – أن تكون هذه الجرائم واقعة على شخص لديه صفة “ممارسة السلطة العامة” وأن تكون هذه الصفة لا تزال قائمة أثناء وقوع الأفعال الجرمية عليه، وبأنّ النصوص المذكورة أعلاه لم تشترط لتوافر الجرائم المشار إليها أعلاه تأدية العمل القضائي على منصّة القضاء حصرًا، وإنّما اشترطت توافر الصفة القضائية فقط في شخص المجني عليه، وأن هذه الصفة هي أساس التجريم الذي يجد مبرّره في منع التطاول على ممارسي السلطات العامة الثلاثة من تشريعية وتنفيذية وقضائية لما من ممارسة مهامهم من أهمّية تنعكس على مصالح المجتمع بأكمله، (الجرائم الإلكترونية، في القانون الجديد رقم 2018/81 والمقارن، حرّية التواصل الإلكتروني والقواعد العقابية والإجرامية، د. سمير عالية، منشورات الحلبي الحقوقية)،
وحيث والحال ما ذُكر، وفي ضوء صراحة المواد 383، 386 388 من قانون العقوبات، فإن جرائم التحقير والقدح والذمّ الواقعة على قاضٍ أثناء ممارسته عمله القضائي وبسبب صفته تلك، يقتضي ردّ إدلاءات المدعى عليه المخالفة لهذه الوجهة،
وحيث من نحوٍ أخير، فإنّ المدعى عليه يدفع بوجوب إبطال التعقّبات المُساقة في حقّه لعدم توافر العناصر الجرمية من مادية ومعنوية للجرائم المُسندة إليه، ذلك أنّه لم يهدف عبر نشر البيان على حسابه على تطبيق الفايسبوك إلى النيل من كرامة القاضي فادي عقيقي أو تحقيره ولم يكُن البيان موجّهًا ضدّ شخص معيّن بذاته، إنّما إلى أيّ شخص مهما كانت صفته عند المساس بقضايا الرأي العام، وما ورد في البيان كان تصنيفًا للقرار الصادر عن القاضي فادي عقيقي، وأنّه كان يقصد فقط من خلال نشره – والذي جاء ضمن سياق سياسة التوقيف الحاصلة في حق الناشطين منذ عام 2011 ولغاية تاريخ نشره البيان المشكو منه- التوعية حول أهميّة إستقلالية القضاء،
وحيث إنّه وللقول بنسبة الجرائم المُسندة إلى المدعى عليه لجهة التحقير والقدح والذمّ الموجّه إلى مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي فادي عقيقي، يقتضي التطرّق إلى مدى توافر عناصر الجرائم المذكورة من مادية ومعنوية في حق المدعى عليه،
وحيث إنّ العنصر المادي في كلّ من الجرائم المذكورة يتمثّل في سلوك يصدر عن المدعى عليه يقوم بموجبه بنسبة أمر إلى شخص معيّن بالذات أو إطلاق لفظة إزدراء معيّنة، ومن شأن هذا الأمر أو اللفظة أن ينال من شرف هذا الشخص وكرامته بين أهله ومجتمعه وبيئته، ويُقصد به تحقير الشخص الموّجهة إليه التعابير المذكورة،
وحيث إنّ العنصر المعنوي في كلّ من الجرائم المذكورة أعلاه يتوافر في كلّ مرّة يكون فيها القصد الجرمي واضحًا، أيّ الإرادة الصريحة متوافرة للنيل من شرف وكرامة الشخص الواقع عليه الفعل الجرمي أو القصد في ازدرائه،
وحيث، وبالعودة إلى وقائع الملفّ الراهن، فمن الثابت من خلال مراجعة صورة البيان المُرفق في محضر التحقيق الأولي، والمنشور من قبل المدعى عليه على حسابه الخاص على تطبيق الفايسبوك، بأنّ البيان المشار إليه- وبصرف النظر عن اتّخاذه شكل الأحكام الصادرة عن المحاكم لجهة التقسيم والفقرة الحكمية، قد تضمّن التالي: ” حكم، بإسم ثورة 17 تشرين، بالإستناد إلى جرم توقيف عدّة ناشطين من البقاع دون مسوغ قانوني وبالإستناد إلى إشارة القاضي فادي عقيقي ما يشكّل جرم الإعتداء على ثورة 17 تشرين ومحاولة كسر إرادة المنتفضين بوجه الفاسدين من أجل استرجاع الوطن، وحيث إن التطبيق السليم للقانون في معرض التحقيق بجريمة من أي نوع كان، يستوجب مواجهة المشتبه بهم بالأدلّة وثم التثبّت من توافر العناصر الجرمية المادية منها والمعنوية ليحصل التوقيف ويستكمل الملف القضائي وصولاً إلى الحكم، وحيث من الواقع المُمارس على يد قضاة قصّار الهامة القانونية والوطنية يتبيّن أنّه تمّ استحضار ناشطو* الرأي الحرّ وعندما أثبتوا عدم اشتراكهم بأعمال الشغب موضوع الإتهام وقدموا الأدلّة المثبتة لذلك تمّ إيقافهم بجرم “المواطنة” كرمى لعيون وليّ النعمة السياسي. أثبتت هذه الواقعة بالمشاهدة العينية وحضور التحقيقات الجارية سندًا للمادة 47، بناءً لما تقدّم، تقرّر إدانة المدعو فادي عقيقي بجرم فقدان النزاهة والكفاءة والمهنية والحرفية والحسّ الوطني وثبات ولائه لمرجعيته السياسية، # فادي عقيقي فاسد”،
وحيث تقتضي الإشارة بادئ ذي بدء، إلى أنّ هدف القضاء بمفهومه وغايته هو ضمان حفظ الحقوق ورفع الضرر حمايةً لأفراد المجتمع، تمامًا كما أنّ غاية مهنة المحاماة هي جلب الحقوق ورفع المظالم، فالمحامي بالتالي، هو شريك السلطة القضائية يساعدها في بيان الحقائق، وينضوي كلاهما تحت هدف راقٍ ألا وهو إقامة العدل وإعلاء شأن العدالة،
وحيث إنّ أروقة قصور العدالة تصدح دائمًا بعبارة شهيرة بيانها التالي: “القضاء والمحاماة جناحا العدالة”، وأنه انطلاقًا من سموّ هذه العبارة وما تعكسه من شراكة بين الطرفين قوامها التعاون للسير بخطى ثابتة نحو تحقيق العدالة على أساس تطبيق القوانين والتسّلح بالعلم والمعرفة القانونية والعمل الموضوعي بعيدًا عن أي آراء أو غايات شخصية، واحترام متبادل ينعكس ثقةً بين الجميع وضمانةً لهم لا سيما للشعب الذي يحكم القضاء بإسمه، فإذا ما فُقد الإحترام بين الطرفين واعترى علاقتهما التشكيك، إختلّ التوازن بينهما لتأمين المسار السليم وحسن سير العدالة، وقد يتّخذ هذا الإختلال في التوازن بين ممثّليّْ العدالة عدّة أشكال أخطرها انعدام ثقة أصحاب الحقوق والمتقاضين في السلطة القضائية والتشكيك بعملها وتجرّدها لا سيّما لمن ليس لديه الإطّلاع الكافي أو الإلمام اللازم بمعطيات ملفّ ينظر به القضاء، وعلى وجه التحديد القضايا التي تهمّ الرأي العام، وبالتالي فإنّ حسن سير العدالة يتطلّب استمرار التوازن بين الطرفين ويستوجب ثقة مستقرّة بينهما لتحقيق الهدف الأساسي وهو تحقيق العدالة، وينبغي بالتالي على كلّ من القاضي والمحامي في كلّ زمان ومكان، إحترام مهام وعمل بعضهما، وعدم القيام بما من شأنه زعزعة الثقة بينهما من جهة وبين السلطة القضائية وأصحاب الحقوق وأفراد المجتمع كافة من جهةٍ أخرى، وأن يسود علاقتهما المهنية الإحترام المتبادل أثناء أداء واجبهما أو خارج هذا النطاق ما يؤثّر إيجابًا، وينعكس استقرارًا على الأوضاع القانونية،
وحيث إنّ المادة الأولى من قانون تنظيم مهنة المحاماة نصّت على أنّها “مهنة تهدف إلى تحقيق رسالة العدالة بإعطاء الرأي القانوني والدفاع عن الحقوق” وينبغي التقيّد بآدابها كما حدّدت المادة العاشرة من القانون المذكور مضمون القسم بـ”… عدم قول أو نشر ما يخالف الآداب وأنه ينبغي احترام القضاء والتصرّف في جميع أعمال المحاماة تصرّفًا يوحي بالثقة والإحترام”، فيتبدّى بالتالي من النصّيْن المذكوريْن كما من بداهة ومنطق الأمور، بأنّ المحامي رائد في مجال استخدام العبارات صونًا للحقوق ويتمتّع بفنّ التخاطب راسمًا صورة قانونية مشرقة محترمًا مبدأ سيادة القانون، وإذا ما أراد نشر موضوع ما ولا سيّما على وسائل التواصل الإجتماعي ينبغي عليه، وهو نصير الحقوق والحامي لها، نشر الوعي القانوني أو الإجتماعي عبر مقالات أو دراسات ليس من شأنها التشكيك بالسلطة القضائية لما لمهنة المحاماة من تأثير على الإقناع بالمعرفة والعلم ومَلَكَة الحجّة والبرهان مع التجرّد الواجب،
وحيث، وبالعودة إلى مضمون البيان المنشور على الحساب الخاص بالمدعى عليه على تطبيق الفايسبوك، من الثابت استخدامه العبارات والألفاظ التالية: “جرم توقيف عدّة ناشطين، جرم الإعتداء على الثورة، محاولة كسر إرادة المنتفضين، قضاة قصّار الهامة القانونية والوطنية، تمّ إيقافهم كرمى لعيون ولي النعمة السياسي، تقرّر إدانة المدعو فادي عقيقي بجرم فقدان النزاهة والكفاءة والمهنية والحرفية والحسّ الوطني وثبات ولائه مرجعيته السياسية، # فادي عقيقي فاسد”،
وحيث إنّ المدعى عليه عزا مضمون هذا البيان إلى نشر الوعي لدى أكبر عدد ممكن من الأشخاص على أهمية إستقلالية القضاء، مدليًا بأن ما جاء في متنه لم يهدف إلى النيل من كرامة القاضي فادي عقيقي أو السلطة القضائية، إنّما كان تصنيفًا للقرار الذي اتّخذه مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية حينها القاضي فادي عقيقي عام 2021 عند توقيف بعض الأشخاص، وكان حينها المدعى عليه وكيلاً عن بعضهم، بجرم إرهاب دون أن يكون ذلك صحيحًا، كما أتى ضمن سياق زمني محدّد وهو سياسية التوقيف في حق الناشطين في قضايا الرأي العام،
وحيث إنّ المحكمة ترى، ووفقًا لما جاء في مضمون البيان المذكور والذي اتّخذ صيغة وشكل صدور الأحكام عن المحاكم وخُتم بقرار إدانة في حق مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي فادي عقيقي بجرم فقدان النزاهة والكفاءة المهنية والحرفية وثبوت الولاء السياسي واعتباره “قصير الهامة الوطنية والقانونية”، بأن ما تضمّنه البيان من عبارات قام المدعى عليه بنشرها على حسابه الخاص على تطبيق الفايسبوك، وهو محامٍ وبالتالي على قدر من العلم والمعرفة بأصول التخاطب ضمن حدود اللّياقة، هي عبارات جارحة تنطوي على الكثير من الإساءة والإزدراء والتشكيك والإستخفاف في حق قاضٍ جراء قيامه بمهامه، وأنه وعلى فرض أن قرار التوقيف الصادر عن القاضي فادي عقيقي كان في غير محلّه القانوني وفقًا لما يدلي به المدعى عليه، فإنه كان من الأوجب على هذا الأخير وهو محامٍ ضليع بكيفيّة وأصول الطعن أو المراجعة القانونية وكان بإمكانه توسّل ما أُتيح له من طرق قانونية للمراجعة أمام المرجع المختصّ، لا أن يلجأ بدلاً عن ذلك إلى نشر بيان على صفحته على وسيلة من وسائل التواصل الإجتماعي يتضمّن عبارات مسيئة في حقّ القاضي فادي عقيقي لم يكُن من شأنها تصحيح أيّ خطأ على فرض حصوله، بل أدّى فقط إلى النيل من كرامة القاضي فادي عقيقي كما وزعزعة الثقة تجاهه وتجاه عمله والتشكيك بكفاءته وحياديته وعدم تبعيّته، لدى من اطّلع على مضمون البيان ولم يكُن ملمًّا بتفاصيل القضية التي ينظر فيها القاضي عقيقي أو لم يكُن لديه المعرفة اللازمة بالأمور القانونية، وهو أمر بالغ الأهمية لدى أيّ قاضٍ لما من ممارسة مهامه من ضرورة تمتّعه بالكفاءة والنزاهة والحياد، وأنّ العبارات الواردة في متن البيان المذكور جاءت خارجة كليًا عن أدبيات التخاطب وحدود اللّياقة في إبداء الرأي القانوني وانطوت على تحقير لا يليق صدوره عن محامٍ ينتسب إلى نقابة هي شريكة السلطة القضائية في تحقيق العدالة، متوجّهًا عبر نشر بيانه المذكور إلى عدد كبير من الأشخاص مستخدمًا عبارات تتضمّن تحقيرًا وإهانات في حقّ قاضٍ من شأنها النيل من كرامته وسمعته ضمن بيئته ومجتمعه،
وحيث إنّه لا يُردّ على ذلك بأنّ للمدعى عليه تجارب سابقة غير ناجحة بشأن المراجعة القانونية بالنسبة لقرارات يعتقد بأنّها واقعة في غير محلّها القانوي السليم وأنّ ما تضمّنه البيان هو تصنيف لقرار التوقيف وليس نيلاً من كرامة القاضي مُصدره، ذلك أن “تصنيف القرارات” وإن كان لا بدّ أن يحصل فليس عبر نشر عبارات جارحة عبر وسائل التواصل الإجتماعي، بل لدى المراجع القانونية المختصّة وفقًا للأصول، كما يقتضي ردّ ما أدلى به المدعى عليه بأنّه لم يقصد القاضي فادي عقيقي بشخصه، بل كلّ من يُصدر قرارًا واقعًا في غير محلّه القانوني السليم في قضايا تهمّ الرأي العام، ذلك أنّه من الثابت من خلال مراجعة صورة حساب المدعى عليه على تطبيق فايسبوك وصورة البيان المذكور المرفقتيْن في محضر التحقيق الأوّلي، بأنّ المدعى عليه ذكر إسم القاضي فادي عقيقي مرّتين ثم وضع “# لا للإعتقال السياسي# فادي عقيقي فاسد”، كما أنّه لا يمكن تحقير شخص قاضٍ تحت عنوان نشر التوعية حول إستقلالية القضاء، إذ إنّ ما جاء في مضمون البيان المنشور من قبل المدعى عليه المحامي لم يكُن من شأنه سوى التشكيك بعمل وكفاءة ونزاهة أحد القضاة أثناء قيامه بمهامه، ما ينعكس سلبًا على عدّة أصعدة لما من أهمّية دور القضاء في إعلاء شأن العدالة التي يساهم فيها المحامون أنفسهم،
وحيث وإنْ كان الدستور اللبناني يضمن في المادة 13 منه حرّية التعبير عن الرأي، إلاّ أنّ هذه الحرّية تبقى مقيّدة بوجوب عدم مخالفة القوانين، وأن تبقى حرّيّة التعبير عن الرأي متّصفة بالحدّ الأدنى من الإحترام في إيصال أيّ رسالة محقّة في أيّ موضوع كان يهمّ الرأي العام دون ضرورة أن ينال من سمعة أيّ شخص أو مؤسّسة، والذي، أيّ الرأي، يمكن إيصاله بطرق مختلفة دون أن يؤدّي ذلك إلى تحقير شخص معيّن أو جهة معيّنة، لا سيّما متى كان التعبير عن الرأي صادرًا عن محامٍ في حقّ قاضٍ، وهما وكما أشير إليه آنفًا يمثّلان جناحيّ العدالة،
وحيث إنّ المحكمة ترى، وبما لها من سلطة تقدير وإيمانًا منها بوجوب توافر التعاون والإحترام والثقة المتبادلين بشكل مستمرّ بين القضاة والمحامين تحقيقًا للعدالة، منح المدعى عليه الأسباب التخفيفية المنصوص عنها في المادة 254 من قانون العقوبات،
لذلك،
وسندًا إلى أحكام المادة 196 من قانون أصول المحاكمات الجزائية،
يحكم:
أولاً- بإدانة المدعى عليه (…) المبيّنة كامل هويته أعلاه بالجنحة المنصوص عنها في المادة 383 من قانون العقوبات وحبسه مدّة سبعة أشهر، كما وإدانته بالجنحة المنصوص عنها في المادة 386 من قانون العقوبات وحبسه مدّة سنة، وإدانته بالجنحة المنصوص عليها في المادة 388 من قانون العقوبات وحبسه مدة ستة أشهر.
ثانيًا- بإدغام العقوبات سندًا إلى المادة 205 من قانون العقوبات بحيث تنفّذ العقوبة الأشدّ وهي الحبس مدة سنة، وإبدال العقوبة تخفيفًا سندًا إلى المادة 254 من قانون العقوبات بغرامة قدرها سبعة ملايين ل.ل.، ووقف تنفيذ العقوبة سندًا إلى المادة 169 من قانون العقوبات.
ثالثًا- بتضمين المدعى عليه النفقات كافة.
حكمًا بمثابة الوجاهي في حق المدعى عليه، لصدوره في غير موعده، يقبل منه الإستئناف صدر وأفهم علنًا في بيروت بتاريخ 2024/7/29.
* الصواب: ناشطي.
“محكمة” – الخميس في 2024/8/8
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً على أيّ شخص، طبيعيًا كان أم معنويًا وخصوصًا الإعلامية ودور النشر والمكتبات منها، نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، كما يمنع نشر وتصوير أيّ خبر بطريقة الـ”screenshot” وتبادله عبر مواقع التواصل الإجتماعي وتحديدًا منها “الفايسبوك”، و”الواتساب”، و”اكس”، و”الإنستغرام”، و”التلغرام”، ما لم يرفق باسم “محكمة” والإشارة إليها كمصدر، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.