حوكمة القطاع العام في لبنان/ جان العلية
الدكتور جان العلية*:
تعتبر الحوكمة نظامًا يهدف إلى تفعيل مستوى أداء القطاع العام، وهي ترتكز في سبيل تحقيق هذا الهدف، على التخطيط والشفافية والمحاسبة والرقابة، كما سنّ التشريعات وصياغة النصوص المناسبة.
لم يكن لبنان يفتقر الى الأداة القانونية او البعد القانوني للحوكمة، والقوانين والنصوص الموجودة، مع الإقرار بحاجتها الى التطوير والتحديث لتتماشى مع مقتضيات الثورة التكنولوجية التي تجتاح العالم، إلّا أنّها لم تكن أبدًا السبب في الوصول الى الوضع المالي والإداري المتأزّم الذي يشير اليه الباحث حسن عمرو في هذا الكتاب، بل على العكس كان عدم تطبيق هذه القوانين نتيجة لغياب الحوكمة بكلّ عناصرها، السبب في الوصول الى الانهيار المالي والاداري الشامل.
يقول المؤلف، وهو ابن الإدارة اللبنانية والعالم بواقعها، “في سياق السياسات المتّبعة أدّت الفوارق بين مستويات الدخل للعاملين في القطاع العامّ وأولئك العاملين في القطاع الخاصّ، وغياب أجهزة الرقابة كما تهميش دورها الرقابيّ لأغراض متعدّدة كثيرة وغياب نظام فاعل للثواب والعقاب على مستوى الدولة، إلى ظهور انحرافات أخذت أشكالًا مختلفة كالرشوة والفساد والمحسوبيّة واختلاس المال العامّ والتسيُّب واللامبالاة واللاثقة وفشل الإدارة العامّة في إشباع حاجات المواطن الأساسيّة ومتطلّباته بالحدّ الأدنى لحياةٍ كريمة”.
يورد المؤلف أمثلة تثبت لنا أنّ تقدّم ورقّي الدول غير مرتبط بتاريخ وجودها، ولا بكبر مساحتها ولا بطبيعة هذه المساحة الجغرافية، ليصل الى القول “ان الناس في البلدان المتقدّمة يتمتّعون بالسلوك المعتمِد على مبادئ الأخلاق كمبدأ أساسيّ، الاستقامة، المسؤوليّة، احترام القانون والنظام، احترام حقوق باقي المواطنين، الدقّة” وان “لبنان لا يُعاني من نقصٍ في الموارد الطبيعيّة أو الطبيعة القاسية، أو نقصٍ في الكفاءات… بل يُعاني من الفساد ومن سوء استغلال السلطة من أجل مكاسبَ شخصيّة”. ويخلص الى القول “لبنان بحاجة للحوكمة”. نعم لبنان ليس بحاجة الى المساعدات والهبات والقروض وقد تدفقت اليه على مدار السنين، وكانت النتيجة خسارة الخزينة لمليارات الدولارات، بنى خدماتية متهرئة، ضمانات اجتماعية وصحية منعدمة، كهرباء تعتم ولا تضئ في بلد حسن كامل الصباح.
لبنان بحاجة الى حوكمة تصرفات الإدارة وتفعيل دور القضاء وتأمين استقلاليته لنكون في دولة القانون والمؤسسات. لن نكون في دولة القانون والمؤسسات الا إذا كان “الكتاب” وحده هو مرجع القاضي والإداري صاحب القرار. لن نكون في دولة القانون والمؤسسات إذا كان الزعماء او الطوائف او الأحزاب يتقاسمون الإدارة والقضاء حصصًا.
يعرض المؤلف مسار ظهور نظام الحوكمة في العصر الحديث ويربطه بالأزمات والانهيارات الماليّة، التّي نجمَ بعضها عن انحراف بعض عناصر الإدارة التنفيذيّة المتمثِّل في شيوع الإهمال والاستغلال والفساد والتلاعُب في الحسابات. لينتقل بعدها الى عرض مؤشرات الحوكمة في القطاع العام ومنها:
• سيادة القانون حيث تضمّ المنظومة القانونيّة اللبنانيّة قوانين إصلاحيّة كقانون المنافسة، قانون تنظيم الشراكة بين القطاعين العامّ والخاص، قانون مكافحة الفساد في القطاع العام وإنشاء الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد، قانون استعمال الأموال المتأتّية من جرائم الفساد، قانون الشراء العامّ، قانون تعليق العمل بأحكام قانون سرّيّة المصارف، قانون حقّ الوصول إلى المعلومات، قانون حماية كاشفي الفساد، قانون التصريح عن الذمّة الماليّة والمصالح ومعاقبة الإثراء غير المشروع… وغيرها من القوانين الإصلاحيّة، ولكن المشكلة تكمن في التطبيق.
• الشفافيّة: يقول المؤلف بأنها ضعيفةٌ بالرغم من تأكيد القوانين عليها، مثل قانون حقّ الوصول إلى المعلومات، قانون الشراء العامّ والمنصّة الإلكترونيّة.
• المساءلة، وهنا تبرز مشكلة الحصانة الطائفيّة كما يقول المؤلف.
كتاب يحاكي واقع الحوكمة ويقارن بين عناصرها وركائزها وواقع التنظيم الإداري والسياسي اللبناني القائم على مرتكزات ومقومات تناقض عناصر وركائز الحوكمة، وطالما هذه العناصر غائبة عن التطبيق العملي طالما الانهيار المالي والإداري قائم.
أختم بأخلص الأمنيات بالتوفيق للمؤلّف، وقد عرفته طالبًا في قسم الدراسات العليا في القانون العام في الجامعة اللبنانية، يعشق التعمّق بالمعرفة، يبحث عن الحقائق والأسباب، يحلّل النتائج، حصل على الرسالة التي أعدّها بإشرافي، والتي شكّلت نواة هذا الكتاب تقدير جيّد جدًّا مع علامة 100/89 من لجنة فاحصة ضمّت علمين من أعلام العصامية والقانون الإداري في لبنان، د. عصام مبارك ود. عصام إسماعيل.
* رئيس هيئة الشراء العام. وقد كتب هذه المقدّمة لكتاب الباحث القانوني حسن فواز عمرو الصادر حديثًا بعنوان: “حوكمة القطاع العام في لبنان”، والذي يوقّعه مؤلّفه في حفل يقام في قاعة معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي الكائن في بيروت – كورنيش النهر، وذلك في تمام الساعة الرابعة من يوم الخميس الواقع فيه 27 تموز 2023.
“محكمة” – الأحد في 2023/7/23