خاص”محكمة”: إرفعوا ألسنتكم عن القضاء/بسّام الحاج
بقلم القاضي بسَّام الياس الحاج:
لا شكّ في أنّ ما يتعرّض له القضاء والقضاة في هذه الأيّام من تشكيك وتحريض وحملات مضلِّلة ومنظّمة، يكاد يكون من غير المسبوق في تاريخ لبنان. ولا مجال هنا للدخول في تفصيلات مسبّبات الأزمة وطرق معالجتها، إنّما من الملحّ التطرّق إلى مسألة لم يعد بالإمكان أو المسموح السكوت عنها لتأثيرها في مسار العدالة في هذا البلد، ألا وهي التطاول المتمادي على كرامات الناس وسمعتهم تحت عناوين حريّة التعبير وحقّ الاعلام في البحث عن الحقيقة وتنوير الرأي العام. إذ إنّ ما نشهده في الآونة الأخيرة في هذا المجال لم يعد له أيّ علاقة بهذه العناوين اطلاقاً، فأن يصل الأمر ببعض الاعلام إلى حدّ إرسال التهديد العلني لقاضٍ، وعبر المحيطات، ويقول له “انتظر عودتي”، لهو أمر أقلّ ما يقال فيه إنّه من علامات السقوط الأخلاقي والاجتماعي والمؤسّساتي في هذا المجتمع، ولا سيّما إذا كان القاضي المقصود هو من المشهود لهم بعلمهم واستقامتهم ونزاهتهم.
والحقّ يقال، لقد انتظر القضاة كثيراً، وسكتوا كثيراً، وصبروا كثيراً، تقيّداً بموجب التحفّظ، وترفّعاً عن الدخول في متاهات وجدالات عقيمة مع هذا وذاك، لكن أن يصل الفلتان لدى بعض الاعلام إلى هذا الحدّ، والذي بلغ حدّ الجريمة، فلم يعد مسألة فيها نظر … وأصبح الردّ حقّاً وواجباً.
لطالما كنت من أشدّ المدافعين عن حرّية الرأي على وجه عام، وحرّية الصحافة على وجه خاص، مذ كنت طالباً في الجامعة، وعندما أصبحت قاضياً في محكمة التمييز الناظرة في قضايا المطبوعات، غير أنّ ما يحصل، ومرّة أخرى، “من بعض الاعلام”، يستدعي تدخّل أهل الصحافة أنفسهم من أجل الحفاظ على تقاليد مهنتهم وآدابها، وهي من أشرف المهن، ومن أجل وضع الأمور في نصابها الصحيح. فالفساد ليس في الإدارة وحدها. كما أنّ ما يحصل يستدعي تدخّل النيابة العامة عفواً لإجراء المقتضى. فالمسألة لم تعد متعلّقة بشخص قاضٍ بعينه، وإنّما أصبح الكيان القضائي هو المستهدف ككلّ. وعلى المشترّعين عندنا كذلك التدخّل من أجل تشديد العقوبات على من يتعرّض للأحكام بصورة تمسّ هيبة القضاء، أو يتعرّض للتحقيق أو يتدخّل فيه بقصد التشويش أو التأثير في سيره.
ويحلو لي هنا ونحن على أبواب الاستعداد للاحتفال بالمئوية الأولى لمحكمة التمييز اللبنانية، وهي من أعرق محاكم التمييز في المنطقة والعالم، من تذكر ما قاله كبير من كبار قضاتنا، عنيت به الرئيس الأوّل الأسبق الراحل يوسف جبران، والذي كان من أشدّ المدافعين عن حرّية الصحافة، إذ قال: “… فليحق للصحفي أن يطالب بالحرّية يجب أن يكون في ما يكتب وينشر محافظاً على كرامته وعلى كرامة الآخرين، وإلاّ يجب أن يعاقب وأن يكون عقابه زاجراً” (دراسات في القانون، ص 282).
فيا أيّها السادة، إرفعوا ألسنتكم عن القضاء. فإذا سقط هيكل العدالة إنهار المجتمع برمّته. فهذا القضاء الذي بدأ معركة الاصلاح بنفسه هو وحده الذي يحمي حرّياتكم وكرامتكم وسائر الحقوق. وإذا كان للصحافة من دور توجيهي وللرأي العام من أثر في إصلاح الأخطاء القضائية، فهذا يتمّ من قبل أشخاص أحرار ومستقلّين فعلاً ومن خلال الآليات المحدّدة لعمل المؤسّسات والحفاظ عليها، وليس من خلال ضرب المؤسّسات. فماذا يبقى من القضاء إذا كان كلّ واحد لم يعجبه أداء القاضي في الجلسات يطلع إلى الإعلام ويتوعّد. وعشتم وعاش لبنان وعاش القضاء.
“محكمة”- الثلاثاء في 2019/5/28