حكم للقاضي ناديا جدايل بدعوى الإساءة إلى الدين الإسلامي على مواقع التواصل بما يعتبر خروجًا عن حرّية التعبير والنقد الموضوعي/علي الموسوي
المحامي المتدرّج علي الموسوي:
أصدرت القاضي المنفرد الجزائي في بيروت ناديا جدايل حكمًا بسجن اللبناني محمد عيسى صالح المعروف باسم “مارك عيسى” سنة واحدة بصورة غيابية مع تغريمه مبلغ ثمانماية ألف ليرة ومنعه من ممارسة حقوقه وذلك لإقدامه على إثارة النعرات الطائفية وتحقير الشعائر الدينية.
وكانت دار الفتوى ومحامون قد تقدّموا بإخبار بحقّ مارك عيسى لقيامه على مواقع التواصل الاجتماعي بوضع كتابات تنال من الذات الإلهية وتسيء إلى النبي محمد(ص) وتهزأ بالدين الاسلامي وبالمسلمين.
كما أنّ المذكور نشر تغريدات مؤيّدة للعدو الاسرائيلي ليؤدّي فعله إلى اشعال فتن طائفية وتفاعل كبير لدى روّاد موقعي “فايسبوك” و”تويتر”.
وتكمن أهمّية هذا الحكم الغيابي والقابل للإعتراض والاستئناف، في إدانة ما تفوّه به المدعى عليه أو كتبه، أو جاءه بلسان شيطاني، وهو بطبيعة الحال كلام مرفوض جملةً وتفصيلًا، حتّى ولو صدر في لحظات غضب وتخلّ، فضلًا عن عملية الربط التي قدّمتها القاضي جدايل بين حرّية الرأي والتعبير والخروج عن المألوف في القول والكتابة إلى حدّ الكفر، ودور القضاء في لجم هذه التصرّفات والسلوكيات الشاذة لحماية المجتمع من ردّات الفعل تجاهها وما قد تثيره من نعرات قد لا تحتمل في بلد متعدّد الديانات السماوية كلبنان.
ولم تكتف القاضي جدايل في الدعوة إلى وجوب تقدير كلّ الأديان والحثّ على التمسك بالحوار المنطقي والعقلاني البنّاء، بل ذكّرت بالهدف المشترك للأديان والمتمثّل في بناء الإنسان على ركائز المحبّة والتسامح والقيم والأخلاق والإيمان بالله، وما يخرج عنها يكون شاذًا وغير مقبول على الإطلاق، ولذلك وجب اعتبار عبارات المدعى عليه “مارك عيسى”(محمد عيسى صالح) خروجًا متعمّدًا عن إطار النقد الموضوعي ومستوجبة الإدانة بحسب ما تقتضيه نصوص قانون العقوبات اللبناني في هذا الشأن.
وبحسب الحكم، فقد تبيّن أنّ محمد صالح اعتنق الديانة المسيحية في العام 2016 وانتقل للعيش في الولايات المتحدة الأميركية طالبًا من الجميع مناداته باسم مارك عيسى، وأنّ علاقته بعائلته ساءت بفعل تغييره لدينه وتشهيره بالديانة الاسلامية.
وقالت القاضي جدايل في الحيثيات القانونية في متن حكمها التالي:
“حيث إنّه نسب إلى المدعى عليه ارتكابه لجنح إثارة النعرات الطائفية وتجديف اسم الله علانية وتحقير الشعائر الدينية، أيّ الجنح المنصوص عليها في المواد 317، و473، و474 عقوبات،
وحيث إنّه يقتضي التحقق من مدى توافر الجرم المدعى به في ما أتى على لسان المدعى عليه في المنشورات والتغريدات الورادة على صفحتيه على وسيلتي التواصل الاجتماعي “فايسبوك” و”تويتر” مع ما يقتضيه الأمر من معرفة حدود ممارسة الأفراد لحرية التعبير عن آرائهم،
وحيث إنّ البند “ج” من مقدمة الدستور اللبناني نصّ على أنّ “لبنان جمهورية ديموقراطية تقوم على احترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد”، كما كفلت المادة 13 من الدستور اللبناني حرية إبداء الرأي قولا وكتابة وحرية الطباعة، كلّ ذلك إلتزامًا من لبنان بمواثيق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان،
وحيث إنّ لحرية التعبير مكانة بارزة في المجتمعات الديموقراطية، إذ تعتبر إحدى الركائز الأساسية لتقدّم وتطوّر النظام الديمقراطي، ما يجعلها تنال قيمة دستورية لا يمكن تقويضها إلّا بقدر ما يحتاج إليه النظام الاجتماعي من حماية، فيقتضي عندها إيجاد التوازن ومحاولة التوفيق بين حرية التعبير من جهة، وصون حقوق المجتمع والأفراد من جهة أخرى،
وحيث إنّ حرية التعبير تصطدم في المجتمع اللبناني بالمعايير الأخلاقية المتوارثة والتي لها مفهوم واسع وطيّع، يستنبطه القاضي من المحيط الاجتماعي، ويقدّره عن طريق معيار الأب الصالح، بحيث لا يجرّم الفرد إلّا في حالة تجاوز حدود حرية التعبير إلى حد إتيان التحقير، بطريقة تخدش الكرامة والحياء بصورة فاضحة ومن شأنها إلحاق الأضرار بالأفراد أو بالمجتمع وتقع ضمن دائرة التجريم، إذ لا جريمة ولا عقوبة دون نص،
وحيث إنّه، ولئن كان باستطاعة أيّ فرد من أفراد المجتمع اللبناني التعبير عن آرائه صراحة، قولًا أو كتابة، وبحماية الدستور نفسه، إلّا أنّه يتحتّم عيه انتهاج أساليب كلامية لا تخدش المعايير الأخلاقية المتعارف عليها منعًا لأيّ نتائج لا يحمد عقباها، لا سيّما في المواضيع الدينية، إذ في مجتمع تكثر فيه الطوائف، ويكفل فيه الدستور حرية المعتقد، يجب على الفرد التحفّظ برأيه الشخصي تجاه الأديان الأخرى ولو لم يقتنع بمبادئها، لما في ذلك من أثر مدمّر على المجتمع اللبناني ومنبئ بنتائج لا يحمد عقباها،
وحيث إنّه من السائد والمتزايد في مجتمعنا الحالي، إنتشار ظاهرة الأسلوب الاستهزائي والتحقيري والتعنيفي بين الأفراد في ما يتعلّق بانتقاد المبادئ التي تقوم عليها الأديان الأخرى، وسلاحهم هو تلك الألفاظ التي تتخطّى في بعض الأحيان حدود المقبول لما تحتويه من ازدراء وتنمّر، وتتسم في بعض الأحيان بالكراهية،
وحيث إنّ أهمية دور القضاء تتجلّى في رسم الحدود بين ما هو جائز ومقبول من آراء معبّر عنها قولًا أو كتابة أو طباعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبين ما يسقط منها ضمن إطار التجريم ويستدعي تدخّل القاضي لردعه لما سيكون له من انعكاسات سلبية على المجتمع، والتسبّب بانقسامات كبيرة بين الطوائف. من هنا يقتضي أيضًا تعميم ثقافة الاحترام بين الأديان وتشجيع أسلوب الحوار البنّاء بدلًا من استخدام الاهانات كوسيلة للتعبير عن الرأي، لا سيّما أنّ هدف الأديان هو نفسه:المحبّة،
وحيث إنّه في ما يتعلّق بالتعرّض للديانة الإسلامية وللذات الإلهية، تحديدًا، فإنّه بالعودة إلى الوقائع موضوع هذه الدعوى، فإنّ الألفاظ والأوصاف المستعملة من المدعى عليه في منشوراته على صفحتيه المفتوحتين للعامة على موقعي “فايسبوك” و”تويتر”(النبي الكاذب.. إله هؤلاء…)، لا تعتبر نقدًا موضوعيًا للدين الاسلامي مندرجًا ضمن إطار حرية التعبير، بل تتجاوز المعايير الأخلاقية المذكورة في التعليل المساق أعلاه، وتعتبر من قبيل الإزدراء والتحقير، ومن شأنها النيل من مكانة وهيبة هذه الديانة وكلّ الديانات ورمزيتها والذات الإلهية، ومن شأنها إثارة النعرات الطائفية والمذهبية ما يؤلّف جنحتي المادتين 474، و317 عقوبات، ويقتضي بالتالي إدانة المدعى عليه بموجبهما،
وحيث إنّه بإقدامه جهارة على القول بأنّه سيبصق يوم الحساب بوجه الله عزّ وجلّ فيكون بذلك قد جدّف باسم الله، ما يؤلّف بحقّه الجنحة المنصوص عليها بموجب المادة 473 من قانون العقوبات”.
“محكمة” – الاثنين في 2023/11/6
* تعتذر “محكمة” عن نشر كامل عبارات المدعى عليه غير المقبولة على الإطلاق حتّى ولو وردت في نطاق حكم قضائي.
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً على أيّ شخص، طبيعيًا كان أم معنويًا وخصوصًا الإعلامية ودور النشر والمكتبات منها، نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، كما يمنع نشر وتصوير أيّ خبر بطريقة الـ”screenshot” وتبادله عبر مواقع التواصل الإجتماعي وتحديدًا منها “الفايسبوك” و”الواتساب”، ما لم يرفق باسم “محكمة” والإشارة إليها كمصدر، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.