دمعة محامٍ على نقيب/وليد أبو دية
المحامي وليد أبو ديّة:
عصام كرم!
يا للإسم المحبّب…
في هذه الأُويقات، يصغر الكون، وتتضاءل الكائنات، ويُقسّط للمرءِ أن ينعمَ بالعزلةِ اللّدنيّة…
عند ذاك، تبيّن لهُ الأبعاد، وتنحلّ الأشكال لتُعاود عهدها بالهيولى…
عند ذاك، يقفُ الإنسان – هذه الذات العجيبة- حيران بين الحياة والموت… بين الفناء والخُلود.
الأفكار ساورتنا، ساعة نعي النقيب عصام كرم… من صفوفنا هوى، فسقطت بهِ واحدة من نجماتنا المشرقات. والمحامونَ خسروا بهِ نقيباً طيّباً. يذكُرونهُ بلهفةٍ على الفراغ الذي ترك.
مرّ بدُنيانا، فملأها وجوداً. وخلاها، فتركَ فراغاً تتآكلُهُ الحسرات.
كان أديباً. عايشَ الحرفَ. وأقام مع الفكر الأثيل على مودّات… وكان مُحدّثاً، تصغي إليه، يؤلّف بين مُدّخرات الكائن الحميم فيه وبين الحديث الذي يروي… فتُمسك لذّة الإصغاء، ويشجيكَ الإقتدار على وشي الصِّيغ والإمساك بالحلاوات.
وفي المحاماة- وهو تبتّلَ لها- كان ناجحاً زيّنتهُ لباقة والده “كرم ملحم كرم”، وأناقة الأديب، وحجّة لابس “الروب”… فإذا بهذا المثلّث ينبري للمسألة موهوباً متعافياً.
عرَفَ المحاماة شهامة بال، وبراعة خدمة، ونافذة على الشأن العام. وهوَ كان له فيه رأي.
لكَم تمنّيت لو أنّ الأولوية للكلمة التي في البدء كانت… لكنت أنتَ يا “نقيب” على المِنبر، يا سيّد المنابر، والناس سامعون.
أمّا وقد انعكست سلّم التراتب، وانقلبت سُنّة الأولويات، فصارَ للرصاصة على الكلمة صدارة، وكان العقل شهيداً والقلب ضحيّة، فلا بأسَ إن إعتليت المنبرَ لأقولَ لِمن جهلوا، أو ربّما تجاهلوا، أيّ قيمةٍ أنت، وأيّ محامٍ أنت وأيّ إنسان…
نعم. ما زلنا نحن المحامين، نؤمن بالكلمة على رغم كلّ شيء.
نؤمن بها فاعلة مثل الايمان.
نؤمن بها هادمة بانية.
نؤمن بها قبساً مُشرقاً في محراب قُدس الأقداس.
نؤمن بها. ننطق بها. وبها نعلّم.
نبكيكَ؟ لا. لكنّه صدى الوفاء فيك…
الوفاء للزمالة المُشرِّفة وأنتَ “النقيب”…
لا تسكت عن نصرة، ولا تقعُد عن عطاء، حتّى رفعكَ المحامونَ نقيباً لولايتين، وكُنتَ “قدّها”. وقُدِّرَ لي أن أشهدَ وقَفاتكَ، فكُنتَ القول المسموع.
والوفاء! الوفاء للإنسان الذي فيكَ وقد حملت الرسالة من ساحة قصر العدل إلى ساحة النِضال الشعبي، فكنت وكيلاً عن العامل والكادح، تترافع في الساحتين عن حقّ الإنسان بالعدالة، إيماناً منكَ بأنٍ المجتمع “البلا عدلْ”، إنّما هو مجتمعٌ يحمِل في نفسهِ بُذورَ هدم نفسِه.
والوفاء؟ الوفاء للطيبة فيك. للبساطة الأنيقة. للجرأة، للعفويّة والقلب الكبير…
فمِن عبقِ حضارة الشرق، إلى شذى الآداب الرفيعة، آداب مشرقنا، مُروراً بـ”بندار” الإغريق، و”سينيك” الرومان، وانطلاقاً إلى “سرفانتس” كاتب الرواية الشهيرة دونكيشوت، و”شكسبير” و” فيكتور هوغو”، فعودً إلى نورانيّة المصادر وشفافية الينابيع.
كلامهُ، حديثهُ، عبقريّته، ثقافته، طلاقة لسانه، حجّته، ذاكرته النيّرة! سُبحانَ مَن وهَب…
فلو شئتُ أن أقولَ كلّ ما أود، وما يجب عليّ قولهُ، لأصابني بإزاء النقيب عصام كرم وما لهُ من أيادٍ علينا وما شربناه وارتوينا به من يُنبوعٍهِ، ما أصابَ الحلّاج الذي يُنسب إليه قولهُ:
“سَقوني وقالوا لا تُغنّي ولوْ سَقَوا
جبالَ حُنينٍ ما سُقيتُ لَغنّتِ”.
عصام كرم، كان محامياً مُمسكاً بمَواطنِ المحاماة، رافق الكبار… رافقَ “الأكابر”، ومع النقيب الراحل ميشال عقل بدأَ مسيرتهُ المهنيّة.
مرّت به عواصف، هزّتهُ، فما لوى… وكلّما ازدادَ صخباً، إزدادَ لها، هو، تصدّياً برجولة المعاندين المؤمنين. تُزحمهُ ولا تُقعِده. وتُحاول ثنيهُ عن عنادهِ، فينبري لها بقدمٍ ثابتة، وبقلبٍ لا يُطاولهُ الوهن.
وتمضي العاصفة، وهوَ هوَ، واقفٌ لا يسقطُ في الساح. وتتبعثر هي قطعاً قطعاً، تنكسر على رِتاج مناعتهِ، ليبقى هو بعدها قطعة واحدة تُلملم نفسها إستعداداً لمواجهة عراكٍ جديد.
بلى! هكذا كان الألمعيّ عصام كرم…
في المحاماة هكذا كان.
ثابت الوقفة. ثبِت الجنان. قامت بينه وبين الحجّة إلفة. وكانَ المدى فسِحاً بينه وبين البرهان.
وبعد… تغيب عن قُصور العدل موهبة أنيقة. ويخسر المحامونَ نقيباً كانت مسيرتهُ سيرةَ أدب الزميل الذي ما تمنّى لنقابتهِ إلّا الرفعة، كلّ الرفعة.
شاء للمحامي أن يكون إبن الإطلالة الميسورة على دنيوات العلم والأخلاق والحجّة…
شاء للمحامي أن يُخاصم بنبالة، وأن يُحاوِر بنبالة… نبالة الرسالة.
وبعد… سكتَ القلب الكبير، وكانت نبضاته أقوى من خفقات الأجنحة!
سكتَ القلم الناري، وكان صريره أمضى من حدّ السيف!
خرس الصوت النُحاسي، وكانت جُلجلتهُ أشدُ من دويّ الصاعقة!
تلاشى العقل الخلّاق، وكان إبداعهُ ثورة في المقاييس الفقهيّة.
أعطانا أُمثولةً في حلاوة المعشر، وأدب المخاطبة، وعزّة النفس، ووثبة الإندفاع، ونزاهة التعامل. لكأَنّهُ إستعارَ من الأرزة صلابة الإرادة.
كان نقيباً في مظهره. في أناقتهِ. في إطلالتهِ. في تحيّتهِ. في انتفاضتهِ. في رصانتهِ. في شممهِ… في كلّ شيء.
فيا أيّها النقيب الغائب، وما أنتَ بغائب. نُعزّي بلدتكَ “دير القمر”، نُعزّي آلكَ، مع أنّنا، نحنُ المحامينَ، أحوج ما نكون إلى من يُعزّينا بكَ… بخلقكَ ورجولتكَ، بذاكَ الوجه الأنيس الذي لم يترك خلفهُ إلّا طيبَ أثرٍ ويناع ذكريات.
عصام كرم!
بقيتَ تحكي… ليبقى لنا، بعدَكَ، كلام “حلو كتير”… كلامٌ نُردّده في دُنيانا، في حياتنا، ليتيسّرَ لنا، مثلكَ، أن “نضحكَ من الدنيا ومن الحياة”.
فيا أيُّها الباكونَ على كنزٍ فقدناهُ! عزاؤنا أنّ في الموتِ حياة!
وأنتَ أيُّها الراحل الكبير… إليكَ دمعة محامٍ على نقيب.
“محكمة” – الخميس في 2020/3/5