رأفةً بالتاريخ وبالمتطاولين عليه!
كتب النقيب عصام كرم:
اللُّغة العربية،أصلاً، منقسمة إلى لسانين. كمثل اللغة الفرنسية. la langue d’oc et la langue d’oil.
واللِّسانان العربيّان كانا الحِمْيري في اليمن والعدناني في الشمال. واللِّسانان هذان إختلفا في كلّ شيء. في التركيب. وفي الأوضاع. وفي الكتابة.
يُقال هذا من دون أن ننفي قيام مشابهات لفظيّة بين اللسانين.لأنّهما كلاهما من أصل واحد.
عن لغة حِمْيَر لم يأتِنا أدب وشعر. ولا قام رُواةٌ يحفظون أدب حِمْيَر وشعرها. ذلك بأنّ اللسان الحِمْيَري بدأ يفقد سيادته بعدما تسلّطت الأحباش على اليمن، ثمّ الفرس. وبذلك كانت السيادة للُّغة العدنانية.
لغة القرآن عدنانية قرشيّة… فقُضي بذلك على لغة حِمْيَر. وكانت اللغة العدنانية منتشرة في شمال الجزيرة …. تتحدَّث بها القبائل… من تحت خيام الوبر حتّى القرى والمُدُن. وقبائل عدنان ضربت في أطراف الشام وفي أطراف العراق … كمثل بكر وتغلب وتميم وطَيّ. فدخلت العدنانية،هكذا، الشام والعراق.
وينفجر سدّ مأرب. وتضعف التجارة. وتهاجر القبائل اليمانية إلى الشمال وإلى وسط الجزيرة. وهناك هي تترك الحِمْيَرية إلى العدنانية. وهناك نظم شعراء هذه القبائل المهاجرة من كِنْدة، ومِثْلهم الأوس والخزرج والأزد، باللِّسان العدناني ، وطليعتهم أُمرؤ القيس الكِنْدي.
وانتشرت العدنانية. وتعدّدت بين قبائلها اللهجات. لكنّ الألفاظ والتراكيب ظلّت واحدة … طبعاً من دون أن نُسقط من الحساب قيام إنحرافات لفظيّة وإضافة حروف وكلمات وأسامٍ.
وفي خضمّ تعدُّد اللهجات فرضت لهجة قريش وجودها… فتوحّدت بها لغة العرب.
ومن مكّة كانت الإنطلاقة. مكّة السوق الكبيرة.سوق التجارة. وسوق اللّغة. فضلاً عن أنّ فيها البيت الحرام يتوافد عليه التجّار والزوّار.
وفي سوق التجارة قامت سوق الأدب. فكانت عُكاظ بين مكّة والطائف. وتعهدّتها قريش تجعل فيها حَكَماً يختار أفضل ذوي القريض. والحَكَم عدناني. ولا جدال. هكذا النابغة الذبياني تُضرب له القبّة الحمراء من الجِلد … فيقعد ويسمع ويختار: أنت خير شعراء الموسم، يا فلان، إذ قلت …
وبذلك جمعت قريش أفضل لهجات عدنان. لكنّها، لغة قريش، لم تفرض نفسها إلاّ بالقرآن. لغته لغة قريش. فتوحّدت بها اللهجات. وسادت القرشية.
والمجال توسَّع. لأنّ البداوة صارت حَضَراً . والحضر صار حضارة تتفاعل مع الحضارات الأُخرى … فتنفعل وتفعل.
وهكذا، بالعَربية، قرأ العرب الفُرْس والإغريق. فالخليفة العبّاسيّ السابع، المأمون بن الرشيد، في انفتاح مبرور عنده، بنى “دار الحكمة” في بغداد وجاء بالتراجم النصارى يعرّبون الفلسفة الإغريقية.
وتنفتح سماء الفكر العربي… فيكتب فلاسفة العرب بلغة قريش… من الفارابي إلى إبن رشد وإبن خلدون مروراً بـ إبن سينا والغزالي والآخرين الكُثُر.
وكمثل الحضارات التي فرضت نفسها، فكراً ولغة”، هكذا ساد الفكر العربي بلغة قريش العدنانيّة على مدى ثلاثماية سنة يلتفت إليه الناهلون من الينابيع يستهدون ويستنيرون. والذين يُنكرون هذه الحقيقة مكابرون. بل مستكبرون على الحقيقة ومتطاولون على التاريخ. فاللغة العربية قُرئت بها آداب لغات كثيرة. وبها تداول فِكْر أُمم كثيرة وحضارات.
تُراث العرب، بالعربية القرشية، تراث إنساني يتغذّى بالآداب كلّها ويغذّيها بالعطاء المنيف.
لا رأفةً بالضاد، يا هؤلاء!
بل رأفةً بالتاريخ وبالمتطاولين عليه!
إرحموا اللغة وأدرأوا عنها قرصنة بعض الذين يعملون على حمايتها!
أنا قرأتُ بعضهم. وسمعتُ بعضهم. وهالني ما يَعْتَوِر مقالهم من لُكْنة وعُجْمى وطمطمانيّة!
من أراد لغة الضاد الصحيحة عليه أن يعرف كيفيّة التعدية بحرف الجرّ.
هكذا البداية إذا كنّا نرنو إلى سلامة الخواتيم!
( نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 13 – كانون الثاني 2017).