“دوّيخة” في العدلية: مناقبية حبيب مزهر وأخطاء إيليا وخطايا البيطار/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
كاد المحقّق العدلي في انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار أن يضيف مخالفة قانونية صارخة إلى مصنّفه الكبير في تجاوز القانون لو لم يستدرك في اللحظة الأخيرة ويخفّف عن نفسه سيّئات ما يفعل.
فمن المصعد “السرّي” الخاص بالرئيس الأوّل لمحكمة التمييز في الموقف السفلي لقصر عدل بيروت، وصل البيطار صباح اليوم إلى مكتبه في الطابق الرابع وفي نيّته أن يعقد جلسة تحقيق في ملفّ انفجار مرفأ بيروت، وهو المبلّغ من محكمة الاستئناف المدنية في بيروت بغرفتها الثانية عشرة برئاسة القاضي المنتدب حبيب مزهر بوجوب التوقّف عن متابعة التحقيق إلى حين الفصل في طلب ردّه المقدّم من الوزير السابق المحامي يوسف فنيانوس.
في الطابق الثالث من العدلية نفسها، وبعد انتهاء المسرحية الخطرة على هيبة القضاء وسمعته بختم مكتب مزهر بالشمع الأحمر من مجموعة سيّدات، جلس مزهر إلى مكتبه وقدّم أمثولة في المناقبية القضائية من خلال تطريزه قرارًا مؤلّفًا من عشرة سطور يؤكّد فيه وبشكل واضح ومسؤول مترفّع عن أيّ أنانية توقّفه عن متابعة النظر في قضيّة مطلوب ردّه فيها ولم يكن قد تبلّغها بعد، وإنّما سمع بوجود توجّه إلى تقديم دعوى ردّ بحقّه.
وللإستئناس أكثر، ولمزيد من الإستمتاع بأهمّية المناقبية القضائية الآيلة إلى التراجع والإنخفاض، إليكم ما كتب القاضي حبيب مزهر عند الساعة العاشرة والدقيقة الخمسين من قبل ظهر يوم الثلاثاء الواقع فيه 9 تشرين الثاني 2021، في متن قراره في معلومات موثوقة وخاصة بـ“محكمة”:
“ولمّا كان تنامى إلى سمعي بالتواتر وأثناء وجودي في مكتب الرئيس الأوّل لمحاكم الاستئناف في بيروت القاضي حبيب رزق الله يوم الجمعة الواقع فيه 2021/11/5 أنّه سيتمّ تقديم دعوى ردّ بحقّي بصفتي رئيس الغرفة الثانية عشرة في بيروت المكلّف بتاريخ 2021/11/2 للنظر في هذه الدعوى،
واحترامًا لقسمي القضائي وعملًا بمناقبيتي القضائية، وقبل أن أتبلّغ أيّ طلب بردّي لغاية تاريخه، فإنّي أتوقّف عن متابعة النظر في القضيّة المطلوب ردّي فيها إلى حين البتّ بطلبات ردّي.”
الفارق بين هذين المشهدين، كبير جدًّا وهو برسم المعنيين في القضاء، وليت كلّ القضاة في لبنان يتحصنّون خلف مناقبيتهم التي هي درعهم الواقي وتحديدًا عند الملمّات والشدائد.
على أنّ الحكاية لا تنتهي هنا، فلكلّ فصل مقدّمة، ولا غنى عن استعادة كيفية تكليف مزهر وما رافقها من حملة تشويش إعلامي مسيئة إلى القضاء نفسه وليس إلى مزهر بمفرده، وقد افتُعلت عن سابق إصرار وترصّد بهدف طمس الحقيقة التي يبدو أنّها لا تعجب أحدًا لا في القضاء ولا في خارجه، على غرار ما هو مخطّط له بعدم معرفة من استقدم “نترات الأمونيوم” إلى مرفأ بيروت.
فمن خلال جدول توزيع الأعمال على غرف محكمة الاستئناف في بيروت، يتضح أنّ الغرفة الثانية عشرة المؤلّفة بحسب مرسوم تشكيلات العام 2017، من القضاة نسيب إيليا رئيسًا وميريام شمس الدين وروزين حجيلي مستشارتين، مولجة بالنظر في طلبات ردّ القضاة من أيّ جهة أتت، أيّ أنّ كلّ طلبات ردّ القضاة محصورة بهذه الغرفة، وذلك بعكس ما هو معمول به في محكمة التمييز حيث تُقدّم دعوى ردّ القضاة أمام الرئيس الأوّل لمحكمة التمييز الذي يبادر بحسب مزاجه وفي استنسابية مطلقة إلى اختيار الغرفة التمييزية التي تناسبه وتتوافق مع تطلّعاته.. السياسية إذا ما كانت تتصاعد من الملفّ رائحة سياسية ما.
وقدّم الوزير السابق فنيانوس بواسطة وكيله القانوني المحامي طوني فرنجية دعوى ردّ القاضي طارق البيطار وسجّلت تحت الرقم 69، وأتبعها بتقديم طلب ردّ القاضي نسيب إيليا وسجّلت تحت الرقم 72. وما كان من الرئيس الأوّل لمحكمة الاستئناف في بيروت بالإنتداب القاضي حبيب رزق الله إلّا أن كلّف القاضي حبيب مزهر بترؤس الغرفة الثانية عشرة مكان القاضي نسيب إيليا من دون تحديد ملفّ معيّن للنظر فيه، وهذا يعني تكليفه بترؤس هيئة هذه الغرفة بكلّ ما لديها من ملفّات وما يأتيها وما يردها من دعاوى.
وكان من الطبيعي أن يشمل هذا التكليف النظر في دعوى ردّ القاضي إيليا المقدّمة من فنيانوس باعتبار أنّ إيليا تنحّى من تلقاء نفسه لأنّه لا يعقل أن ينظر في طلب ردّه، فوضع مزهر يده أصولًا على الملفّ وبحكم الأصول القانونية المرعية الإجراء.
ولكي يتحقّق مزهر من وجود ما يستدعي الردّ أو انعدامها، وتوافر الشروط أو انتفائها، يتوجّب عليه الإطلاع على ملفّ التحقيق لدى البيطار، ولذلك طلب في قراره الشهير الصادر يوم الخميس الواقع فيه 4 تشرين الثاني 2021 وبصورة واضحة لا تحمل أيّ التباس أو تأويل أو تثير أيّة ريبة، من قلم المحقّق العدلي البيطار “إيداعنا كامل ملفّ الدعوى للإطلاع عليه تمهيدًا للبتّ بأسباب الردّ المثارة من طالب الردّ” فنيانوس.
ومن يتأمّل هذه الفقرة من قرار مزهر، يجد سهولة في التعبير، ووضوحًا في العبارات، وصراحة في المعنى، كوضوح نصّ المادة 126 من قانون أصول المحاكمات المدنية التي تلزم بإبلاغ كلّ الخصوم في الدعوى ولا تحتاج إلى الإجتهاد في معرض وضوحها وصراحتها كما فعلته محكمتا التمييز المدنية الخامسة والأولى برئاستي القاضيين جانيت حنّا وناجي عيد، وهذا ما أصاب الفريق المنزعج من تكليف قاض من الطائفة الشيعية هو حبيب مزهر، بالذعر الشديد، وهو ذعر غير مسوّغ وغير منطقي ولا يقع في مكانه الوطني السليم، فجرّد حملة إعلامية فاشلة لم تترك منبرًا أو منصّة أو عظة إلّا واستخدمها للإساءة إلى سمعة مزهر واستتبعها “بهمروجة” ختم مكتبه بالشمع الأحمر، لعلّه يتمكّن من منعه من النظر قانونًا في طلب ردّ البيطار، غير أنّ أمله خاب كثيرًا.
ثمّ قُدّم طلب ردّ القاضي مزهر، فكلّف القاضي رزق الله القاضي نسيب إيليا النظر في طلب ردّ مزهر الذي ينظر في طلب ردّ إيليا في “دوّيخة” غير مسبوقة في تاريخ القضاء اللبناني الذي يبدو أنّه يمرّ في أوقات حرجة ودقيقة للغاية. كما أنّ المحاكم العرفية وتلك الموجودة في الأنظمة الديكتاتورية لم تعرف حادثة مماثلة. قاض ينظر في طلب ردّ قاض ينظر في طلب ردّه.. على أمل ألّا يكون الآتي أعظم فالعدلية لم تعد تحتمل نزفًا وخرقًا ومخالفات!
ولم ينته هذا المسلسل عند هذا الحدّ. فقد أصدر القاضي نسيب إيليا بصورة منفردة ومن دون المستشارتين شمس الدين وحجيلي قرارًا بإبلاغ زميله القاضي حبيب مزهر دعوى ردّه، وطلب منه أن يتوقّف عن النظر في الملفّ، وهذا ما استبقه مزهر وفعله عن قناعة تامة وراسخة وقبل تبلّغه رسميًا طلب ردّه، ولم يتهرّب ولم يتملّص كما فعل البيطار عندما وضعت الإفادة القلمية بتقديم طلب ردّه أمام ناظريه وأشاح عنها وسارع إلى إصدار مذكّرة توقيف غيابية في حقّ الوزير السابق النائب علي حسن خليل، وكأنّ هذه المذكّرة غاية في حدّ ذاتها وليس التحقيق بانفجار مرفأ بيروت.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّه من ضمن حملة استهداف القاضي مزهر والتطاول عليه، تسجيل “مأخذ” عليه بتوقيعه منفردًا قراره الصادر في 4 تشرين الثاني 2021 والرامي إلى اتباع سلسلة إجراءات تمهيدية لا بدّ منها قبل البتّ في طلب فنيانوس بردّ القاضي البيطار، وهذا ما فعله القاضي نسيب إيليا بتوقيعه منفردًا قرار إبلاغ مزهر طلب ردّه، وغابت الأصوات المعترضة ولم تتلفّظ بحرف واحد وكأنّ ألسنتها بترت، لا بل وضعت رأسها في التراب.. ويا ارض انشقي وابلعيني”.
العدلية في خطر فهل من منقذ؟
“محكمة” – الثلاثاء في 2021/11/9