دفاعاً عن قضاء مستقلّ/رمزي جريج
الوزير والنقيب رمزي جريج*:
نحن عَيّنَة من أهل القانون المحترفين، سلخنا معظم أعمارنا في أروقة المحاكم، وذرفنا نور العيون بين الحرف والكلمة والنص، وعقدنا صداقات حقيقية وافتراضية مع يوسف جبران وفيليب خير الله وعلي السقلاوي وكبريال سرياني و”مارتي ورينو» وفتحي والي؛ نلتقي في فترات متباعدة ونتبادل الإستغراب، ونعاقر الذهول، فيعترينا اليأس تارة، والغضب تارات لِما آلت إليه آلة العدالة، من عبث وتعطيل واجتراء، حتّى كادت عضلات من تبقّى من أهل التحفّظ والعلم والرصانة أن تخور بسبب السباحة في مياه الأرخبيل المتلاطمة، بعدما ضرب الزلزال أرض القضاء، فتشقّقت جزراً، وأندية، ومجموعات، ومواقع تواصل، وترجرجرت كفّتا الميزان وتعرّى أو كاد الحقّ من سقفه؛
إنّنا ننظر بكثير من الإشفاق على الوطن، عندما لا يحسب قاضٍ حساباً لموقعه ومكانه في المنظومة فيصدر قراراً عاجلاً بإقفال فم سفيرة، وعندما يركب آخر على العجلة فيأمر على عريضة، بإلزام فلان بتطليق زوجته طلاقاً بائناً تحت طائلة غرامة إكراهية يومية باهظة، أو حين ينصّب ثالث نفسه قاضياً لمحاربة الفساد فيبطش بزملائه من غير اختصاص، ويُسخّر سلطة التوقيف لخدمة مصالح مكشوفة، ويقدّم استقالته العلنية للرئيس مزدرياً بالتراتبية، أو يقوم رابع بإلقاء الحجز الاحتياطي على أملاك حاكم مصرف لبنان سنداً لدعوى جزائية مقامة من غير ذوي صفة، على من ليس له صفة، ومن غير التحقّق من وجود المصلحة، أو التأكّد في ما إذا كانت الدعوى الجزائية قد راعت أصول المحاكمات.
إنّ القرار الذي لم يذكر سبب الحجز في متنه، سيغفل حتماً عن التدقيق في صحّة ذلك السبب أصلاً وفصلاً، خاصة أنّ الشكوى (سند الحجز) لا تتضمّن إذناً بملاحقة من وُلِّيَ خدمة عامة كما تفرضه القوانين المرعية الإجراء.
إنّنا نندهش فعلاً حيال هذا التَّسَيّب الذي لا يراه التفتيش، وحيال هذا التصدّع الذي لا يُهرع وزير العدل لرأبه، فنكون والحال كما ذكر أمام خلل خطير ومدمّر، يسقط فيه الحائط الافتراضي، وتختلط الأمور بين قاضٍ يُحاكِم الناس أمام القوس، وقاضٍ يحاكمه الصحافيون الاستقصائيون أمام الشاشات التلفزيونية من غير عاصم أو رادع فيهتكون ستره، ويزعمون أنّهم يفعلون ذلك باسم الشعب، وهذا ما لم يخوّل به إلا القضاة، ولكن قلّة منهم تُسيء استعمال النطق باسم الشعب اللبناني، تشجّع غيرها على انتحال هذه الوكالة القانونية الحصرية.
إنّ الموقعين عليه، يعتبرون أنّ الجرأة لدى القاضي، لا تكون بتخطّي أحكام القوانين المرعية الإجراء تماشياً مع أهوائه الخاصة، أو التماساً لتنويه أو تصفيق إلكتروني من خلال مواقع التواصل، بل إنّها تكمن في إعمال تلك القوانين، من دون أيّ اعتبار آخر.
نحن ندوّن على الورق حرارة تنهيدتنا العميقة، ولا نصدّق أنّ القضاة يتظاهرون، وينغمسون بالسياسة، ويصنّفون المراكز القضائية بين مرموقة وغير مرموقة، فيسعى بعضهم بالوساطة المحرّمة إلى إحراز هذا المنصب أو ذاك، لأنّنا كنا دائماً على يقين أنّ متانة البنية القضائية كفيلة بصمود جسمها رغم تهتّك الدولة الفاشلة التي لا تبالي بإفقار شعبها، ولا تسعى لفك الحصار عنه، ولا تضع سياسة صارمة لصدّ الوباء وترتكب الإهمال الفادح الموازي للجناية، وتنفض عنها بصفاقة مسؤولية تدمير بيروت.
لهذا نعلن أنّنا لا نفقد الأمل بقضائنا إذا كان هناك من يعيد إليه الضبط والربط وموجب التحفّظ وانتهاج الحصاصة التي لم تراعَ في مسألة تعيين قاضي التحقيق العدلي.
*المصدر: جريدة الجمهورية
“محكمة” – الجمعة في 2020/8/14