خاص “محكمة”: إقتراح لخدمة العدالة.. إنشاء مكتب يتابع الدعاوى الصادرة فيها قرارات حفظ / جوزف القزي
القاضي جوزف القزي (قاضٍ في منصب الشرف- رئيس محكمة التمييز العسكرية سابقاً):
إنّه شعور طبيعي أن يسعى القاضي المتقاعد إلى متابعة خدمة العدالة بعد انتهاء خدماته الفعلية، ذلك أنّ القاضي هو صاحب رسالة هي إحقاق الحقّ، وأنّ شعلة هذه الرسالة لا تنطفئ طالما هناك صاحب حقّ لم ينل حقّه، أو ظالم لم يلقَ جزاءه.
في إطار هذا التوجّه، أقرّ القانون اللبناني للقضاة المتقاعدين حقّ ترؤس اللجان في قضايا الاستملاك وفي اللجان المختصة بالايجارات، وغيرها. وقد قصد المشترع في ذلك، الاستفادة من علم القضاة المتقاعدين ومن الخبرة التي اكتسبوها خلال ممارسة مهامهم على مرّ السنين.
لا يقتصر مجال خدمة العدالة للقضاة المتقاعدين على ترؤس اللجان أو إبداء المشورة في بعض الأحيان، ذلك أنّنا نرى مجالات أخرى أهمّ وأجدى تتيح لهم ذلك، لا سيّما مجال مساعدة القضاة العاملين الغارقين في ضغط العمل اليومي.
يراودني اليوم في فترة تقاعدي بهذا الخصوص، مسألة كنت أطرحها على نفسي خلال ممارسة عملي القضائي، وكنت حاولت إيجاد الجواب لها، إلاّ أنّ ظروف العمل والضغط اليومي الذي كنّا نعانيه، كما يعانيه القضاة العاملون اليوم، لم يتح لي المجال العمل لحلّ هذه المسألة التي تتعلّق بمصير مئات الدعاوى الجزائية التي كنّا نتابعها أنا وغيري من قضاة النيابة العامة والتحقيق، والتي كانت تنتهي بقرارات حفظ من قبل النيابة العامة، أو بتسطير مذكّرات تحرٍ دائم من قبل قضاة التحقيق في الدعاوى التي لا يتوصّل فيها التحقيق إلى معرفة هويّة فاعل الجريمة أو المساهمين فيها.وكنت ألاحظ، مع الأسف، أنّ مثل هذه الدعاوى، التي هي بغالبيتها جرائم هامة وخطرة على المجتمع كجنايات الارهاب والقتل والخطف والفساد، تدخل عالم الظلمة والنسيان بسبب ضغط العمل اليومي وانصراف قضاة النيابة والتحقيق العاملين إلى متابعة الدعاوى والتحقيقات التي تتراكم لديهم، ممّا يتعذّر عليهم معه استعادة الدعاوى المحفوظة وطرحها مجدّداً. وأنّ هذا الأمر يؤدّي إلى أن تبقى هذه الدعاوى طيّ النسيان، إلى أن يعاد طرحها مجدّداً عن طريق الصدفة، عند حصول اعتراف أو شهادة بمناسبة تحقيق جديد.
مع مرور الوقت، توضّحت عندي معالم اقتراح عملي يقوم على آلية بسيطة تعتمد قرارات وإجراءات إدارية لا تحتاج لأيّ تشريع جديد. ولا شكّ، أنّ اعتماد هذه الآلية يؤدّي إلى إلغاء المساحة المظلمة والمنسية في عالم العدالة، ويمكّن القضاء من متابعة كافة الدعاوى والملفّات بما فيها الجرائم التي لم يتوصّل التحقيق إلى معرفة مرتكبيها، حتّى يتمّ إلقاء القبض على هؤلاء، مهما طال الزمن. وبذلك، يلقى كلّ جاني عقابه وترتاح روح المجنى عليه ويلقى ذووه عزاءهم.
وبصورة موجزة، يقوم هذا الاقتراح على إنشاء مكتب مختص بمتابعة الدعاوى والملفّات التي صدرت فيها قرارات حفظ أو مذكّرات تحرٍ دائم عن قضاة النيابة العامة والتحقيق في كافة الأراضي اللبنانية، ويكون هذا المكتب تابعاً للنيابة العامة التمييزية التي هي ممثّلة المجتمع والحقّ العام في الدولة، ويعمل هذا المكتب على الوجه التالي:
1- يرأس المكتب المدعي العام التمييزي، أو من يكلّفه بذلك من بين المحامين العامين التابعين له، وهو يتولّى مهام الإشراف إدارة العمل واتخاذ القرارات كافة المتعلّقة بتسيير وتنفيذ أعمال المكتب.
2- يلحق موظّفون إداريون وفنّيون بالمكتب للقيام بالأعمال الإدارية وتنظيم الأرشيف الذي تحفظ فيه كافة الدعاوى التي صدرت فيها قرارات حفظ أو مذكّرات تحرٍ دائم عن قضاة النيابة العامة والتحقيق في كافة الأراضي اللبنانية.
3- يلحق عدد من القضاة المتقاعدين بأعمال المكتب، بموجب قرار يصدر عن وزير العدل بناءاً لاقتراح المدعي العام التمييزي، يجري اختيارهم من بين القضاة الذين سبق وتولّوا مهام النيابة العامة أو التحقيق.
4- يقوم القضاة المتقاعدون الملحقون بالمكتب بدراسة وتدقيق ملفّات الدعاوى المحفوظة المحالة إلى كلّ منهم من رئيس المكتب، ويقدّمون بنتيجة ذلك اقتراحاتهم إلى المدعي العام التمييزي أو إلى المحامي العام التمييزي المكلّف من قبله، اللذين يعود لهما اتخاذ القرارات بشأن إجراء تحقيقات إضافية أو طلب معلومات أو مستندات ويتمّ تنفيذ كلّ ذلك وفق الصلاحيات والأصول المتعلّقة بالنيابة العامة التمييزية المحدّدة قانوناً.
5- يمكن الإستعانة في أعمال المكتب بخدمات بعض الضبّاط المتقاعدين المختصين والذين سبق وتولّوا مهام التحقيقات العدلية ويجري تعيين هؤلاء الضبّاط بموجب قرار من وزير العدل بعد موافقة المدعي العام التمييزي.
6- لا يترتّب للقضاة والضبّاط المتقاعدين الملحقين بالمكتب أيّ راتب أو أجر، وإنّما يعود لوزير العدل وبناءاً لاقتراح المدعي العام التمييزي اتخاذ القرار بصرف مكافآت مالية من ميزانية وزارة العدل لكلّ منهم وذلك مقابل الأعمال التي يكون أنجزها، والنتائج التي حقّقها.
إنّ هذا الاقتراح سهل التنفيذ، وهو يتيح الاستفادة من علم وخبرة القضاة المتقاعدين من أجل سدّ فراغ هام في مجال تحقيق العدالة، وذلك عن طريق آلية عمل مستمرّ ودائم في ملاحقة الجرائم، لاسيّما الخطرة منها على أمن المجتمع حتّى التوصّل إلى معرفة جميع مرتكبيها، وإنزال بهم العقوبات التي يستحقّون.
(نشر في مجلّة”محكمة”-العدد30 – حزيران 2018- السنة الثالثة).