حنّا البريدي ليس الوحيد لكنّه فعلها/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
لم يقفل بابه في وجهها، ولم يتركها تعود أدراجها من حيث أتت تجرّ أذيال الخيبة بعدما تجرّعت الكثير من مرارة الأيّام ووجع العمر وضاقت بها سبل العيش الكريم.
ولم ينبسّ بكلمة مزعجة منفّرة قد تُرهق كاهله مع مرور الأيّام، كقاض مسؤول أمام الله أوّلًا وأخيرًا.
ولم يستشعر حرجًا من أن يمدّ يده إلى جيبه وبكلّ طيبة خاطر ويُخرج منه مبلغًا ماليًا من راتبه الشهري الذي لا يعرف مدخولًا سواه يعتاش منه مع أسرته، لكنّه أحسّ بفرح عارم لمجرّد أنّه مؤمن بأنّ الله سخّره لهذه السيّدة وبأنّ ما فعله كان ذاتيًا وبإرادته وينمّ عن وجدان حيّ ونبل ومناقبية ورُقيّ في التعاطي مع الآخر.
هذا الكلام ليس مقدّمة رواية متخيّلة، أو من صنع الخيال وعالم الماورائيات وحكايات الجدّات أو من عمق التاريخ، إنّما هو نقل دقيق لما فعله قاضي التحقيق في جبل لبنان حنّا البريدي وسار به على خطى قضاة كثر سبقوه في مضمار جبر الخواطر وترجيح الإنسانية على القانون، وما أجملها من أرجحية في أيّام السِلْم، فكيف إذن، في زمن القهر المادي وتدهور الإقتصاد وحروب الحصار الداخلي والخارجي؟
إمرأة كبيرة في السنّ تبدو علامات الفقر الشديد عليها واضحةً بشكل ساطع، دخلت إلى مكتب القاضي البريدي لإجراء معاملة دفع كفالة مالية لإخلاء سبيل ابنها الموقوف في أحد السجون المشيّدة في جبل لبنان، وفي ظنّها أنّ المبلغ ليرات قليلة أو قروش معدودة. لم تكن تحمل كامل المبلغ الزهيد بل نصفه، وهو كلّ ما تملك أو تحمل، وقد قطعت مسافة طويلة حتّى وصلت إلى قصر العدل في بعبدا، والعودة مكلفة سواء بقي إبنها خلف القضبان، أو دفعت أجرة الإنتقال مرّة ثانية. هذا هو لسان حال الفقير.
صحيح أنّ المبلغ القابضة عليه هذه السيّدة لا يعتدّ به، لكنّها تراهن عليه وبه لأنّها بكلّ بساطة، لا تحوز سواه في هذه اللحظة الفاصلة بين الحرّية أو البقاء في السجن.
أنصت البريدي إليها مليًّا. لم يتركها تستفيض في شرح ضائقتها. مدّ يده إلى جيبه واستخرج مبلغ مائة ألف ليرة لبنانية هو قيمة الكفالة. كانت المرأة ملبّدة بالإحراج. ربّما توقّف تنفّسها للحظات وهي ترى قاضيًا يساعدها وقد ترسّخت صورة أخرى عن قضاة كأنّهم آتون من كوكب الغطرسة لمجرّد أنّ بعضهم وهم قلّة قليلة، يعشق ملذّات الإبتعاد عن الناس، وفي نهاية المطاف الناس طباع في أيّ مكان أو وظيفة كانوا!
أنقدها البريدي المبلغ وسألها عمّا إذا كانت تملك أجرة العودة إلى منزلها، وبَدَل الذهاب إلى مكان توقيف ولدها الذي لا شكّ أنّ فعله الجرمي زاد عمرها عتيًا. تلعثمت. توقّف الكلام لديها من أثر الذهول. تاهت الحروف في تعاريج اللسان. لم يتركها البريدي ملتفّة بغطاء الإنكسار في وضح دولة باردة مع شعبها حتّى الإفتراق. وبعفوية تامة إستخرج مبلغ خمسين ألف ليرة إضافية من جيبه وزوّدها به وأرفقه بعبارات الدعاء لها بالسلامة.
لم يكن حنّا البريدي أوّل قاض في تاريخ القضاء اللبناني الذي يُقْدم عن سابق اقتناع ويقين، على مثل هذه الخطوة النبيلة. ولم يكن هذا العمل الإنساني حكْرًا عليه. أعرف بحُكْم عملي في العدلية على مدى 24 سنة(منذ 19 أيّار 1997) حالات مماثلة. سبقه كثر وكانوا في مواقع قضائية مختلفة بين قاضي ظنّ وقاضي حكم. ومنهم من مات، رحماتُ الله عليهم، ومنهم من تقاعد ومنهم من لا يزال مؤمنًا بالعطاء كصَدقة جارية، والعطاء ليس محصورًا بالمال، بل قد يكون عملًا ما. فعلها هؤلاء قبل البريدي بنَفْس راضية مرضية تتطلع دائمًا وأبدًا إلى رحمة الله الواسعة.
كان بإمكان هذا القاضي أن يخفض قيمة الكفالة بما له من حقّ التقدير والإستنساب، وهو صاحب الشأن ولا سلطة تعلوه ولا مانع قانونيًا يحول دون ذلك. كان بمقدوره أن يُبقي ماله لديه حتّى ولو أنّ قوّته الشرائية تقلّصت كثيرًا، خصوصًا في ظلّ وضع معيشي صعب، لكنّه لم يشأ أن يكسر قراره متخذًّا قرارًا آخر لا يضاهيه ثمن، وكذا تكون مواقف الرجال.
وهذا التصرّف الذي لقي استحسانًا لدى كلّ من سمع به أو أدرك حصوله، ليس الأوّل من القاضي البريدي نفسه، وهو الذي اندفع ذات يوم إلى دفع كفالة موقوف لم يتوفّر لديه المال الكافي للخروج من السجن.
بمثل هذه المواقف الشريفة خصوصًا في وضع إقتصادي مضطرب، لا بل منهار في لبنان، لا يموت القضاء.
أوليس القضاء زينة الأوطان وأوكسجين عافيتها؟!
“محكمة” – السبت في 2021/9/18