خاص”محكمة”: البعثات القنصلية بين ضوابط نظام الحصانات وواجب احترام القانون الدولي وقانون الدولة المضيفة/محمّد حيدر
الدكتور المحامي محمّد حيدر:
أثارت مسألة اختفاء الكاتب الصحفي جمال خاشقجي في الثاني من تشرين الأوّل 2018 غداة دخوله قنصلية المملكة العربية السعودية في العاصمة التركية ،لإتمام بعض المعاملات والوثائق ، أزمة سياسية إقليمية ودولية واستنفاراً قانونياً وإعلامياً ، أدّت إلى طرح مجموعة من الأسئلة الكبرى من نوع طبيعة حدود نظام الحصانات القنصلية التي يستفيد منها مقرّ البعثة القنصلية وأعضاء البعثة والموظّفين القنصليين في البلد المضيف، بمقابل واجباتهم تجاه هذا البلد ووجوب التزامهم بالمعايير الوظيفية المحدّدة بموجب قواعد القانون الدولي ،وأثر استغلال مقرّ البعثة أو الصفة القنصلية، لارتكاب أفعال تخرج عن الوظيفة القنصلية على خلفية سياسية.
وللإجابة على هذه الاستفسارات، نعود بالذاكرة إلى سابقة تمثلت باغتيال المعارض العراقي طالب السهيل من قبل دبلوماسيين وقنصليين عراقيين على الأراضي اللبنانية ، وكيفية تعاطي القضاء اللبناني مع هذا الملفّ بلحاظ نظام الحصانات، ثمّ نبيّن حدود وضوابط هذه الامتيازات والحصانات للبعثات القنصلية ولموظّفيها ولمقرّاتها، ومدى ارتباط فلسفة منح الحصانات بمفهوم حُسن اداء الوظيفة والمهام القنصلية، دون افادة الأعضاء بصفاتهم وأشخاصهم للتستّر خلفها.
ففي العام 1994 تمّ اغتيال المعارض/طالب السهيل برصاصتين من مسدّس مزوّد بكاتم صوت بمنزله في العاصمة بيروت عندما كان في زيارة عائلية مع زوجته للتحضير لحفل زواج ابنته، ووجّهت آنذاك الشبهات الى القيادة السياسية العراقية وإلى المخابرات العراقية، ولم تمض ساعات حتّى ألقت السلطات اللبنانية القبض على أربعة موظّفين دبلوماسيين وقنصليين عراقيين ضالعين في ارتكاب الجريمة،وتطوّرت الأزمة إلى حدّ قطع العلاقات الدبلوماسية بين لبنان والعراق لعدّة سنوات.
وقتذاك، أعلن المدعي العام لدى محكمة التمييز في 12 كانون الأوّل من العام 1994، أنّ الموقوفين لا يتمتّعون بالحصانة ، وأنّ طبيعة التهمة الموجّة إليهم تبيح توقيفهم الذي استمرّ في سجن رومية لمدّة ثلاثة وثلاثين شهراً،ليصدر بعدها قاضي التحقيق في بيروت قراراً قضى بعدم سماع الدعوى العامة بحقّ الموقوفين العراقيين الثلاثة بعد وفاة القنصل/ خالد الجبوري في العام1995،لاستفادتهم من نظام الحصانات، وتمّ ترحيلهم إلى بلادهم وجرت محاكمتهم لاحقاً من قبل القضاء العراقي وإنزال عقوبة الإعدام التي نُفذت بحقّ كلّ من هادي حسوني وعبد الحسن المجيد وفاروق حجازة وغيرهم،
هذا في التطبيق العملي،أمّا على مستوى النصوص، فإنّ المفهوم النظري الذي اتكأت عليه اتفاقية فيينا لعام 1963 للحصانات والامتيازات القنصلية يقوم على مبدأ ضرورات الوظيفة او المفهوم الوظيفي وفقاً لمقدّمة الاتفاقية التي اعتبرت انّ القصد من هذه الحصانات ليس إفادة الأفراد، إنّما ضمان الأداء الفعّال للوظيفة القنصلية، ويسري هذا المفهوم وهذا الاساس النظري أيضاً على حصانات المقرّات والمحفوظات والأعضاء.
بهدف تسليط الضوء على ضوابط وحدود الحصانات والامتيازات القنصلية وعلى مداها، سنعرض باختصار الاحكام الواردة في اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية لعام 1963لناحية الحرمة الشخصية والحصانة القضائية لاعضاء البعثة القنصلية ، بمقابل الواجبات الملقاة عليهم تجاه الدولة المضيفة والمنصوص عليها في “الفصل الثالث” من اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية لعام 1963 ،وتحديداً في المواد ذات الأرقام /40،/41/،/43/،/55/ منها.
ولا مندوحة من القول، إنّ الحرمة الشخصية للمبعوث القنصلي توجب حمايته من قبل الدولة المضيفة والعمل على إتخاذ جميع التدابير والإجراءات للحؤول دون تعرّضه لأيّ اعتداء، إلا انّها لا تحول دون إحتجازه ولا تمنع توقيفه بصورة احتياطية في حالة الجرم الخطير وعلى أثر قرار من السلطة القضائية المختصة، ولم تعفِ الاتفاقية الموظف القنصلي من واجب المثول امام السلطات القضائية المختصة لدى مباشرة الإجراءات الجزائية ضدّه.
أمّا الحصانة القضائية الممنوحة للموظّفين القنصليين، فليست حصانة مطلقة او كُليّة، بل هي حصانة نسبية، بمعنى انّها تشمل فقط الافعال الواقعة بمناسبة ممارسة الوظيفة القنصلية، أمّا الجرائم الأخرى فإن مرتكبها وعلى الرغم من صفته القنصلية فإنّه لا يُفاد من نظام الحصانات، ويمكن بالتالي اخضاعه للتوقيف الاحتياطي ومحاكمته أمام قضاء الدولة المضيفة.
إنّ القصد والهدف من الحصانات والامتيازات هو ضمان اداء فعّال للوظيفة القنصلية وليس إفادة الأفراد القنصليين الذين قيّدتهم الإتفاقية بباقة واجبات أثناء ممارستهم وظائفهم، والتي تُمثل احترام قوانين وأنظمة الدولة المضيفة وعدم التدخل في شؤونها الداخلية وعدم استخدام مقرّ البعثة القنصلية واستغلال الحصانة بما يتنافى مع جوهر وطبيعة الاعمال القنصلية وهذا ما أكّدته صراحة ودون لبس، احكام المادة 55 من الإتفاقية.
وختاماً،إنّ الموظف القنصلي ليس في حلّ مطلق من العقاب عند ارتكاب الجرائم غير المتصلة بحسن اداء الوظيفة القنصلية ،وأن مقرّ البعثة القنصلية هو مكان للأعمال القنصلية وفقط القنصلية، ولا يجوز استخدامه لأعمال تخالف قانون الدولة المضيفة، والتي ترتب تبعات قانونية خطيرة على مرتكبيها.
(نشر في النسخة الورقية من مجلّة “محكمة” – العدد 35 – تشرين الثاني 2018)
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يرجى الإكتفاء بنسخ جزء من الخبر وبما لا يزيد عن 20% من مضمونه، مع ضرورة ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.