دولة ميشال المرّ في القضاء/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
لا أحد ينكر أنّ ميشال المرّ كان دولة قائمة بذاتها.
ولا يمكن لأحد أن ينسى أنّ ميشال المرّ لعب دورًا سياسياً بارزًا في أوج تألّقه في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين ومطالع القرن الواحد والعشرين، فجلس في الصفّ الأوّل الرئيسي للحياة السياسية اللبنانية، واستحقّ عن جدارة لقب “دولة ميشال المرّ”.
وبعيدًا عن السياسة، فإنّ للمرّ امتدادات وجذوراً في القضاء وصلت إلى حدّ السيطرة على مراكز النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان وبعض قضاة التحقيق والحكم خلال وجوده في السلطة وزيرًا للداخلية ووزيرًا للدفاع الوطني ونائبًا لرئيس مجلس الوزراء، وهو بالفعل كان أكبر من كلّ هذه المناصب التي آلت إليه بفعل حنكته وشخصيته وقربه من النظام السوري ونفوذه في لبنان.
وكان المرّ يستأثر بالمراكز المسيحية في القضاء في جبل لبنان ولاسيّما في منطقته الإنتخابية المتن الشمالي حيث كان الساعي إلى بناء قصر للعدل في بلدة جديدة، وكان يفرض على مجالس القضاء المتعاقبة القضاة الذين يمون عليهم ويريدهم في هذا المركز وذاك. ولائحة الأسماء طويلة، والتعداد لا ينتهي، ولم يكن بمقدور أحد أن ينقل هؤلاء إلى مراكز أخرى بخلاف موقف المرّ ووجهة نظره ورأيه، ولا شكّ أنّ منهم من نقل”ولاءه” إلى ضفّة سياسية أخرى وزعيم آخر بعدما بدأت شمس المرّ السياسية بالأفول تدريجيًا وبعدما ذابت لقاءات “عمارة شلهوب” العلنية والسرّية كلّ يوم أربعاء، ومنهم من تقاعد، ومنهم من استقال، ومنهم من لا يزال في العمل القضائي وفي مراكز متقدّمة كرئيس استئنافي وكمحقّق عدلي، وقد بات محسوبًا على سياسي آخر. هكذا هي الحياة والوفاءُ فيها قليل!
وأكثر من ذلك، يتذكّر المعنيون في القضاء كيف أنّ “رجالات” المرّ في القضاء حالوا دون صدور مرسوم للتشكيلات القضائية في عهد وزير العدل شكيب قرطباوي في العام 2012 حيث كان من المقرّر نقلهم مستشارين في غرف محكمة التمييز بعد سنوات من “التمترس” والتحكّم والسيطرة والإستغلال في النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان. كان هؤلاء بفعل دعم المرّ وتغلغله في المناصب القضائية الحسّاسة أقوى من وزير العدل وربّما بعض مجالس القضاء.
وكلّ أهل العدلية من قضاة ومحامين وحقوقيين كما أنّ السياسيين يعرفون أنّه كانت للمرّ يد طولى في اختيار قضاة في مواقع معيّنة إلى درجة أنّه أوصل بعضهم إلى رئاسة مجلس شورى الدولة، وأجرى تعديلًا للقوانين إفساحًا في المجال أمام وصول هذا وذاك ممن لم يكن متاحًا لهم التنقّل بين القضاءين العدلي والإداري. وبفضل المرّ ألغيت عبارة دكتوراه في الحقوق من القانون لمصلحة دكتوراه في أيّ اختصاص آخر ولو كان أدباً عربياً. وكم من حكم وقرار صدر بلغة شاعرية لا تمتّ إلى القانون بصلة!
ولا يزال أهل العدلية يتندّرون بحكاية تلاعب قاض تسنّى له مع الأيّام أن يصبح رئيساً لمجلس القضاء الأعلى، بنتائج الإنتخابات الفرعية في المتن بناء لطلب المرّ نفسه ولمصلحة مرشّحته ضدّ أخيه، عبر دسّ مظروف ثان لإحدى البلدات في عملية الفرز، فكان أن أعلن المجلس الدستوري فوز المرشّح الثالث غسّان مخيبر بالمقعد النيابي المخصّص للطائفة الأرثوذكسية.
وللمرّ أيضًا محطّتان بارزتان في القضاء لا يمكن التغاضي عنهما.
فقد تسنّى للمجلس العدلي في عهد رئيسه القاضي الراحل فيليب خيرالله والمستشارين الرؤساء التمييزيين القضاة حكمت هرموش وحسين زين وأحمد المعلّم ورالف رياشي أن ينظر في قضيّة محاولة اغتيال المرّ في محلّة انطلياس خلال فترة الحرب اللبنانية، وحوكم فيها أشخاص تابعون لميليشيا “القوّات اللبنانية” وأدين في هذه القضيّة سمير جعجع نفسه بالحكم الصادر في 9 أيّار 1997.
أمّا المحطّة الثانية، فتمثّلت بتوقيع المرّ مراسيم إعدام عدد من المحكومين بهذه العقوبة، بالنيابة عن رئيس مجلس الوزراء الدكتور سليم الحصّ الذي رفض توقيعها في حكومته الأولى في عهد رئيس الجمهورية العماد إميل لحود إيمانًا منه بأنّ أعمار الناس ملك خالقهم. ونشأ جدال قانوني حول حقّ المرّ بصفته نائباً لرئيس مجلس الوزراء في توقيع هذه المراسيم مكان رئيس مجلس الوزراء عند رفضه أو تغيّبه، وانتهى الأمر بوقف مفعول هذه المراسيم عبر تجميدها وتعليقها، وبالتالي عدم تنفيذ عقوبة الإعدام وإطالة أعمار هؤلاء المحكومين بجرائم قتل لا يمكن أن تنسى من تاريخ القضاء ولبنان.
لقد كان معظم أهالي القرى والبلدات اللبنانية في المحافظات الأخرى “يغارون” من أهالي بلدات المتن الشمالي، لأنّ ميشال المرّ كان يقف معهم وإلى جانبهم ويتواصل معهم خارج مواعيد التعازي والتهاني والتبريكات والأفراح والأحزان، إذ كان يعاود في ساعات متأخّرة من الليل الإتصال هاتفيًا بكلّ من اتصل به في ساعات النهار ولم يجده، فيستمع إلى مطالبهم وحاجياتهم ويسعى جاهدًا إلى تأمينها وتلبيتها ولو من جيبه الخاص، وهكذا تبنى الزعامات.
ففي عهد ميشال المرّ شُيّد قصر العدل في جديدة المتن ولعدد من المواطنين يقلّ بكثير عن عدد سكّان بعلبك – الهرمل حيث يوجد مبنى مستأجر لقصر العدل من ثلاثة طوابق لا يمكن أن يطلق عليه اسم قصر العدل، فكيف لا يحبّ المتنيون بمختلف مشاربهم وطوائفهم ومذاهبهم وأفكارهم دولة “أبو الياس”؟
ولن ينسى أهالي المتن الشمالي إرث المرّ في ديارهم من بلديات شكّلها بإرادته ووفق مصالحه واستفادته ومزاجه الخاص،ومن امتهانه صناعة النوّاب بين العامين 1992 و2005، وإثرائه لهم بإنجازات لن تمحى كتشييد سرايا جديدة، ومبنى القوى الأمنية في المتن. وكلّ هذا الفعل وذاك العمل توجّ المرّ الأرثوذكسي زعيماً على موارنة المتن والمحيط.
ميشال المرّ سياسي لن يتكرّر حتّى ولو صدرت طبعات منقّحة ومزيدة من شخصيته وفرادته وقربه من الناس، فلا شكّ أنّ لكلّ إنسان بصمته وأسلوبه وطريقته في التفكير والأداء.
“محكمة” – الأحد في 2021/1/31