حَسن عواضة… شهابيٌّ للتاريخ والوطن/وليد أبو دية
بقلم المحامي وليد أبو دية:
توقّفَ قلبهُ، وسقطَ قلمهُ.
من يدهِ ما وقع القلمُ لأنّه مات،
وإنّما ماتَ لأنّهُ كانَ قد وقعَ القلمُ.
كلماتٌ تحضرني غداةَ رحيل كبيرٍ إستثنائي، لا بعلمه وثقافته ونبلهِ فحسبْ، بل بتواضُعهِ المُلفِت.
هو مُلهمي وأُستاذي “حسن عواضة”.
عالمُ القانون من دون واحدٍ من أنهارهِ، ذلك أنّ الراحلَ نهرٌ، شرطٌ فيهِ أن يبقى له شيمة النبعِ.
بالأمسِ نكَّست مشغرة هامتها على رحيلهِ، وتداعى لها كلُّ الوطن حزناً، فانطبقَ عليه قول الأخطل:
“أليومَ أصبحتُ لا شمسي ولا قمري
من ذا يُغنّي على عودٍ بِلا وترِ؟”
من صفاته أنّه ليس كغيرِه من رجال القانون والفكر… ومن عمق إيماني بأنّ الموتَ حقٌ، ليس لي أن أُدلي بشهادتي بالراحل الكبير حسن عواضة، وهو من يعطي الشهادات.
لا نفتقد فيه غير الطلّة والصوت والإبتسامة، وكلّها في القلوبِ محفوظة.
شهابيّ أصيل، زاهدٌ كبير…أشاح ورفضَ وأبى أرفع المناصب في الدولة…تبتّلَ للوطن، للدولة، لمواطنيه، لطلاّبه، لمحبّيه.
فالذين ابتدعوا فكرةَ أنّ حسن عواضة كغيره من الرجال، يبدو أنّهم ما عرفوه، ولا يعرفونهُ، أو ربّما يجهلونهُ.
كلُّ ما في ماضيه، يؤَكّد أنّه ما أحبَّ المناصب، لأنّ في قلبهِ اكتفاءً وملاءَة…
رأيُه حجّة واجتهاد، للقادة، للرؤَساء وللمواطنين على حدٍّ سواء. فلا المناصب الوزارية استمالتهُ، ولا النيابة أغوَتهُ. فهوَ لم يؤْخذ بزلفى، ولا بتبييض وجهٍ…
ولأنّهُ عاشَ وعاصرَ عهدَ بناءِ دولة المؤسّسات، عهد الرئيس الراحل فؤاد شهاب، كانَ لهُ أن يشهد…
ومن مِثلُهُ، بحكمته وزهده وتواضُعهِ، تدحرجت عند مناعتهِ التجارب.
لقد أراد الرئيس شهاب أن يكونَ لهذا البلد جهازه الإداري العصريّ، فلم يتردّد في تحدّي فساد الإدارة الذي يأخذ بخِناق الدولة ويمتصّ دم الشعب، فجاءَ بالقانوني المترفّع حسن عواضة أوّل رئيس للتفتيش المالي. عرفَهُ قبل أن يتعرّف عليه. عرف عنه أنّه لا يساير، ولا يمالئ، ولا يُهادن، ولا يعقد صفقات…فهو كان يتدارك أيّ أذىً يلحق بالمواطن.
ولأنّ فؤاد شهاب لا يمكن أن ينفصل عن الشعب، فكلُّ ما كان يؤلم الشعب، كان يؤلمهُ…ولأنّهُ كشف سرَّ الإدارة، فقد فَهِمَ أنّ الأمرَ كلّه لا يحتاجُ إلى أكثرَ من إرادة، قرار، فتنفيذ، وكان الإصلاحُ الإداري قاعدته الأساسية لجميع برامج التطوير، فكانَ وبِحقّ “أبو الإصلاح الإداري”.
كانت لحسن عواضة، كما للرئيس فؤاد شهاب، من الذينَ حالفوا أخطبوط الإدارة عبرة… رآهم جميعاً قد ذهبوا، وبقي الأخطبوط.
لقد أُتيحَ لي، في الأعوام الأخيرة من حياتهِ، وكان قد جاوزَ التسعينَ، أن أكتشفَ المزيدَ من خصالهِ، وأخصّها إيمانه المتجذّر، وتعبُّده البعيدِ عن المظاهر والشكليات، يقيناً أنّنا كُلّما أمعنّا فيها، إبتعدنا عن الجوهر.
سيرتُهُ ساطعة ناصعة، لا إبهامَ فيها. كما وإنّ طاقة المحبّة، والمتابعة، والثقة، وثراء التجربة، معهُ، باتت بحجمِ إبطال الغيبة، وإلغاء معنى الرحيل.
ففي آخر مكالمة هاتفية معهُ وقبل أسبوعين من وفاته، وهو من بادرَ متصلاً، أوصاني بالمحافظة على المؤسّسة، وكان يعني بها “مؤسّسة فؤاد شهاب” التي كان لي شرف الإنتساب إليها، وكنت أميناً للسرّ في هيئتها الإدارية إلى جانبهِ، وكانَ نائباً للرئيس.
نعم “تكفي عهد الرئيس فؤاد شهاب مأثرة واحدة، إن لم يكن لهُ سواها، هيَ الإصلاحُ الإداري”…ويكفيكَ أيُّها الراحل”حسن عواضة”، دون ألقابٍ، لأنّ إسمك تجاوزَ كلّ الألقاب وكلَّ المحطات، يكفيكَ أنّك كنت للجميعِ أباً محِبّاً. وفي الإدارة، كما في القضاء والمحاماة، كُنتَ المثلَ والمثال.
سيبقى إسمكَ خالداً، وستذكرهُ الأجيال!
صدق جبران خليل جبران حين قال:
“إنّ الإنسان لا يموت دفعةً واحدة
وإنّما يموتُ بطريقة الأجزاء
كلّما رحلَ صديق ماتَ جزء
وكلّما غادرنا حبيب مات جزء
وكلّما قُتِلَ حُلمٌ من أحلامنا ماتَ جزء
فيأتي الموتُ الأكبر ليجِدَ كلَّ الأجزاء ميتة فيحملها ويرحل…”
فيا أيّها المتبتّل، ويا أيّها الشامخُ بتواضعكَ، في حياتك كما في مماتك، عوّضنا الّله بمحبّيكَ.
فإلى أولادك، الدكتور حسّان، والمهندسة سوسن أيقونة البيت، والمهندس أيمن، وإلى رفاق دربكَ، لهُم جميعاً ولنا كلّ العزاء، وإلى اللّقاء.
“محكمة” – الاثنين في 2019/9/9