خاص”محكمة”: ماري دنيز المعوشي قامة قضائية عالية/سميح صفير
القاضي الدكتور سميح صفير:
“يا وردةً نَسقيها بماءِ العيون، قَطَفها ملاكُ الموتِ من القضاءِ المأمون”
مُذُّ أن شاعَ خبرُ انتقالِها إلى دُنيا الحقِّ حتى التقت المواقفُ وكَثُرت البياناتُ أسفاً وحَزَناً وتأوُّهاً ووجَعاً وآهات على غيابها وتزكيةً لمزاياها وإظهاراً لمحاسِنِها وإعجاباً بسيرتها وسريرتها ونِضالها، وهذا إن دلَّ، يدلُّ على عُمقِ محبتِها للناسِ، والانسانُ يحبُّ من يُحسِنُ إليه.
وهذا يدلُّ أيضاً على عطائِها الفيَّاض وسموِّها الجيَّاش، ولقد علَّمنا الايمانُ أنَّ الأبرارَ الأوفياءَ يُدركِون أنَّ من أَخَذَ يَجبُ أن يعطي، و”لن تنالُوا البرَّ حتَّى تُنفِقوا ممَّا تُحِبُّونَ وما تُنفِقُوا من شيئٍ فإنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ” (القرآن الكريم، سورةُ آلِ عِمرَانَ، آية 92).
وما أرادَهُ اللهُ كان وما كان إلاّ ما أرادَهُ اللهُ، فسمح الربُّ، بقدرتِه التي لا تُقاوم، أن يَقطفَها من بُستانِ القضاءِ وصَرحِ العدالةِ ليَشتِلَها من جَديدٍ في مَوقعٍ آخرٍ من أرضِ “لبنان” الذي حكمت باسمِ شعبِه الأبيِّ طِيلةَ سَبعةٍ وثلاثين سنةً نِعمةً تَحلُّ في سمائِه، وهديةً تحمِلُ مِيزانَ العدلِ إلى جنَّتِه.
ولا يسعنا، ونحنُ في وسطِ مَشهدِ الموتِ المهيب والإطار الكئيب والخوف الرهيب، إلاّ أن نقولَ: يا “سما” لا تتركي وردةً … سقيناها بماء العيون … وغمرتنا بلطفٍ حنون… وأحببناها حتّى الجنون …،
وفيها نقولُ،
جاءت القاضيةُ ماري دنيز من كرمِ شلاّلات جزّين لتصبُّ الخير في قلوب أهالي الوطن وتنُّورين، استهوتها رِفقَة الأقلامِ والكتبِ، وحِيرةِ البحثِ عمَّا هو “صِراطٌ مستقيم”، وآمنت بأنَّ الذاتَ هي لتُبذَلَ لا لتنغلِقَ، ثمّ حلّت في القضاءِ وحلّقت في فضائه قامةً عاليةً وقيماً عديدة.
حَملَت على سواعِدِها وحولَ مناكِبِها أصالةَ القوَّاد من مُقدِّمي جبل لبنان أجدادها الذين اشتروا “مجدل المعوش” من الأميرِ علي بن فخر الدين الكبير، فخلَعت عليهم اسم “المعوشي”، قبلَ أن يتوطنوا جزّين مسقِط رأسها، وقد ورثت عنهم ما تميزَّت به من صفاءِ ناصيةٍ وقوةِ إرادةٍ ولُطفٍ بدونِ مُيُوعةٍ وصلابةٍ بدون خُشُونَةٍ، وهي التي تميَّزت بالحَزمِ والعَزمِ والجَزمِ والحَسم.
وأفض في ذلك، أنَّها من سُلالةٍ حملت شعلةَ الحقِّ عالياً ولواءَ الوطن رافعاً، فهي ابنةُ القاضي المرحوم غبريال المعوشي الذي اشتهر بأحكامه الصَلَد، ومواقِفِه العَنَد على رأسِ الحركة المطلبية القضائية، ونسيبةُ عائلةِ “المعوشي” الكريمةِ التي أعطت للوطن وللقضاء رجالات عِزٍّ نخصُّ: الطيِّبُ الذِكرِ الكاردينال البطريرك بولس بطرس المعوشي والجليلُ الرئيس الأوَّل لمحكمة التمييز بدري المعوشي.
دخلت الراحلة إلى محراب القضاء متفوقةً بتاريخ 1/10/1981، وتقلَّبت فيه في مراكز مسؤولية متنوعة، كالعروسِ المنتقلةِ التي تُزفُّ اليومَ بينَ الأزهارِ المتموجةِ، سابرةً أغوارَ المحاكمِ والملفاتِ كاشفةً سراديبها وسرادقاتها؛ فكانت القاضي المدافع عن حقوقِ الدولة والملحقة في هيئة القضايا في وزارة العدل، والقاضي العملي المنفرد في جديدة المتن، والرئيسة الرزينة لغرفةٍ لدى محكمة الدرجة الأولى في بيروت والرئيسة، التي ما تأخرت يوماً ولا توانت عن تطبيق مواد أصول المحاكمات المدنية بحذافيرها وبصيغةٍ عمليةٍ سهلةٍ تقتصدُ العناءَ على المتقاضين والوقت في إصدار القرارات، وخصوصاً عند ترؤسها غرفةً لدى محكمة استئناف جبل لبنان، وهي أيضاً القاضيةُ العالمةُ الباحثةُ التي ترأسَّت، بعد نيلِها شهادة الدكتورة من جامعة Poitiers فرنسا بتفوقٍ وثناءٍ لافتٍ وامتيازٍ باهرٍ تحت عنوان:”L’internationalisation du droit pénal, le liban dans le monde Arabe”، (ترأست) هيئةَ التشريعِ والاستشاراتِ في وزارةِ العدل، فكانت المتميّزة بأدائها وآرائها.
ولا ننسى مواقِفَها الشجاعةَ وتحديداً في رحابِ مجلس القضاء الأعلى التي كانت عُضواً فيه ما بينَ العامين 2012 و2015، فما كانت تجزعُ من قولة “كلا” ولا تخشى قولة “نعم”، وما كانت تلقي بالاً إلى أنَّ الإنسانَ خُلِقَ هلوعاً … جَزوعاً … مَنوعاً.
كما تولَّت بإخلاصٍ وأمانةٍ رئاسةَ مجلسِ إدارةِ الصندوقِ التعاوني للمساعدين القضائيين.
وتفانت أيضاً في بناءِ الأجيالِ وتربيتِهم فكانت الأستاذة المحاضرة في جامعاتِ لبنان، والمشاركِة الفعَّالة في المؤتمراتِ المتنوعة والمساهِمة في إعدادٍ رَهطٍ من مشاريع القوانين وتدقيقها.
وقد اقترنت الراحلة بالدكتورُ عصام طربيه، صاحب الضمير العالي في تطبيبِ الأجسادِ والعلمِ الوافي في إسداءِ المشورةِ والصبرِ الكافي في إرشادِ النفوس والمتفرِّدِ في بُعدِ النظرِ وعلوِّ الهمَّةِ وجُرأةِ القلبِ وطولِ الباعِ في معالجةِ مرضاه، وقد جاهدت إلى جانبه لتنهض بما عليها من مسؤولياتٍ جسام عائلية واجتماعية ورزقهما الله معاً ثلاثة أبناء: ليا وميشال وأنطوان، فكانت الأمّ الحنونة والانسانة الخلاَّقة والقاضية الورِعة التي ما فارقت عيونُها يوماً تبحثُ عن غُبارِ عدالةٍ تنثرُها في ميزانِ العدلِ.
ولعلَّ هذه الصفات النادرة، التي كانت تجمعها في شخصِها، هي وحدها الترجمة الحقيقية لما يُذرف عليها من دَمعٍ سخيٍ، والمشاركة في التَحسَّرِ عليها هي أيضاً الردّ الطبيعي لمشاركتها طِوالَ حياتِها بهموم لبنان واللبنانيين ممن أحبتهم حتى الأعماق، من زملاءٍ وأصدقاءٍ وكبارِ رجالِ المبادئ والفكر.
هذه الزميلةُ القاضيةُ التي انسلخت عنَّا أمس بكلِّ ألمٍ، كانت المتمكنة بفهمِ أصول القانون ومواده الجافة، وفهمها مارسته سلوكاً إنسانياً امتاز بالعمق والشفافية وبالأناقة الساحرة شكلاً ومضموناً وخدمةً للنَّاس، فساوت بين الناس بترفُّعٍ من دونِ غرور وادعاء، بلْ بشمخةٍ محُبّبة لا تلينُ ولا تساومُ فكانت الوفيةَ الدائمةَ وما أندرَ الوفاء في زمن الأثْرة وفي زمن الحَسرة وفي وقت العُسرة.
ونحنُ زملاؤك يا ماري دنيز الذين كانت لنا في استقامتِك عِبر وفي حياتِك مآثرُ وفي مواقِفِك عظات، نقول:إنَّك باقية في خواطرنا وفي وجداننا.
والسلامُ على روحكِ يا رايةً للحقِّ تنطوي لها عهود وعقود، ويا علماً خفَّاقاً بلا حدود ومدود. ويا وردةً عَطِرةً نسقيكِ بُكاءً بماء العيون.
“محكمة” – الاثنين في 2018/07/30