خاص محكمة: أخطر محاكمة إنتقامية في التاريخ وإنزال أفظع عقوبة بالفيلسوف العاشق والزوج الوفي Pierre Abélard/منيف حمدان
المحامي د. منيف حمدان:
المقدمة: بطل المقال Pierre Abélard
ولد بطل مقالتنا بيار أبيلار Pierre Abélard، في مدينة Pallet، قرب Nantes في فرنسا عام 1079، وتوفّي بتاريخ 21 نيسان 1142، في ديرSaint-Marcel-lès- Chalon في Bourgogne. وكان مقدراً لهذا المولود البِكْر المميّز، أن يدخل مثل والده Béranger، ومثل أشقائه الثلاثة، Parchaire, Raoul و Dagobert مجد الفروسية في الجندية، لكنّ هيامه بحبّ المعرفة، حمله على مخالفة تقاليد العائلة، فصرف النظر عن الفروسية العسكرية، رغم إتقانه فنونها، ويمّم وجهه شطر التعليم الديني والفلسفي، وشطر التعليم الأدبي بنوعيه: الشعري والنثري.
وعندما أطلّ علينا الحادي والعشرون من تموز 2018، كان قد مضى على وفاة هذا الفيلسوف العاشق، الذي طارت شهرته في الخافقين، 976 عاماً وثلاثة أشهر. ونظراً لأهمية هذا الحدث، عقدت رابطة الخمائر الإنسانية ندوة ثقافية، في منزل أحد أركانها، باقر صدر الظلم، المحامي الأستاذ شربل بو رعد، في بلدة بقاق الدين، المطلّة على نهر إبراهيم، ودعت إليها نخبة من الأدباء والشعراء والمفكّرين والرسّامين والمؤرّخين وعشّاق المواقف الكبرى في شتّى المجالات، ليستمعوا تباعاً إلى نخبة من المفكّرين في الرابطة:
أوّلاً: إمام المجلسين المحامي مطانيوس عيد يسلّط الضوء على “ديفورة” النبوغ في مسيرة فيلسوفنا العاشق Pierre Abélard
صعد إمام المجلسين إلى المنبر، فوضع قبّعته المميّزة أمامه، وتلفّت يميناً وشمالاً، ثمّ مسّد لحيته وقال: منذ دخوله إلى المدرسة طفلاً، لمع نجم Pierre Abélard، فأثار تفوّقه على أقرانه في كلّ مجال، عواصف من الغيرة لا تهدأ، وعواصف شتّى من الكره والأحقاد ضدّه، فلم يقم أيّ وزن لذلك، إنّما استمرّ في مسيرة التفوّق، من نصر إلى نصر، ومن نجاح باهر إلى نجاح باهر. ولمّا بلغ أشدّه، بدت عليه علامات الإعجاب بنفسه، حتّى أنّه اعتبر نفسه متفوّقاً على أستاذه العلاّمة Roscelin، الذي تعلّم المنطق على يديه، ومتفوّقاً على العلاّمة Anselme de Laon، الذي علّمه اللاهوت.
إنّ من يقرأ سيرة هذا الفيلسوف العظيم، في كتابه: Histoire de mes maleurs، يدرك سريعاً، أنّ هذا الرجل الإستثنائي، أمضى حياته مناضلاً يتحدّى الصعوبات، ليثبت لكلّ الناس، أنّه ولد ليكون أعظم مفكّر روحي، وأعظم وأصدق وأوفى عاشق في الوجود، بعد أن فاز بقلب وعقل وجسد تلميذته النابغة مثله Héloïse، البالغة من العمر 22 عاماً، والمثقّفة جدّاً والمتقنة مثله عدّة لغات منها: اللاتينية، واليونانية.
ثانياً: حكيم الرابطة الرئيس مراد العازوري يشرح لنا كيف تعرّف فيلسوفنا العاشق Pierre Abélard إلى معبودة قلبه Héloïse
بعد إمام المجلسين، وانتهاء عاصفة التصفيق لكلمته، صعد حكيم الرابطة الرئيس مراد العازوري إلى المنبر فقال، موزّعاً كلامه على نقطتين:
1- أخبار بيار أبيلار على مشارف اللقاء العاصف وإطلاق لقب الفيلسوف الأوحد في العالم عليه
بسرعة البرق، إنتشرت أخبار هذا الرائد الثائر المقدام، والمغرور في ذات الوقت، فأدخله حسّاده، وأدخل نفسه في معارك طاحنة، على مختلف المستويات. إنّ من يتابع أخباره عن كثب، يدرك أنّ هذا الرجل الخارق في جماله، والخارق في شجاعته الأدبية، وفي أخذ المبادرات في كلّ مجال، قد تحوّل بسرعة مذهلة إلى أسطورة مذهلة، لا تقلّ سحراً وتأثيراً عن أساطير وادي النيل، أو أساطير ما بين النهرين شرقاً، أو أساطير اليونان والرومان غرباً، أو أيّة أسطورة من أساطير لبنان الفينيقي حتّى أنّ بعضهم شبّه أسطورة غرامه بالطالبة المتفوّقة Héloïse، بأسطورة أدونيس وعشتروت، أو أسطورة أوروبا وزفس.
وأضيفت إلى أخباره الحقيقية أخبار مضخّمة، فتعلّق به طلاّبه وطالباته، وتقاطر كبار القوم، إلى الفوز بنعمة الحضور إلى أحد الأندية، للإستماع إليه ملقياً محاضراته، أو قائماً بمناظرة من مناظراته، من الفلسفة إلى الأدب، ومن حرّية الإنسان إلى الإلتزام اللاهوتي، ومن الحبّ العاصف إلى الترفّع عن الصغائر في السلوك الإنساني.
إنّ مسيرة Pierre Abélard الناجحة جدّاً أوصلته، إلى أن يطلق عليه لقب “الفيلسوف الأوحد في العالم، (Le Seul Philosophe au monde)، ومكّنه ذلك، في العام 1113، من أن يكون أستاذاً في مدرسة Nôtre Dame، الذائعة الصيت في العاصمة الفرنسية باريس.
2- اللقاء العاصف بين Pierre Abélard و Héloïse
وشاء القدر، أن يتعرّف Pierre Abélard، وهو في أعلى قمّة من قمم المجد الفكري، على مستوى العالم القديم، إلى تلميذة من تلميذات المدرسة التي أصبح أستاذاً فيها، فأشعل اللقاء، من النظرة الأولى، غراماً عاصفاً جدّاً، بينه وبين التلميذة Héloïse، إلى درجة حملت العائلات الباريسية المختلفة، على التحدّث عن هذا الغرام في صالوناتها ومسارحها، وأندية التلاقي فيها، كما كان يتحدّث العرب في لقاءاتهم، وليالي سمرهم، عن غرام أئمة الحبّ عندهم مثل حبّ عنترة وعبلا، أو حبّ جميل وبثينة، أو كما أصبح اللبنانيون، في القرن العشرين، يتحدّثون عن حب الشاعر الياس أبو شبكة ومعبودته غلواء.
وممّا زاد الحماسة، في تسقّط أخبار هذين العاشقين، هو إقدام عمّ التلميذة Héloïse، الكاهن العبقري المميّز في مدرسة Nôtre-Dame، على تكليف الأستاذ والفيلسوف Pierre Abélard ، بإعطاء ابنة شقيقه، التلميذة Héloïse، دروساً خصوصية في البيت، حتّى تتمكّن من ترسيخ ثقافتها في المنطق، من مقدّماته إلى النتائج، على طريقة الفيلسوف اليوناني أريسطو.
ثالثاً: باقر صدر الظلم الأستاذ شربل بو رعد يحدّثنا عن سطوة الحبّ واجتياز الحواجز
بعد أن ترك حكيم الرابطة منبره، وسط عاصفة من التصفيق، أعطى الكلام إلى باقر صدر الظلم الأستاذ شربل بو رعد، ليحدّثنا عن سطوة الحبّ واجتياز الحواجز، فقال: في ذروة السعادة التي بلغها كلّ من Pierre Abélard و Héloïse، لحظة اللقاء وجهاً لوجه وحيدين، وسوس الغرام المتفجّر، في فكر المعلّم وقلبه ومقلتيه، فتوقّف عن التفكير، وتوقّف عن الشرح، وتصوّر أنه مدّ يده ببطء إلى شعر تلميذته، وراح يلاعبه برفق، كما تلاعب نسمة الصباح وردة تتفتّح، في شهر نوّار في لبنان. وتصوّر أنّها أغمضت عينيها دلالة على القبول.
وبعد هذه التصوّرات، تهيّب الموقف، وراح يتلوى فوق نار مشتعلة، طيلة ثلاثين يوماً في دقائقها والثواني حتّى عيل صبره. وفي اليوم الذي تلا ذلك الشهر الطويل، تكرّر ما تصوّره، وتصوّر مجدّداً أنّه مدّ أنامل يمناه إلى شفتي تلميذته، وراح يداعبهما بنعومة أولّاً، ومن ثمّ تمادى في المداعبة، إلى أن أُعلن الإستنفار العام عنده وعندها، فنضت عنها قميصها، وبان النهدان مهرين أصيلين جامحين، كأنّهما يبحثان عن فارس مجرّب مغوار، وقادر على ترويضهما وتدريبهما، فتذكّر أنّه كان الأوّل دائماً في دروس الفروسية، مثل أبيه، فتمّ الفرك والدعك، وتوالت الآهات منه ومنها، حتّى حمي الوطيس تماماً في المعركة، ولم يعد أيّ منهما قادراً، على التوقّف عند حدود معيّنة، فتعانقا أوّلاً، وانبطحا على الأرض ثانياً، وتمّ الزرع دون أن تسيل أيّة دماء.
رابعاً: قيدوم الرابطة يحدّثنا عن الزلزال الذي حصل عند انتشار الفضيحة
بعد باقر صدر الظلم، صعد قيدوم الرابطة إلى المنبر، وقال: في اليوم التالي للمعركة المشهودة، أخبرت Héloïse إحدى رفيقاتها، المقرّبات منها في المدرسة، بما جرى معها في اليوم السابق، وبالسعادة التي بلغت ذروتها، وتمنّت عليها أن تبقي الخبر في دائرة السّر المطلق، فوعدتها خيراً شرط أن تعيد على مسامعها كلّ ما حصل، وما سوف يحصل في الآتي من الأيّام، بينها وبين الأستاذ، بأدقّ التفاصيل ففعلت، وتكرّر الحديث والوصف أكثر من مرّة في اليوم الواحد، وكلّما سنحت الظروف.
ولأن Héloïse، البالغة من العمر 22عاماً، عاشت بدون أمّ، وبدون جدّة، بقيت دون خبرة، فلم تقم وزناً لانقطاع عادتها الشهرية، إلى أن بدأ بطنها بالإنتفاخ في الشهر الخامس، بعد إتمام الزرع، ففاتحت صديقتها بالموضوع، وطلبت إليها أن تسأل أمّها عن دلالة ذلك، وإبقاء السؤال والجواب طيّ الكتمان المطلق.
تفاجأت أمّ صديقة Héloïse بسؤال ابنتها، وخافت أن تكون هي المعنية بهذا الحدث الخطير، فأخضعتها للسؤال والجواب، وألحّت عليها لتخبرها الحقيقة، وإلاّ أعلمت والدها بالأمر، فأخبرتها مع الرجاء بإبقاء ما أعلمتها به طيّ الكتمان، فوعدتها دون أن تفي بوعدها.
وبعد يومين على حديث الابنة مع والدتها، إنتشر الخبر إنتشار النار في الهشيم، حتّى وصل إلى عمّ التلميذة المعنية Héloïse فجنّ جنونه وقرّر أن يتصرّف بسرعة لتدارك الكارثة قبل الولادة، فاستدعى الأستاذ والتلميذة إلى مكتبه وقام بتأنيبهما، وطلب إليهما إجراء عقد زواج بينهما، لإخماد الفضيحة في مهدها فوافقا.
لكنّ حبّ Héloïse لأستاذها Abélard، غير المسبوق في التاريخ، زرع التطيّر لديها، فخافت أن يؤثّر الزواج على مستقبل حبيبها الأكاديمي، فطلبت إليه إجراء عقد زواج سرّي بينهما، ليكون المولود شرعياً، فوافق بسرعة مذهلة، لأنّه أصبح غير قادر على رفض أيّ طلب تطلبه معبودته، حتّى لو كان هذا الطلب يرمي إلى زرع الورود فوق سطح القمر.
وعندما ولد الطفل، أطلقت عليه إسم Astrolabe، وسلّمته إلى عائلة زوجها وحبيبها وعشيقها، ودخلت مترهّبة إلى أحد الأديرة البعيدة عن مدرستها.
خامساً: طيف كسرى العدل الرئيس عادل خوري يحدّثنا عن ردّة فعل العمّ Fulbert، ضدّ الأستاذ الذي أسقاه كأساً مرّاً قاتلاً
بعد قيدوم الرابطة، صعد المنبر طيف كسرى العدل فيها الرئيس عادل خوري، فقال: عندما بلغت أخبار ولادة الطفل، أسماع العمFulbert ، النافذ جدّاً، أدرك أنّ العاشقين إستخفّا بهالته، واستخفّا بمركزه، واستخفّا بنفوذه، وبالعرض الذي عرضه عليهما، فقرر أن ينتقم بأبشع ما يكون الإنتقام. ولهذا إستدعى شابين من “شبيحته” من الذين يبيعون أخلاقهم ودينهم بقشرة بصل، وطلب إليهما، أن يتزوّدا بسكاكين قاطعة، لأنّه قرّر تكليفهما باقتلاع “الأذن التناسلية” لرجل إرتكب بحقّه إثماً كبيراً، سوف يدلّهما عليه، وأجزل لهما العطاء. فقالا: “لبّيك يا معلّم لبّيك… ألف خدمة مثل هذه الخدمة المأجورة”.
وبعد عشرة أيّام، على حبك هذه المؤامرة الجهنمية، إستدعى مدير المدرسة “شبيحته”، ووضعهم في غرفة مجاورة لمكتبه، كما استدعى الأستاذ Abélard وسأله عن الدير، الذي لجأت إليه Héloïse، كما سأله عن مصير الطفل الذي ولدته، فاستغفر ربه، وأنكر معرفته بذلك، ليحمي زوجته وطفله، من غضب العم، الذي يتطاير الشرر من عينيه، وانتهى الإجتماع دون أيّة مشاكل ظاهرياً.
وفور خروج الأستاذ العاشق، من مكتب المدير الحاقد، لحق به المجرمان المأجوران فوضعا كيساً على رأسه وقاما بخطفه إلى أحد البيوت المهجورة، والبعيدة نسبياً عن المدرسة… فكتّفاه، وقيّدا يديه ورجليه، وقاما باستئصال “أذنه التناسلية”، وأبقيا على “اللوزتين”… وتركاه يتخبّط بدمائه، مقدّرين أنّه سوف يموت بفعل النزيف، خلال فترة قصيرة، ولن تقوم له بعد الإستئصال قيامه.
لكنّ حكمة القدر خيّبت فألهما، إذ تمكّن الأستاذ، بقدرة قادر، أن يتخلّص من قيوده، وأسرع إلى عيادة أحد الأطبّاء من أصحابه، حاملاً “أذنه التناسلية” المستأصلة بيسراه، ومتوكئاً على عصا وجدها في البيت المهجور بيمناه، فعالجه صديقه، وأوقف النزيف، فأنقذ حياته، دون أن يتمكّن من إعادة الحياة للأذن المستأصلة، فكان ذلك نذيراً للأستاذ برحلة عذاب لا تنتهي.
وبعد انتهاء الطبيب من عمله الجبّار، قال على مسامع صديقه بيار: أعتقد أنّ من قام بالإستئصال لحّام ماهر ومتمرّس، فساعدت هذه العبارة بتاريخ لاحق، رجال الأمن والقضاء، على معرفة هويّة الجناة بسرعة قياسية.
سادساً:الأمين العام لرابطة الخمائر يحدّثنا عن رحلة عذاب الفيلسوف
بعد طيف كسرى العدل، صعد الأمين العام للرابطة إلى المنبر، فقال: إنّ الحادث، الذي تعرّض له الفيلسوف العالم Pierre Abélard، حمله على اللجوء إلى دير Saint-Denis للرهبان، حيث بدأ حياة رهبانية، في منتهى التقشّف.
ولمّا استقرّ به المقام، في هذا الدير، إستأنف صديقنا مسيرته التعليمية في الدير ذاته، ولم يتورّع عن تأليف جماعة من التلاميذ تدين بالولاء لتعالميه، ونظرته الفلسفية للأمور، في مدينة Paraclet في منطقة شامباني(Champagne) ، قبل أن ينتخب رئيساً لهذا الدير. لكّن رئاسة الأخ Abélard للدير لم تطل كثيراً، إذ إنّ حظّه العاثر حمل رهبان الدير، غير الملمّين بعبقريته، على التآمر ضدّه، من أجل طرده من الدير، خوفاً من وقوع فضيحة جديدة، مع Héloïse جديدة، التي لم يكونوا على علم بها من قبل.
سابعاً: حامل أختام الرابطة يحدّثنا عن مفاجآت خفّفت من عذاب الفيلسوف
رغم تكالب المحن عليه، لم ييأس فيلسوفنا الكبير، بل استمرّ في مقاومة غدر الزمان… وقُدّر له بالإصرار وعدم الرضوخ للضغوط والمؤامرات، أن يستأنف مسيرة التعليم، في العام 1136، في منطقة جبل Sainte-Geneviève في باريس.
وشاء القدر، خلافاً للتوقّعات، أن يبتسم للفيلسوف المعلّم من جديد، فتمكّن من معاودة الإتصال بمعبودته Héloïse مرّة جديدة … وراحت تكرّ المفاجآت السعيدة أمام ناظريه. فالمفاجأة الأولى كانت، عندما علم أن معبودته Héloïse، ترقّت في سلك الرهبنة حتّى صارت رئيسة الدير الذي لجأت إليه. والمفاجأة الثانية كانت، عندما علم أنّ اتصاله بمعبودته، أيقظ في داخلها نار حبّها له، فراحت ترسل إليه الرسائل الغرامية المشتعلة.
لكنّ الشخص، الذي أحبّته، كما لم تحبّ إمرأة من قبل، لم يعد، كما عرفته، أعظم فرسان العشق على مرّ الزمان، بفعل المصيبة التي حلّت به على يد عمّها Fulbert وشبيحته، دون أن يجرؤ أحد على إعلامها، بما أقدم عليه عمّها من تآمر وتحضير لجريمة هي الأخطر عبر العصور، ولا تشبهها في الفظاعة إلاّ الجريمة التي أُنزلت بابن المقفع، العبقري العربي، من أصول فارسية، وصاحب كتاب “كليلة ودمنة” وكتاب ” رسالة الصحابة” الغنيين عن التعريف.
والمفاجأة الثالثة كانت، عندما أخبر العاشق الصادق والوفي، Pierre Abélard، معبودته Héloïse، عمّا حل به من إعاقة في رجولته، سوف ترافقه إلى آخر يوم من عمره… فكانت ردّة فعلها أن ازدادت حبّاً وهياماً به، لا يقلّ عن حبّها وهيامها به، يوم كان فارس الميدان دون منازع.
ثامناً: طيف الرئيس جوزيف غمرون يحدّثنا عن دور الغيرة والحسد في تأليب القدر ضدّ العاشقين Abélard و Héloïse
فور نزول حامل أختام الرابطة عن المنبر، ظهر طيف الرئيس جوزيف غمرون خلفه فرحّب بالجمهور المحتشد، وأثنى على من سبقه في المداخلات القيّمة، التي قدموها، ومن ثمّ قال:
إنّ المكابرة من قبل صديقينا العاشقين، في متابعة رسالة العشق الملتهبة، حرّضت المتزمتين في الدين ضدّهما. وكان على رأس هؤلاء المتزمتين، الراهب المتقشف Bernard de Clairvaux، فحملهم غضبهم على إخضاع الراهب Abélard للمحاكمة الكنسية مرّتين: مرّة في العام 1121، حيث اتهم في Concile de Soissons، بأنّه من جماعة سابيليوس الخارج من الكثلكة، ومرّة في العام 1140، حيث أُتهم بالزندقة في Concile de Sens.
1- إستدعاء الراهب Abélard إلى روما ووفاته قبل الوصول
إنّ الحملة المكثّفة، التي قادها الراهب Bernard de Clairvaux، أسفرت عن استدعاء الراهب Abélard إلى روما، ليدافع عن نفسه، في التهم المسندة إليه في المحاكمة الإستئنافية التي سوف يخضع لها، فأصيب خلال رحلته إلى روما، بحادث صحّي خطير في منطقة Cluny، حيث اهتم به الراهب الفاضل Pierre le vénérabe، وبقي في هذه الحال المرضية، محاطاً برعاية عظيمة من قبل سميه، حتّى لفظ أنفاسه في الحادي والعشرين من نيسان 1142.
2- Héloïse تقيم قبراً مميّزاً لزوجها وحبيبه:ا
وبطلب من زوجة Abélard ومعبودته Héloïse، أذن الراهب الفاضل Pierre Le Vénérabe، بنقل جثّة Abélard إلى Paraclet، حيث أقامت له قبراً مميّزاً، ليس في مقبرة الكنيسة، التابع لها زوجها وحبيبها، إنّما داخل كنيسة ملاصقة.
3- وفاة Héloïse ودفنها في ذات قبر زوجها بوصية منها
وبعد 22 سنة، على وفاة الفيلسوف العاشق Pierre Abélard، توفّيت توأمه في العشق الملتهب Héloïse، بتاريخ 16 نوّار 1164، ودُفنت، بناء على وصية تركتها، في ذات القبر الذي دفن فيه معبودها، في مدينة Paraclet . وبذلك يكون تاريخ الإنسانية، قد فتح لهذين الزوجين Abélard و Héloïse باباً واسعاً، ليكرّسا أعظم عاشقين، على الإطلاق في كلّ العصور. وازداد اهتمام الفلاسفة والعشّاق، بقصّة غرام Abélard و Héloïse، بشكل غير مسبوق، عندما تمّ نشر الرسائل الملتهبة، بين هذين العاشقين، في القرن الثامن عشر، أيّ بعد حوالي السبعماية سنة على تبادل هذه الرسائل.
إنّ صدق وبلاغة هذه الرسائل حملا الأديب Jean de Meun على القول، في كتابه، Roman de la Rose:
“Amant Blessé, Abélard devient, aux yeux des romantiques du XIXe Siècle, l’un des premiers esprits libres”
4- نقل القبر المشترك من Paraclet إلى باريس
أمّا عظمة هذين الزوجين العاشقين، فقد حملت عالم الآثار الشهير، Aléxandre Le Noir على أخذ الإذن من المراجع المختصة، بنقل الذخائر من قبرهما في Paraclet إلى قبر فخم أقامه لهما في منطقة دير Des Pétits Augustins في باريس عام 1800، ليتمكّن جمهور المعجبين من زيارة القبر بسهولة أكثر. وبتاريخ 27/4/1807 تمّ الإحتفال بنقل ذخائر هذين الزوجين العاشقين، إلى هذا القبر الجديد، بحضور أعداد كبيرة من الشعراء والمفكّرين والمعجبين.
وبعد تسع سنوات على هذا الحدث العظيم، صدر قرار بتاريخ 18/12/1816، بإشادة مدرسة للفنون الجميلة في تلك المنطقة، فتقرّر نقل قبر الزوجين العاشقين مرّة جديدة، إلى منطقة تقع على مقربة من مدخل باريس الغربي، ما بين 16 حزيران و 8 تشرين الثاني 1817، فأصبح القبر محجّة لكلّ العشّاق والمفكّرين والمعجبين.
5- تذكير بما حلّ بالعمّ Fulbert وشبيحيه المأجورين
وأضاف طيف الرئيس جوزيف غمرون: عندما تمّ الكشف، عن الجريمة المرتكبة عام 1117، بحقّ العالم العاشق Pierre Abélard ، أدرك الفرنسيون، دولةً ورجال دين ومواطنين، هول هذه الجريمة، التي لم تعرفها البشرية من قبل، لأنّها ظهرت بمظهر المحاكمة الصورية، وارتكبت في حرم مدرسة عظيمة الشأن، تابعة للرهبان، ولأنّها أنزلت بالمتهم- الضحيّة، عقوبة مخصّصة للزناة المغتصبين، وحولّت عالماً فيلسوفاً، إلى ضحية ناطقة فيما تبقى من عمره، ومن شأنها أن تشجع مجرمين آخرين على القيام بجرائم مشابهة، داخل فرنسا وخارج فرنسا.
فتحرّك المسؤولون في القضاء المختص، وأجروا المحاكمة بشكل جدّي، وفقاً للقوانين السارية المفعول، وكانت النتيجة أن أصدرت المحكمة المختصة قراراً أحدث دويّاً هائلاً في فرنسا وخارج فرنسا، وما زال هذا الدوي مسموعاً حتّى الآنْ لأنّه قضى بـِ:
1- تطبيق La Loi du Talion، (المعروفة في بلادنا تحت مسمّى “العين بالعين والسن بالسّن”، منذ نقش شريعة حمورابي على أحد الصخور في العام 1730 ق.م.
2- إنزال عقوبة “استئصال الأذن التناسلية” لكلّ من المجرمين اللذين نفّذا جريمة إستئصال ذات الأذن التناسلية من جسم الفيلسوف العاشق Pierre Abélard، وفقر عيني كل منهما.
3- عزل العم Fulbert من كلّ مهامه الدينية والإدارية والتعليمية لمدّة سنتين.
فصفّق الجمهور لهذه المداخلة، التي قام بها طيف الرئيس جوزيف غمرون، وأعادوا التصفيق مرّة ثانية، عندما سمعوه يقول: كنت أتمنّى أن تكون عقوبة العم المحرّض مساوية لعقوبة المنفّذين رغم عدم إيماني بجدوى La Loi du Talion، أو أن يكون عزله من مهامه نهائياً على الأقلّ، وذلك للقضاء على كلّ البدع التي نلمسها في بعض المحاكمات على مستوى العالم.
(نشر في النسخة الورقية من مجلة محكمة – العدد 33 – أيلول 2018)