خاص “محكمة”: أجبرت على توقيع إفادتي.. ودخلتُ السجن كمن يدخل القبر بكامل وعيه من أجل فلسطين/جنى أبو دياب
بقلم جنى أبو دياب:
أن تكتب عن فترة اعتقالك كأن تكتب عن عودتك من الموت، أو من غيبوبة دامت طويلاً..
كلّ شيء من حولي تبدّل، وقد احتاج إلى وقت طويل للتأقلم من جديد مع المحيط وتكوين علاقات مع الناس، كذلك مع الأشياء والأماكن.
المعتقل والأسير والسجين هم أمواتٌ مع وقف التنفيذ!.
كان التحدّي الأوّل لديّ ألاّ ادعهم يقتلون عقلي وفكري. صحيحٌ أنّ عملية الاغتيال المعنوية المتعمّدة والممتدة لسنوات خلت وصولاً إلى وقاحة تركيب ملفٍّ أمني يتهمّني بأقذر ثوب قد يرتديه الإنسان؛ أيّ العمالة والتخابر مع دروز فلسطين؛ هدفها تجميد حركتي إن لم يكن قتلها، فكان قراري بالانتصار عليهم داخل السجن وخارجه.
حرّيتي رخيصة من أجل فلسطين
وكان التحدّي الأكبر هو الحفاظ على سلامة عائلتي وأخواتي، فتحاملت على وحدتي وطلبت منهم التحلّي بالصبر وعدم الإقدام على زيارتي تحت أيّ ظرف كان، ومهما طالت مدّة اعتقالي.
لقد رددت أمام المحكمة خلال الجلستين قناعتي والتزامي بأنّ حرّيتي رخيصة من أجل فلسطين ودمي أرخص، وجزء من النضال من أجل أسمى وأقدس القضايا الانسانية أن نعي بأنّ رصاصات الغدر أقرب إلينا من الوريد، وأنّ القتل المعنوي والتشهير وارد بأيّة لحظة على هيئة ملفّ أمني محكم، يُرسم في دولة ما، ويُسلّم في دولة ثالثة .. والتتمّة أحتفظ بها الى أن يحين الوقت المناسب.
دخلت سجن بربر خازن كمن يدخل القبر بكامل وعيه.. هذا المكان كان بالنسبة لي أفضل من زنزانة العزل وكرسي التحقيق الذي استمرّ ثمانية أيّام.. منذ اللحظة الأولى بدأت أدوّن تفاصيل الدقائق ما قبل المداهمة وصولاً إلى التحقيق فالمحكمة العسكرية.
نظرة سريعة على الغرفة كانت كافية: مستوى عالٍ من النظافة، تدفئة، سرير ووجوه تخفّف عنك.
بطبيعة الحال كانت الأيّام تمضي ببطء شديد، ومن المسلّمات القول إنّ هذه التجربة تحوّلت إلى ندبة لا يشفيها الزمن ولا الاعتذار. كانت البداية صعبة ما بين تواصلٍ مع السجينات وأسئلة متدفّقة من كلّ حدب وصوب.
أجبرت على توقيع إفادتي
إنّ أصعب اللحظات منذ ليل 20 تشرين الثاني 2017 حتّى السادس من حزيران 2018 رافقت رنين الهاتف المتواصل ما بين انتظار جلسة أو إخلاء سبيل ثمّ الحكم. وكلّما فُتحَ الباب لإدخال سجينة جديدة ينتابني الرعب، كنت أعي أنّ المؤامرة حيكت بمستوى عالٍ من الحرفية، والرعب أن تكون أيّة سجينة جديدة من أفراد عائلتي لزيادة الضغط، كأنّه لم يكفهم إجباري على توقيع إفادة لم أقرأها ولم أكتشف ما كتب فيها إلاّ من خلال أسئلة القاضي العميد الركن حسين عبدالله خلال جلستي المحاكمة.
في السجن – الاعتقال، كان قراري ألاّ أنكسر مهما طال الوقت. ومع صعوبة الوضع قرّرت أن أصنع لي حياة مشابهة إلى حدّ ما حياتي اليومية، بدأت باعتباري أنّني في مخيّم حيث شاركت في ورشات عملٍ أسبوعية لجمعية أهلية اتخذت من السجن مقرّاً لها. هناك وجدت ما يكملني، مكتبة متواضعة إنّما غنية بالكتب والعناوين، وحين عرضوا عليّ ترتيب الكتب كان أوّل منفذ لي في هذا القبر البارد. إستمتعت بكلّ لحظة أمضيتها في تنظيم الكتب والأرشفة وأنهيت مطالعة آخر كتاب منها قبل أسابيع من الحرّية.
ترافق وصولي مع تحضير رفيقاتي في الزنزانة لعيدي الميلاد ورأس السنة، إعتمدوا عليّ لتجهيز عشرات بطاقات المعايدة ما بين رسم وكتابة. في هذه الأثناء كنا بدأنا التقارب وبطلب منهم بدأت تدريس الصفّ الليلي من اللغة الانكليزية. ما إن تُقفل الأبواب في الرابعة عصراً حتّى نبدأ الدراسة، قسم للمبتدئين وآخر لمرحلة متقدّمة، واستمرينا بشكل متقطّع حتّى ليل الخامس من حزيران 2018، أنهينا خلالها أربع مستويات وكانت الاستراحة الوحيدة المتاحة لهم خلال أوقات الصلاة والأخبار. أمّا الإجازات فكانت خلال أيّام الصيام. وهذا كان وقتي المخصّص للكتابة والمطالعة، إضافة إلى حين انشغالهم بالفروض والتطبيق.. ومع ذلك لم يكن الوقت يمرّ .
السجن مكان للعقاب
قد يكون أكثر ما استمتعت به هو مساعدة السجينات في اللغة الفرنسية واختيار الكتب ودروس محو الأمية؛ إذ إنّ اللغة العربية عشقي، وما حال دون دراستي للآداب أو الفنون والتاريخ، هو التزامي تجاه فلسطين، فتوجّهت لدراسة الحقوق أملاً في إحداث فرق للمخيّمات واللاجئين.
كان عليّ قبل كلّ جلسة أن أعيد قراءة مذكّراتي التي صغتها على شكل رسالة طويلة لأحدهم.. فأنا كنت على معرفة مسبقة بوجود ملفّ ما قبل الاعتقال بأسبوع، وفي الأيّام الأولى من التحقيق إكتملت الصورة واتضحت الأسماء ولم يكن بإمكاني إلاّ انتظار وصولي إلى قوس المحكمة لنيل البراءة والعودة إلى شعبي وأهلي غير منهزمة ولا منكسرة.
أسوأ المشاعر التي ترافق الاعتقال هو الشعور بالعجز. عجزي عن تقديم يد المساعدة لمن حولي، العجز عن رفع الظلم.. وأكثر ما آلمني هو السجينات بقضايا لدى المحكمة العسكرية وأغلبهم من التابعيات العربية عاجزات عن توكيل محامٍ وتأمين التكاليف المالية وانتظار جلسات لا تأتي وأخرى تؤجّل لأشهر أقلّها سنة!.
حجم الظلم داخل السجون هائل رغم وجود الكثير من الرعاية وتوافد الجمعيات الأهلية والدينية، إلاّ أنّ السجن في لبنان يبقى مكاناً للعقاب، لا للتأهيل.
أشارك السجينات عدّ الأيّام
كلّ شيء في الحياة مقدّرٌ لنا، لا ينتصر فيها إلاّ الأقوياء في نفوسهم كما قال شهيدنا الكبير المعلّم كمال جنبلاط. مع كلّ خطوة في النزهة (الباحة الخارجية للقاءات والرياضة وغيرها) كنت أتساءل كيف أمضيت أكثر من 10 سنوات أسكن في مكان يبعد أمتاراً عن السجن، وكيف أتنقّل يومياً في شارع فردان الرئيسي دون التفكير بالحياة داخل جدران السجن. إعتقدت لسنوات أنّني أعيش مع أكثر فئات المجتمع تهميشاً أيّ اللاجئين؛ لأكتشف أنّ داخل السجن عالم منسيٌ ومعزول، وأنّه هنا، مجتمع قائم من كلّ الفئات والجنسيات واللغات والثقافات .. الظالمة والمظلومة .. القوية والضعيفة.. كلّ سجينة بحدّ ذاتها قصّة وأكثر؛ فأشاركهنّ انتظار رسائل الأهل والأبناء، المواجهات والتحضير للجلسات.. أشاركهنّ عدّ الأيّام وانتظار الحكم وعفوٍ عامٍ لم يأت بعد.
في مكان يموت فيك جزء كلّ يوم، تجد البساطة في التعامل، القليل من الحذر، والكثير من الدعم والتعاون والمساندة.
في مكان يموت فيك جزء كلّ يوم، تجد البساطة في التعامل، القليل من الحذر والكثير من الدعم والتعاون والمساندة، كحين أعاد الأمن العام التحقيق معي بعد أربعة اشهر بتاريخ 13/3/2018، يومها رفضت الذهاب دون جدوى لإدراكي أنّها محاولة ترهيب جديدة أو احتجاز لمنعي من المثول أمام المحكمة، وحين عدت ليلاً كان عليّ أن أتوقّف أمام كلّ زنزانة لأطمئن الرفيقات أنّني عدت بخير ولم أتعرّض لأيّة مضايقة مثل التحقيق الأوّل، كانت دموعهم وصلواتهم الدافع لوصولي إلى المحكمة صلبة وقويّةً.
“شو بتطلبي من المحكمة؟”.. هكذا سألوني..
فكّروا فينا، تخايلوا أولادكم، نحن نعيش في قبر ونشتاق للشمس والهواء والمطر .. هذا ما قلته في المحكمة العسكرية ..
اليوم أنا حرّة بين شعبي وأهلي وخلفي تركت الكثير من الظلم والمعاناة والانتظار.. انتظار جلسات لا تأتي وعدالة قد لا تتحقّق.
(نشر في النسخة الورقية من مجلّة “محكمة” – العدد 31 – تموز 2018 – السنة الثالثة)