خاص”محكمة”: هيبة القضاء وديكتاتورية المصارف/سابين الكك
الدكتورة سابين الكك*:
خلف تاريخ المصارف وضيائه، يئنّ كلّ لبناني مثقلاً بوطأة زيفهم،
زيف الاستقامة… والمواطن يرتمي مذلولاً في طوابير الانتظار،
زيف العبقرية… والمواطن يترصّد جنى دربٍ أو تقاعد عمرٍ،
زيف التضحية… والمواطن يترقّب بكلّ صبرٍ أمام صناديقهم الفارغة.
قطاعٌ أبهر المجتمع اللبناني بدعاياته وبإعلاناته حتّى انقضّ على مدّخراته في عزّ النهار دون حسيبٍ أو رقيبٍ، واتّكأ بتعجرفٍ على أسس دولةٍ متصدّعة وأصوات شعبٍ جائع، متذرّعاً بأوضاعٍ البلد الاستثنائية، ليتعسّف في استعمال ما منحته إيّاه القوانين والتشريعات، وليتعدّى بمخالفاته وبقيوده على مبادئ قانونية ثابتة عرفاً واجتهاداً. تمسَّك النظام المصرفي بحججه الواهية غير آبهٍ ولا مبالٍ بدولة القانون والمؤسّسات، لا بل مطمئناً إلى أنّ القرارات القضائية لن تمسّ ديكتاتوريته الرأسمالية بخدوشٍ. ولكن، سرعان ما تفاجأ نادي المصرفيين بقرار قاضي الأمور المستعجلة في النبطية أحمد مزهر الذي حمل جرأة الجنوب المقاوم لينبئ بأنّ العدالة آتية لا محال، وبالرغم من محاولات امتصاص ارتدادته عبر وقف تنفيذه استئنافاً، إلّا أنّ قرارات القضاء المستعجل في بيروت والمتن وعالية وزحلة توالت وتناغمت من حيث الدقّة والتكامل وشكّلت نهجاً واضحاً، ولو، لم تتكلّل بنتائج ملموسة للمودع حيث أوقفت محاكم الاستئناف تنفيذ كلّ القرارات التي أرغمت المصارف على دفع أو تحويل أموال المودعين.
وجاء قرار محكمة الاستئناف في البقاع تاريخ ٢٣ كانون الثاني 2020 بردّ طلب وقف تنفيذ قرار القاضي ريتا حرّو الصادر بإلزام بنك الاعتماد اللبناني بتحويل مبلغ ١٦٣ ألف دولار أميركي إلى مصرفٍ في الصين، ليرسم أفقاً جديداً للأزمة المصرفية، وليصدح صوت الحق عالياً بوجه تكتّل المصارف بعد تعرّض قرار القاضي حرّو، كما القرارات الأخرى، للانتقاد المقبول لو جاء في ظرف آخر. ولأنّ للقاضي دوراً أرقى وأسمى من أدبيات القانون الجامدة، نشهد في متن القرار المعجّل والنافذ على أصله، حيثيات مكتوبة بعناية متناهية لجعلها توليفةٍ بحثية، مصرفية وقانونية، دون أن تغفل القاضي حرّو طلب حاكم مصرف لبنان الموجّه إلى وزير المال بتاريخ ٩ كانون الثاني 2020 فقدّمته إثباتاً يرقى إلى مرتبة الإقرار. وبذلك، يكون قد أطاح قضاء العجلة بالإعتباط الذي رافق الأزمة المصرفية الحالية، وتصدّى بمسؤولية إلى حملات تضليل الرأي العام وتعطيل دور السلطة القضائية كملاذٍ دستوري في هذه اللحظات المصيرية.
المفارقة الأساسية تكمن في الخلفية القانونية المعتمدة في تفسير عبارة “حماية القطاع المصرفي” والتي تناقض مفهومها، ضمناً بين قرارات قضاء العجلة بدايةً واستئنافاً. لذا، وبدافع إيلاء المسار القانوني الموقع الأبرز بعيداً عن لعبة تقاذف المسؤوليات بين السلطة السياسية والمصرف المركزي وجمعية المصارف، سنبحث، الحماية المدنية للمودعين وللعملاء، الطرف الضعيف والمذعن في العقد المصرفي، للطرف القوي، المتمثّل بالبنوك مدعومة من جمعية المصارف، من خلال:
أوّلاً- تحديد أهمّية البيئة القانونية في حماية القطاع المصرفي.
ثانياـ التأكيد على الحماية المدنية للعملاء في إطار العمليات المصرفية.
أوّلاً- البيئة القانونية الناجعة عصب القطاع المصرفي
نعني بالبيئة القانوينة القائمة في دولة من الدول، النظام القانوني الشامل بكلّ مكوّناته التشريعية والتنظيمية والقضائية والإدارية، ولا مناص، عملياً، من تمتين هذه المنظومة القانونية لتطوير أيّ خطّة إستثمارية مالية واقتصادية، عمادها قطاعٌ مصرفيٌ سليم. لذلك، إنّ مقولة حماية المصارف تستدعي حتماً تفعيل بيئة قانونية حاضنة، قوامها العدالة بجناحيها، القانون والقضاء.
في لبنان، يتكوّن النظام المصرفي من مجموعة التشريعات النافذة والتعاميم التطبيقية، دستورها النقدي قانون النقد والتسليف. ومتطلّبات صيانة قطاع البنوك تستسيغ التشدّد في تطبيق القواعد القانونية، ولو، من خلال السلطة القضائية، لأنّ استقرار المنظومة المصرفية يتمّ عبر إعلاء معادلة، الاستمرارية مقابل الثقة والائتمان، حيث دعم الشركات المصرفية يقابله لزاماً تحصين حقوق المودعين والعملاء.
وفي هذا السياق نورد أبرز المبادئ الأساسية في النظام المصرفي اللبناني التي أرادها المشرّع ضمانة للمصلحة العليا بوجه تعسّف واستغلال المصارف لموقعها الاقتصادي الذي يعطيها قوّة وسطوة، المحتكر، ويجعلها في مرتبة متقدّمة على زبائنها.
أـ خلق التوازن في العقود المصرفية، قواعد إلزامية وتغليب مصلحة الطرف الأضعف
أحكام قانون النقد والتسليف تنزع عن المهنة المصرفية كلّ القواعد العامة التي تتعارض معه، وتعتبر نصوصه بمعظمها إلزامية لتعلّقها بالنظام العام الاقتصادي، “وأتى المشترع ليحدّ من هذه الحرّية التي تنعم بها المصارف، إذ نصّ خاصة على الأحكام التي تتعلّق بانتظام سير عملها والموجبات الملقاة على عاتقها بما يضمن حقوق المودعين وأموالهم.”(هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل، رقم ١٥٠، تاريخ1979/2/6، صادر وبريدي، مجلّد ١٣ ص ١٣٣١٣).
في الموازاة، تبقى القواعد العامة في قانون الموجبات والعقود وأحكام قانون التجارة اللبناني واجبة التطبيق في المسائل التي لم يتناولها المشرّع من خلال قانون النقد والتسليف. وفي هذا الصدد، إستند القضاء إلى قانون الموجبات والعقود على أكثر من صعيد، لا سيّما:
• في عقد الوديعة
” حيث إنّ المصرفي بطبيعة عمله وبحكم مهنته يقوم بقبول الودائع، الأمر الذي يدخل في أساس عملياته اليومية، وهو في هذا المجال مسؤولاً عن سبب كلّ هلاك أو تعيّب استناداً للمادة ٧١٣م.ع، فيما لو ثبت أنّه كان في وسعه اتقاء ذلك الهلاك أو التعيّب، ولا فرق إذا كانت الودائع نقدية أم كمّيات من الذهب.” (إستئناف بيروت، الغرفة الأولى، رقم ٦٢ تاريخ 1988/3/15 ، المصنّف في الاجتهاد التجاري، ١٩٩٥، ج٢ ص١٦٢)
ووفقاً للمادة ٧١١ م.ع.، على المصرف أن يلتزم بردّ الوديعة عينها وملحقاتها بذات العملة التي أودعت فيها، “حيث إنّه لا يجوز للمصرف تحويل حساب العميل من دولار أميركي إلى الليرة اللبنانية بدون موافقته أو خلافاً لتعلمياته.” (إستئناف بيروت، الغرفة الأولى، رقم ١١٥٥، تاريخ 1995/12/5، القرارات الكبرى عدد٥٤ ص٨٠).
• في عقد الوكالة
واعتبر المصرف في علاقاته مع العملاء بمثابة الوكيل المحترف المأجور، وتترافق الوكالة مع مجمل الأوضاع القانونية الناشئة عن العمليات المصرفية ذات الطبيعة المركّبة والمتتابعة التنفيذ، حيث يقتضي معها على المصرف الالتزام بالاعتناء بمصالح المودع أو العميل، عناية الأب الصالح، وهذا ما حدا إلى “اعتبار المصرف مسؤولًا عن الضرر اللاحق بعميله من جرّاء تدهور قيمة العملة الوطنية الناتج عن تصرّفه المخالف للأصول المصرفية في هذا المجال، علماً بأنّه وبصفته الوكيل المعتمد، الموكولة إليه مهمّة الحفاظ على مصالح موكّله وحمايتها قدر الإمكان وضمن إطار السلطات الواسعة التي يتمتّع بها لدرء المخاطر الاقتصادية عن عميله ولا سيّما لناحية تقلّبات العملة” (إستئناف بيروت، الغرفة الأولى، رقم ٣٢٥، تاريخ 2002/2/7، العدل ٢٠٠٢، عدد٢و٣ ص٣٤٩).
ب- العدالة القضائية: بين جوهر النصّ وجرأة القاضي
برزت إشكالية خطيرة منذ بدء الأزمة الحالية، تتطلّب منّا محاولات جدّية للتصدّي لها ومنعها من ضرب آخر ما تبقّى في لبنان من معالم دولة القانون والمؤسّسات. إذ، لا يعقل أن نتغاضى عن الأضرار المباشرة والأكيدة والمحقّة التي لحقت بالمودعين تحت ذريعة حماية مصالح المصارف وجمعيتها من أضرارٍ محتملة غير مشروعة وغير ثابتة، وهي التي استفادت من مزايا قانون النقد والتسليف وحقّقت أرباحاً خيالية لسنواتٍ وسنوات. وكما ارتضت بطبيعة ومزايا هذا الإحتكار، عليها أن تقبل بمخاطر الموجب الملقى عليها لأنّها بموقع الممتهن والمحترف، وعليها تحمّل نتائج أزمة السيولة الناشئة أصلاً عن أخطائها المهنية.
وللتذكير، القضاء اللبناني أكّد مراراً وبوضوحٍ تام، بأنّ مصلحة جمعية المصارف هي فقط مصلحة احتمالية، في كلّ مرّة، تتقدّم هذه الأخيرة باسمها أو بواسطة الشركات المصرفية، بطلب، إعفاء البنك من واجباته القانونية والعقدية تحت ذريعة وجود قوّة قاهرة، نادراً جدّاً ما تحقّقت شروطها أمام المحاكم اللبنانية في الدعاوى المصرفية، “إنّ الطعن المقدّم من جمعية المصارف يتناول طبيعة الموجب الملقى على عاتق المصرف عبر الادعاء بتوفّر شروط القوّة القاهرة، وهي تهدف من خلاله إلى الحؤول دون صدور اجتهاد عن المحاكم في غير مصلحتها وهي مصلحة احتمالية فقط، لذلك يردّ طلب جمعية مصارف لبنان.” (إستئناف بيروت، رقم ٥٧٨، تاريخ 1996/6/4، ن.ق ١٩٩٦ عدد ٨١ ص ٨٤٦).
وفي سياق متتابع وثابت، يسلك قضاء العجلة اليوم خطّاً حازماً في مواجهة الأزمة المصرفية، الناشئة من رحم أطماع المصرفيين وجموحهم في لعبة المال والأعمال، وما رفض الأخذ بتحقّق القوّة القاهرة في الظروف الحالية، إلّا من قبيل التكامل، مع:
• المقاربة الدولية الرافضة لتقويض نتائج أيّ أزمة إقتصادية بنظرية القوّة القاهرة، وذلك وفقاً للشروط النموذجية لغرفة التجارة الدولية في باريس لسنة ٢٠٠٣ والتي تعتبر، القوّة القاهرة حالة تعفي من المسؤولية إذا توافرت فيها صفات؛ الحدث الخارجي الذي لا يمكن توقّعه ولا يمكن دفعه.
• ما انتهجه الاجتهاد اللبناني مبدأ عاماً، مستقرّاً على التشدّد في تطبيق شروط القوّة القاهرة، حالة غير منسجمة مع الخصائص التي تحكم أسس ومقتضيات العالم المصرفي، ورَفضَ الأخذ بذريعة القوّة القاهرة لإعفاء المصارف من مسؤوليتها أو التنصّل عن أداء موجباتها المهنية، حتّى، في أحلك الظروف الأمنية خلال الحرب اللبنانية، لأنّ المصرفي عليه موجب العناية كوكيل مأجور، كممتهن، وكقطاعٍ يعيش في عمق المخاطر لتصبح جزءاً لا يتجزأ من طبيعته. (إستئناف بيروت، الغرفة الأولى، رقم ٦٢، تاريخ 1988/3/15، العدل ١٩٨٨، عدد١، ص٢٨) (استئناف بيروت، الغرفة الرابعة، رقم٤٢، تاريخ 1992/1/30، العدل ١٩٩٢، ص١٧)
وبالرغم من ذلك، ما زلنا نشهد محاولات حثيثة وملموسة لإبعاد القضاء وترهيب المودعين معنوياً وقذف كرة الأزمة عليهم، بأسبابها وبنتائجها، بالإضافة إلى التسويق الإعلامي المبرمج لمقولة، أنّ القطاع المصرفي تحكمه حصراً النظريات الاقتصادية الغوغائية والحلول التنظيرية المتناقضة، وصولاً إلى تكريس المصارف، فئة متفوّقة على القانون والمؤسّسات، سلطةً وارتقاءً وكياناً. وفي المقابل نسأل أنصار هذا التوجّه: هل ترضى المصارف بتطبيق قاعدة المعاملة بالمثل وتمتنع عن مقاضاة العملاء المدينين عن تخلّفهم عن الدفع؟
كلّ انقلاب إقتصادي ومصرفي يجب أن يوازيه ثورة قانونية وقضائية.
ثانياًـ الحماية المدنية للعملاء: عودٌ على بدء
آن الأوان لتتحمّل الشركات المصرفية، كأيّ شركة لبنانية تجارية مساهمة، مسؤولياتها تجاه دائنيها، عملاء ومودعين، نتيجة ما آلت إليه الأوضاع، بعد أن استفادت على مدى عقودٍ من حصرية الأرباح في المهنة المصرفية وحقّقت ثروات طائلة دون قيدٍ أو شرط، وعليها، كما تنعّمت بخصائص عقود الإذعان وانتهجت سياسة الإستقواء تحت ستار القانون، أن تلتزم بالمقابل، أحكامه التي فرضت مبدأ درء المخاطر وعزل مضاربات البنوك، عن كاهل المودعين.
اليوم وأكثر من أيّ وقت مضى، نحن أحوج ما يكون إلى تغليب لغة القانون دون مواربة ومحاباة.
أ- العمليات المصرفية: تقنية عقدية ذات طبيعة ائتمانية.
قانوناً، تتحمّل المصارف في علاقاتها مع المودعين مسؤولية “عقدية أو شبه جرمية، إستناداً إلى القواعد العامة في قانون الموجبات والعقود سواء، كانت جزئية أو كلّية أو كاملة، وهي عادة ما تكون مسؤولية عقدية في العلاقة بينه وبين زبائنه على اعتبار أنّ المصرف تقاعس عن تنفيذ موجباته العقدية تجاه العميل المصرفي.” (منفرد مدني، بيروت، رقم ١٣٠ تاريخ 2008/4/2 ، العدل ٢٠٠٨ عدد٤ ص ١٧٧٠)
والموجبات العقدية الملقاة على عاتق البنوك نوعان، النوع الأوّل هو الالتزامات الخاصة والمرتبطة مباشرة بتنفيذ العملية المصرفية كما اتفق عليها بينها وبين عميلها، أمّا النوع الثاني فهو الموجبات المهنية المفروضة عليها في إطار تنظيم المهنة المصرفية ودورها كحافظة نقدية وائتمانية.
“حيث إنّ التصدّي لمسؤولية المصرف يجب أن ينطلق من المعايير والضوابط العامة التي تبقى واجباً دائماً وأساسياً عليه الالتزام بها، والاحتياط لها بما يتوفّر لديه من الوسائل بغية العمل على إحباط العمليات والاستراتيجيات الرامية إلى التلاعب بحسابات وودائع الزبائن، باعتبار أنّ المصرف يكون مؤتمناً على أموال عميله التي لا يجوز أن تبدّد من غير إرادة هذا الأخير.”(إستئناف بيروت، رقم ٧٠٩، تاريخ 2002/4/2، العدل ٢٠٠٢ عدد ٢و٣ ص ٣٥٧)
إذاً، المسؤولية المصرفية العقدية تنعقد في حالتين:
• عندما تشكّل تصرّفات المصرف إخلالاً عقدياً بأحد الالتزامات الملقاة على عاتقه لتنفيذ المهمة الموكلة إليه.
• في كلّ مرّة تشكّل تصرّفات المصرف إخلالاً بموجب السلامة الائتمانية تجاه أموال زبائنه.
ب- القضاء المستعجل في القضايا المصرفية، بصمة أبعد من التدابير الاحتياطية
ذهب قاضي الأمور المستعجلة في مقاربته للمسائل المصرفية إلى عمق المفهوم التي تقوم عليه؛ إذعان الزبون لنهج المصارف منذ لحظة إبرام العقد، وما يتضمّنه من بنود تغلّب مصلحتهم وعدم جواز مناقشة وتعديل شروطه، وما يسبقها من ترويجات إعلانية وتسويقية غالباً ما تكون مغايرة للحقيقة والواقع. وكون العمل المصرفي هو في أصله عملاً تجارياً تحكمه الثقة من جهة والسرعة من جهة أخرى، كان من اللازم أن يستقيم ضمن بيئة قانونية خاصة قوننةً واجتهاداً. من هنا، أدرك القضاء المستعجل أهمية دوره ليس فقط في اتخاذ التدابير الاحتياطية لدرء التعدّيات الملحة، بل إعطاء هذه التدابير بُعْداً خاصاً في عقود الإذعان المصرفية، لتعزيز ثقة المتعاملين مع القطاع المصرفي، عملاء ومودعين وحتّى مستثمرين.
ترك قضاء العجلة بصمةً مميّزة، وحملت أدراج المحاكم اللبنانية قرارات لا تخلو من جرأة قانونية، نستعيد القليل من هذه المحطّات الاجتهادية لنشير إلى أنّ نهج القضاء الناظر في القضايا المستعجلة يصبو أبداً لصالح المودعين وحقوقهم، مهما بدت لنا سخيفة أحياناً.
أقرّ قضاء اليقين بأهمية أيّ حقّ للمودع دفعاً باتجاه خلق توازن مفقود في العقود المصرفية، وعمد إلى إزالة التعدّيات الناشئة غالباً، بسبب امتناع المصرف عن إيلاء العميل حقّه في إدارة حساباته بكلّ حرّية، أو حقّه بالإطلاع على العمليات الجارية بكافة مراحلها، “حيث اعتبر أنّ امتناع المصرف عن إعطاء عميله كشفاً لحسابه دون سبب مشروع، من شأنه أن يؤول دون ممارسة العميل حقّه بالإطلاع على حركة حساباته”(قاضي الأمور المستعجلة في المتن في قرار صادر تاريخ2004/6/7 العدل٢٠٠٤، عدد٣و٤ ص٥١١).
وفي هذا السياق، كان من باب أولى طبعاً أن لا يتردّد في “إلزام المصرف تحرير الحساب العائد إلى المودع، مؤكّداً بأنّ منع المصرف عميله من سحب رصيد الحساب دون سبب مشروع أو مسوّغ قانوني يشكّل تعدّياً واضحاً على حقّ العميل في ممارسة حقّ الملكية على الأموال المودعة باسمه” (قاضي الأمور المستعجلة في طرابلس، رقم ٤٨، 1988/4/21) (قاضي الأمور المستعجلة في بيروت، رقم٦٢٢، تاريخ 2006/12/11 العدل ص٨٦٩).
بعد اندلاع الأزمة المصرفية الحالية وسقوط المنظومة المصرفية في الحفاظ على ثقة الجمهور نتيجة اختلال قدرتها الائتمانية من جهة وعجزها عن تأدية وظائفها الاقتصادية والمالية من جهة أخرى، بات لا مندوحة، من تفعيل البيئة القانونية النافذة لمواجهة تحدّيات وتداعيات هذه الأزمة من خلال تحفيز القضاء وحثّه على احترامها:
• لطمأنة المودعين في المصارف اللبنانية على أموالهم.
• لتدارك الخلل الوظيفي النقدي والتمويلي للمصارف مع ما يترتّب عليه من ارتدادات على الحركة الاقتصادية بكافة أبعادها.
• لمساعدة عملاء المصارف على أداء التزاماتهم وتعهّداتهم المالية، خاصة الدولية منها نظرآً لأهمّية المحافظة على سمعتهم التجارية الخارجية.
• للحؤول دون فقدان الثقة بالمنظومة التشريعية المصرفية كعامل استقرارٍ قادرٍ، على تشجيع وجذب المستثمرين الأجانب للنهوض قدماً، نحو تنمية مستدامة قادرة على إنقاذ البلد من عمق الإنهيار الحاصل.
نعم… المصارف في حالة موت دماغي ومحاولات الإنعاش الإصطناعي غائبة، والمواطن في انتظار لحظة الحقيقة.
*أستاذة محاضرة ورئيسة قسم القانون الخاص في كلّية الحقوق – الجامعة اللبنانية.
(نشر هذا المقال في النسخة الورقية من مجلّة “محكمة” – العدد 50 – شباط 2020)
“محكمة” – الجمعة في 2020/2/7
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.