خاص”محكمة”:كتاب القاضي بشارة متى”من أعماق الذاكرة” يعيدنا إلى الزمن الجميل/ناضر كسبار
المحامي ناضر كسبار:
في هذه الحياة المليئة بالعقبات، الحبلى بالمصاعب، نعمل ونشقى ونكافح لننجز ما يمكن انجازه. هذه الانجازات المتعدّدة والمتفرّقة مهمّة ولكنّها ليست الأهم، إذ يبقى أهمّ منها جمعها في كتاب لأنّه هو الذي يبقى ويخلّد الذكرى، وهو الذي يضيء على مراحل الحياة. ألم يقل معالي الصحافي الكبير المرحوم غسّان تويني يوماً عن الصحف بأنها تصبح أوراقاً صفراء ترمى في سلّة المهملات؟.
إلاّ أنّ الأمر يحتاج إلى همّة وإلى قرار لتدوين سيرة الحياة والانجازات في كتاب.
القاضي الدكتور بشارة متى استجمع قوته، وبهمته المعهودة انتشل من اعماق الذاكرة افكاره ومستنداته واصدر كتابه “من اعماق الذاكرة”. هذا الكتاب يجسد فلسفة الحياة بحد ذاتها. بأسلوب سهل ممتنع، يتكلم عن تاريخ ولادته، وكيف نشأ وترعرع وتعلم وتقلب في المراكز والمناصب العلمية والادبية والاذاعية والتعليمية والقضائية. اين فرح وأين حزن، وما هي الأحداث المهمة التي لا تزال عالقة في مخيلته، لنستنتج أنّ بشارة متى هو إنسان:
1- عصامي
2- شفاف ونزيه وآدمي
3- اديب
4- مفكر ذكي وصاحب نزاهة فكرية
5- رجل علم وقانون
6- متعدد المواهب في الادب والادارة والتعليم والرياضة وفي القانون وفي ادارة مؤسسات الدولة وفي القضاء
7- والأهمّ الأهمّ: مسؤول انساني. ورب سائل: وما المقصود بالمسؤول الانساني؟. فأجيب انه المسؤول الذي بتنا نفتش عنه في لبنان، فلا نجد الا قلة قليلة جداً. وان وجد فهو ليس كامل الاوصاف بل لديه البعض منها فقط. واذا اصر السائل على السؤال، اجبت: انه المسؤول الذي يملك السلطة والمال ويبقى على تواضعه وتواصله ومحبته لشعبه وللمحيطين به، ويبقى على شفافيته ونزاهته ونظافة كفه. وعلى متابعته لشجون وشؤون الناس بصبر وحكمة ومحبة وانتاجية وفعالية واحاطة الامور من جميع جوانبها. لا ينفذ اوامر هذا او ذاك، ولا يتمرجل على شعبه، او يمرر عليهم الامور مستغلاً قلة ادراكهم او ضعفهم او فقرهم وحاجتهم او خوفهم من المستقبل الم تشتاقوا الى هذه القماشة من المسؤولين؟.
** *
بالعودة الى كتاب القاضي الدكتور بشارة متى من اعماق الذاكرة. فقد اهدى الكاتب مؤلفه الى ولديه مروان وغسان واحفاده مارك وفكتور وسيلين واليزا وغبريل واصدقائه الذين رافقوه.
وفي المدخل يقول: من اعماق الذاكرة، اوراق من الماضي، هي اوراق متساقطة في قعر الذاكرة، تراكمت مع مر الزمن، بعضها يوحي بالفرح والزمن الجميل، وبعضها يوحي بالمعاناة، فالحياة لا تخلو من المصاعب.
ولد القاضي الدكتور بشارة متى في عمشيت في 25 اذار من عام 1939. بدأ دراسته في المدرسة الرسمية في عمشيت. ثم توجه الى جبيل لاتمام دراسته التكميلية في مدرسة الاخوة المريميين-الغرير. ثم انتقل الى الاشرفية في المدرسة الرسمية قرب مستشفى الروم ودخل دار المعلمين حيث تعرف الى الدكتور فؤاد افرام البستاني والشاعر سعيد عقل، والشاعر جوزيف نحيم، والرسامين الشيخ قيصر الجميل والبرفسور اسعد رنو والدكتورة مي المر. كما فتح منفذاً الى الصحافة اذ كان مراسلاً طلابياً في دار المعلمين لمجلة الشعلة الادبية لصاحبها فاضل سعيد عقل. ونال البكالوريا القسم الثاني-الفلسفة في مدرسة المخلص المسائية وهناك تعرف بزوجته المرحومة صونيا التي كانت تتابع دراسة الفلسفة في المدرسة عينها.
بعدها دخل كلية الحقوق، وبتاريخ 1967/11/22 صدر المرسوم بتعيينه قاضياً متدرجاً في معهد الدروس القضائية. وفي وصفه لسلوك القاضي يقول في الصفحة 33: “على القاضي ان يقرن العلم بالاخلاق والضمير، لانه مدعو الى الفصل في النزاعات بين المتخاصمين والى الحكم بالسجن الى الاعدام. وعليه ان يكون قدوة في المجتمع وليس فقط على قوس المحكمة، وموجب التحفظ ملازم لحياته وعدم تعريض نفسه للمظاهر التي سرعان ما يحكم عليه الناس من خلالها وهي مضرة له ولسمعة القضاء. وان لا يكون له طريق الى ابواب السياسيين لان طريقه هو الى قصر العدل”.
كلام جميل ورائع نتمنى الاقتداء به العمل بموجبه.
وبتاريخ 18 ايلول 1971 صدر المرسوم بتعيينه قاضياً اصيلاً وتولى مركز قاضٍ منفرد في قضايا الايجارات. وفي العام 1984 عين مديراً لمعهد الدروس القضائية. وبتاريخ 1999/8/19 عين رئيساً لهيئة القضايا في وزارة العدل. وهي جهاز قانوني للدفاع عن الدولة اي انها محامية الدولة وهي التي تجعل رئيس الهيئة بالمرصاد لكل معتدٍ على حق الدولة. الى ان تقاعد بتاريخ 25 اذار 2007.
وفي هذا المجال يقول انه احتفل مع اصدقائه بولادتين: ذكرى مولده في 25 اذار وتاريخ تقاعده. فهو كما قال عنه الصحافي شعيتو: قاضي ال28 الف ملف. الا ان القاضي متى يقول في الصفحة 44 من كتابه: “فقد كنت ولا ازال على قناعة بأن الدولة في لبنان هي رب عمل عقوق لم يدخل في قاموسه بعد مبدأ الثواب والعقاب”.
* * *
ما يلفت النظر في كتاب القاضي متى، هو ما اورده في الصفحة 170 اذ يقول: “اثناء همروجة التشكيلات، استدعاني مدعي عام التمييز القاضي ميشال طعمة وكان من المراجع القضائية النافذة في الدولة وعرض علي، ان اكون محامياً عاماً استئنافياً في بيروت، فشكرته وقلت له ان الرئيس الاول يريد ان ابدأ عملي بالقضاء المدني، فابتسم وربت على كتفي قائلاً: ليبقى الامر بيننا ولا لزوم لان يعرف الرئيس الاول. وصدرت التشكيلات وعينت عضواً في المحكمة الابتدائية”.
خلال الاتصال الهاتفي الذي جرى بيننا استغربت وقلت له: معقول حضرة الرئيس؟ فاجابني اكثر من ذلك، بعد وفاة الرئيس سليم الخوري ،عرض علي مراكز مدعي عام جبل لبنان، فرفضت. ويضيف القاضي متى ان مركزه في القضاء المدني وفر له فائدة كبيرة اذ ان معظم الاجتهادات الحديثة في الدعاوى المسندة الى قانون الايجارات صدرت عنه ولذلك فقد اختار موضوع اطروحته:”حق الايجار في المؤسسة التجارية”.
ويشير القاضي متى الى ان صندوق تعاضد القضاة انشئ في العام 1983، يوم كان رئيس مجلس القضاء الاعلى الوزير يوسف جبران، والمحامي خاتشيك بابكيان وزيراً للعدل. وقد شارك في عدة مؤتمرات في المغرب وبوردو ومصر واليمن والكويت.
* * *
وبتاريخ 25 اذار 2007، تقاعد القاضي الكبير الدكتور بشارة متى. وفي هذا المجال يقول: “كنت انتظر يوم التقاعد بفارغ الصبر، كالمسافر الذي يعود الى وطنه على ظهر باخرة، يقيس المساحة ويكاد يلمس بيديه مدخل الميناء وهو لا يزال بعيداً عنه”.
ويضيف: فلسفة التقاعد هي مكافأة كل من يعمل في نهاية الخدمة، ومن حقه ان يولد من جديد ويتنشق الراحة، ثم الراحة وعجباً من راغب في ازدياد”.
واثناء تكريمه في مكتب مدير عام وزارة العدل الدكتور عمر الناطور القى كلمة موجزة “انا يا احبائي وزملائي القضاة ذاهب الى الحرية فادعو لي بالتوفيق لكن هذا لا يمنع ان اقلب صفحات الماضي واجد وجوهكم في كل صفحة”.
وقد كرم القاضي بشارة متى في اكثر من مكان ومناسبة وقيلت فيه الشهادات، وكتبت عنه المقالات. وكان فرحاً وهنيئاً في حياته، الى ان اتى اليوم المر ففي ليل 11/1/2013 اسلمت زوجته المرحومة صونيا فتح الله متى الروح بعد ان غزا المرض جسدها وتحملت من العذاب ما لا يوصف بصبر يكفي ليكون فداء اكثر من مريض.
* * *
وينتقد القاضي متى بعض المسؤولين ليقول:”بعض اللبنانيين يدخلون الهيكل الاداري
شرفاء فيتلوثون في داخله. اياك ومعالجة النتائج فحسب، بل عليك بالاسباب. حتى الان عولجت النتائج فأعطت نتائج فادحة فساد الادارة اسبابه في الادارة وفي خارجها:
الاسباب الخارجية قد لا تقوى في ست سنوات على معالجتها، انها متصلة بنفسية المواطن وبفقدانه المواطنية. عليك بالبيت وبالمدرسة لتهيئة جيل من المواطنين الفعليين.قد لا تنجح في رؤية ثمار المعالجة المرجوة، لكنك اذا شرعت فيها قد يكملها خلف لك، لان التربية المدنية والوطنية لا تكتسب كجرعة الدواء، انها تغرس وتنمو وتزهر وتثمر شرط تعهد الغرس. اما الاسباب الداخلية فهي متصلة بالوظيفة الادارية عينها.
الوظيفة في لبنان خدمة في جو تجويعي معقد ادارياً وحياتياً وانسانياً تقابله اغراءات قد لا يقوى على الصمود ازاءها ناسك متعبد فيكيف بموظف مسحوق مادياً، مشتت معنوياً، تتجاذبه الضغوط الساسية وتهز كرسيه الارادات الخفية ويعوي في جيبه الطفر.حتى الان، انتاج الموظفين لا يعادل رواتبهم، لكن ذلك لا يمنع القول بوجوب دراسة رواتب “اولاد الحكومة” بشكل يتلاءم ومتطليات الحياة والمعطيات الانسانية والاجتماعية، حتى لا يتمادى “الاولاد” في اخذ “الخرجية” من المكلفين او من “عب امهم”.
زيادات الرواتب السابقة لم تكن فعالة انما امتصت معظمها رواتب كبار الموظفين.
عليك بمعالجة وضع الموظفين اساساً قبل ان تحاسبهم على انتاجيتهم.
* * *
وفي دعوة الى البلاهة يقول:
راسك هذا يا اخي عدوك
وانت اضعف من ان تقاومه، لانه متسلط عليك منذ البداية
جعله خالقك في اعلاك فعلاك
نصيحتي لك:
دعه في مكانه ولا تتطلع اليه، اهمله
لا تعطه الافكار، امنع عنه الوقود
عامله ببلاهة، ضلله
لا تستجب له، قوَ اجهزة البلاهة فيك
وستجد ان جميع المفاهيم-التي اقنعك بها-كاذبة لا اساس لها
اخلق لنفسك مقاييس جديدة
جمد احاسيسك، لا تكترث لشيء لا تهتم بمن حولك، تنكر لجميع الذين قدمهم لك راسك المحترم
وستجد بعد مدة فوق كتفيك رأساً مشلولاً، ذليلاً، عاطلاً عن العمل، يود ان يتوب ويرجع اليك “كالابن الشاطر”
ولكن اياك، فالابله لا يكرر التجربة لانه متحرر من اغراء التفكير والطمع
وانت من الذين شبعوا لحساً!”
* * *
وتبقى في ذاكرة الكاتب صور لا يتقادم عليها الزمن فيقول: “تحتفظ الذاكرة احياناً بصور لا يتقادم عليها الزمن، رغم ان اصحابها لا يزالون احياء ونعيش معهم ولا حاجة لاشغال الذاكرة حتى نتحدث عنهم.صورة مروان في مطار بيروت عند هجرته الى كندا، ودخولنا الى المطار والجنود السوريون يقومون بكل شيء.
كان برفقتنا القاضي اسعد دياب ورئيس جهاز امن المطار مهدي الحاج حسن. صورة مروان مع الحقائب لا تزال في ذاكرتي، رغم انه انتقل من كندا الى المانيا ويأتي دورياً الى لبنان، الا ان هذه الصورة: مشهد المغادرة الى كندا يُرسَخ في ذاكرتي بداية الهجرة.
والصورة الثانية،وكنا في باريس انا وزوجتي صونيا في زيارة لغسان الذي كان يدرس آنذاك في فرنسا. وفي آخر يوم من الزيارة، تناولنا الغداء معاً في مطعم في شارع الشانزليزيه وودعناه بعد الغداء عائدين الى الفندق. وانصرف وحيداً، وتطلعت اليه بعد ان أدار ظهره في اتجاه معاكس لوجهتنا، واحسست يومها بالغربة وبالاتجاه نحو المجهول.”
* * *
في الخاتمة، وبعد مطالعة كتاب من اعماق الذاكرة للقاضي الدكتور بشارة متى، والذي تتمنى الا تنتهي- اي المطالعة، لانه يعيدك الى الزمن الجيمل، تعود وتضرخ الى الله ان تبقى عيناه على بلدنا الحبيب لبنان الذي صنفه وقفاً له ضارباً كل من يعتدي عليه او يؤذيه.
“محكمة” – الاثنين في 2019/2/11