رشاد سلامة لـ”محكمة”: ربحت خصومات في دفاعي عن داني شمعون.. وإذا فقدت ثقتي بالقضاء سأعتزل المحاماة/فريال الأسمر
أجرت الحوار المحامية فريال الأسمر:
شهدت المحاماة على مرّ عراقتها، مولد عدد من الرجالات الكبار الذين أثروا هذه المهنة التاريخية، وأعطوها فأعطتهم ورفعتهم عالياً ووضعتهم على رأس المجتمع حتّى ملأت أخبارُهم ومرافعاتهم الشهيرة صفحات الصحف ووسائل الإعلام. ومن هؤلاء يأتي في طليعة الأسماء المحامي رشاد سلامة النائب الأوّل الأسبق لرئيس حزب الكتائب اللبنانية والذي استقال من الحزب منذ سنوات، لكنّه استمرّ في العمل السياسي من دون تغيير في مواقفه وقناعاته المولودة معه في بيت والده شاعر لبنان الكبير القاضي بولس سلامة.
ولد رشاد سلامة في بلدة حاصبيا في العام 1934، حاز على شهادة الحقوق من الجامعة اليسوعية، وتدرّج لدى مكتب المحاميين الراحلين موسى برنس، وأنيس حدّاد، ثمّ عمل في مكتب الوزير والنائب القانوني الشهير بهيج تقي الدين ممسكاً بالقضايا الكبرى، قبل أن يستقلّ بمكتب خاص به ويذيع صيته في قانون الجزاء والملفّات الجنائية الكبرى.
وحين نحاور سلامة الإبن، لا نستطيع إلاّ أن نعرّج إلى حديث عميق وممتع عن والده الشاعر سلامة الذي لم يثنه المرض المضني لعقود عن خطّ أصدق الأبيات الشعرية بحقّ الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب(ع)، فهو القائل:
كربلاء!! ستصبحين محجّاً
وتصيرين كالهواء انتشارا
ذكركِ المفجع الأليم سيغدو
في البرايا مثل ضياء اشتهارا
فيكون الهدى لمن رام هدياً
وفخاراً لمن يرومُ الفخارا
كُلما يُذكر الحسينُ شهيداً
موكبُ الدهر يُنبت الأحرارا
وهو القائل في ملحمة “الغدير” التي تعتبر بكر الملاحم العربية:
لا تَقُل شيعةٌ هواةُ عليّ
إنّ في كلّ منصف شيعياً
هو فخر التاريخ لا فخر شعب
يصطفيه ويدعيه وليّاً
جلجل الحقّ في المسيحيّ حتّى
صار من فرط حبّه علوياً
يا سماء اشهدي ويا أرض قرّي
واخشعي إنني ذكرتُ علياً
“محكمة” إلتقت المحامي رشاد سلامة صاحب التاريخ العريق في القانون الجزائي، في حوار مطوّل عن سيرته ومسيرته المهنية والحزبية والسياسية، وعلاقته بأبيه “هوميروس العرب” الشاعر الأنيق بولس سلامة، وموقفه من القوانين المعمول بها، وأهمّ مرافعاته ومنها في قضيّة اغتيال رئيس حزب الوطنيين الأحرار داني كميل شمعون والتي حوكم فيها رئيس حزب “القوّات اللبنانية” الدكتور سمير جعجع، وهنا نصّ الحوار:
• كيف تلخّص المراحل الكثيرة والقيّمة من حياتك المهنية والسياسية؟.
هنالك حوارٌ قائم بين حياتي المهنية كمحام وبين ولعي بالسياسة منذ كنت فتياً، ولا أعتقد أنّ هنالك أيّ تناقض بين هاتين الصفتين، بل ربّما هنالك تكامل بينهما على صعيد القيم المشتركة كالعدل القضائي والاجتماعي وخدمة الشأن الوطني، ولا مفاضلة في الأولويات بين صفتي كمحام وعملي السياسي.
إعجاب تقي الدين
• لماذا سلكت الطريق الجزائي في مسيرتك المهنية؟.
لقد بدأت تدرّجي وكنت منجذباً إلى العمل في حقل القانون المدني، ولكنّها المصادفة هي التي أخذتني إلى العمل في الحقل الجزائي، وأقصد بالمصادفة هنا أنّي كنت أترافع في دعوى قتل أمام محكمة جنايات جبل لبنان وكان يسمع المرافعة أحد عمالقة المحاماة في الحقل الجزائي النائب والوزير والمحامي الكبير الشيخ بهيج تقي الدين الذي أعجب بمرافعتي واتصل بوالدي ليسأله عن إمكانية انتسابي إلى مكتبه كمحامٍ بالإستئناف، فلّما أطلعني والدي على هذا الاتصال، قلت له إنّ طريقي المختصر إلى الشهرة يمرّ عبر انتسابي إلى مكتب الشيخ بهيج تقي الدين كون معظم القضايا الجزائية الكبرى يتولّاها ذلك المكتب، وهكذا حصل وانتسبت إلى مكتب الشيخ بهيج، وأصبحت أمثل في القضايا الكبرى التي كان يتولّاها.
• المحاماة رسالة للدفاع عمن؟
المحاماة هي رسالة للدفاع عن الحقّ الذي تتولّاه العدالة سواء كنت في موقع الإدعاء، أو في موقع الدفاع عن حرّيّة موكّلي، وهي القيمة الغالية جدّاً، وعن حقوقهم، وعن حياتهم أحياناً حين يكون الموكّل معرّضاً لحكمٍ يقضي بالإعدام.
تناقضات “أصول المحاكمات الجزائية”
• هل يطبّق قانون أصول المحاكمات الجزائية بطريقة صحيحة؟ وهل ترى نقصاً في مواده أم أنّه يواكب عصرنا؟.
بكلّ أسف، إنّ قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد يتضمّن في بعض نصوصه تناقضات لا بدّ من إزالتها، وأعرف عن كثب، أنّ هذا القانون خاضع للمراجعة والتعديل عبر إحدى اللجان الفرعية للجنة الإدارة والعدل برئاسة النائب المحامي أنور الساحلي حيث كنت مكلّفاً من قبل النقيب الأسبق أمل حدّاد بتمثيل النقابة لدى لجنة الادارة والعدل، وكذلك اللجنة الفرعية التي كانت تنظر بتعديل نصوص قانون أصول المحاكمات الجزائية.
ومن هذه التناقضات على سبيل المثال، أنّ هذا القانون يتضمّن ضرورة تمثيل المدعي لدى محكمة الجنايات بمحامٍ، بينما يحقّ للمتهم المثول لدى محكمة الجنايات بدون محام إذا أصرّ على ذلك، وهذا الأمر متروك للمتهم ينقضه نصٌ آخر من قانون أصول المحاكمات الجزائية، يلحظ وجوب تعيين محام للمتهم منذ الاستجواب التمهيدي الذي يسبق المحاكمة.
• ما هو السبب حالياً في اكتظاظ السجون؟ وهل تطبّق أحكام قانون أصول المحاكمات الجزائية في هذا الخصوص؟.
سبب اكتظاظ السجون هو الإبطاء في فصل الدعاوى الجزائية لدى المحاكم المختصة، إضافة إلى تأخير البتّ بطلبات إخلاء السبيل، وطول مدّة التوقيف بحيث يكون هذا الأمر مخالفاً لنصّ المادة 108 من قانون أصول المحاكمات الجزائية فتتعدّى مدّة التوقيف المهلة المحدّدة عملاً بأحكام المادة المذكورة.
بعض القضاة فاسدون
• يقال إنّ المحامي لا بدّ أن يكون من الطبقة الاستقراطية، فهل توافق على هذا الرأي؟!.
أقبل مثل هذا الوصف إذا كان للدلالة على مكانة المحامي في المجتمع، ولكنّني أرفضه إذا كان يعني أنّه ينبغي للمحامي أن يكون متحدّراً من عائلةٍ معروفة بالجاه والرفاه، علماً بأنّ مهنة المحاماة غالباً ما تكون عملية فرز حقيقي للمحامين أنفسهم بحيث يحصلُ كثيراً أن ينتقل عدد منهم من المحاماة إلى وظائف أو مهن أخرى، ويبقى منهم من يسجّل نجاحاً في مهنته فيستمرّ فيها.
• هل تجد القضاء اليوم في حالة تتطلّب المعالجة وعلى أيّ صعيد؟ وهل مقولة أنّه حين يفسد القضاء يفسد كلّ شيء، حقيقية؟! ويقال إنّ القائد السياسي يقف على باب القاضي، فهل اليوم تطبّق هذه القاعدة؟.
القاعدة صحيحة، فحين يفسد القضاء، فإنّ كلّ شيء فاسد، ولكن غالباً ما يحصل التجنّي على الجسم القضائي بسبب شذوذ قاضٍ معيّن عن قاعدة النزاهة والحياد والشفافية فيسيء إلى سمعة القضاء، وأنا شخصياً أثق بالقضاء، وإذا لا سمح الله، فقدت هذه الثقة، فسوف أعتزل المهنة.
والقضاء يحتاج إلى عدد أكبر من القضاة، لأنّ الملفّات تتكدّس أمام المحاكم بسبب هذا الخلل، الأمر الذي يقتضي رفع عدد القضاة إلى الحدّ الذي يكفل بإزالة هذا العيب.
وهنا لا بدّ من دعم المطالبة بوقف تعاطي أهل السياسة مع الجسم القضائي بحيث يصحّ القول للسياسين: “إرفعوا يدكم عن القضاء”، وبحيث يقال أيضاً للقضاة:”أقفلوا هواتفكم وأبوابكم بوجه المتدخّلين من أهل السياسة”.
ولا يوجد فساد في الجسم القضائي، ولكن يوجد بعض القضاة الفاسدين، ويكفي أن يكون هناك غالبية من القضاة المشهود لهم بالنزاهة والعلم والاجتهاد بالعمل، لكي تنتفي هذه التهمة التي تطلق أحياناً بوجه العدالة.
• لماذا نرى أغلب النوّاب حائزين على شهادة الحقوق؟.
العمل الأساسي لمجلس النوّاب هو عمل تشريعي، وبالتالي فإنّ مهنة المحاماة هي الوسيط الطبيعي بين المحامي والمقعد النيابي، بمعنى آخر ينبغي للنائب أن يكون ملمّاً بوظيفته كنائب، ولهذا السبب تكون مجالس النوّاب عادةً بأكثرية واضحة للمحامين عملاً بمهمّته الأساسية التي هي التشريع.
• الكلّ يعلم أنّك رجل سياسي، فكيف تجد الواقع العربي اليوم؟.
الواقع العربي مؤسف ومأساوي بكلّ معنى الكلمة، سواء ذلك في الجوار العربي المباشر للبنان وأعني الجمهورية العربية السورية بالتحديد، أو الجوار العربي الجغرافي الأبعد حيث تسود الحرائق والحروب والمآسي والجرائم التي ترتكب ضدّ الإنسانية وضدّ حقوق الإنسان وضدّ الحضارة والرقيّ.
حين قيل “الربيع العربي”، قلت هذا الجحيم العربي، لأنّه بذريعة الربيع العربي لمزيد من الحرّيّات والديمقراطيات في بلدان معيّنة، تحوّلت هذه الوعود إلى مآسٍ حقيقية تتعرّض لها بلدان عزيزة كانت مستقرة إلى حدّ بعيد قبل مؤامرة الربيع العربي بحيث أصبحت المعالجات لتدارك المآسي صعبة ومكلفة جدّاً في شبه غيابِ كامل عمّا يسمّى بمواقف دول القرار والمجتمع الدولي.
المرافعة بجريمة اغتيال داني شمعون
• ما هي أهمّ المرافعات التي تولّيتها في مهنتك؟.
لقد تولّيت مرافعات في معظم القضايا الجنائية الكبرى التي عرضت أمام المجلس العدلي، فضلاً عن محاكم الجنايات ومحاكم التمييز الجزائية، ومنها على سبيل المثال مقتل الدكتور الياس الزايك، وقضيّة مقتل الرئيس رشيد كرامي حيث كنت وكيلاً عن العميد خليل مطر، وقضيّة مقتل عبدالله عسيران إبن الرئيس عادل عسيران، وقضيّة صواريخ “الكروتال”، وأوّل جريمة إرهابية إرتكبت في بيروت أواخر ستينيات القرن العشرين وهي مقتل جودت شبوع في محلّة الأشرفية بواسطة متفجّرة كانت ضمن قالب الحلوى قُدّم ليلة عيد الميلاد إلى جودت شبوع وقتل بنتيجتها، وقد تولّيت الدفاع عن أهل الضحيّة في الدعوى، وحين تمّ توقيف المتهمّ، سأله التحرّي هل تعرف جودت شبوع، قال هو صديقي ودائماً أرغب بلقائه.
ولدى مرافعتي في القضيّة ختمتها حينما سئل المتهم عمّا إذا كان يرغب بلقاء جودت، فطلبت من المحكمة أن تعمل على تحقيق أمنيته بتعجيل لقائه بجودت شبوع عبر حبل المشنقة.
كما أنّني ترافعت مثلاً في قضيّة مقتل داني شمعون وأفراد عائلته والتي صدر فيها حكم بحقّ السيّد سمير جعجع بالإعدام وخفّف إلى الأشغال الشاقة المؤبّدة، وصدرت هذه المرافعة بأربع صحف وسمّيت بمرافعة العصر، وأطلقت عليّ إحدى الصحف أمير العدلية، وأذكر جزءاً من المرافعة أقول فيه:
“سيّدي الرئيس الأوّل – سادتي الرؤساء المحترمين
موجعة هذه القضيّة!! فوجه المأساة وجهها، ولعلّها تختصر بذاتها كلّ الفواجع التي ألّمت بلبنان، أفراداً، وعائلات، وجماعات، وتمادت طول عقدين من الزمن. ولكن، فليؤذن لي أن أقول إنّي خبرت البارحة، ما هو أكثر منها إيلاماً، حتّى أنّي لا أبالغ ولا أغالي إذا قلت إنّ جميع الجروح التي نزفت منها دماء داني وانغريد وطارق وجوليان، لا توازي الجرح الذي خبرت قسوته، أمس!!. فالبارحة إلتقيت الطفلة تمارا – جين شمعون التي تطلّ اليوم على “خريفها السادس” – أجل قلت “خريفها”،لأنّها على مدى عمرها لن تعرف الربيع، ولأنّه قيل لها إنّي وكيلها، ولم تفهم طبعاً المعنى القانوني لهذه العبارة، راحت تروي أخباراً وطرحت عليّ أسئلة..
قالت لي تمارا ما معناه: هل لك أن تخبرني لماذا قتل الأشرار أمّي وأبي وطارق وجوليان؟ لماذا صرت وحيدة؟ أنا ماذا فعلت لهم؟ أيّ ذنب إقترفت؟. ثمّ قالت: “تعرف أنّ ما فعله الأشرار ليس حسناً ….”.
وباللغة الفرنسية التي تعرفها، قالت لي:
Tu sais , ce n’est pas bien , ce que les me’chants ont fait a’ mes parents.
وأضافت عادةً، البطل هو الذي ينتصر ويربح. وداني كان هو البطل، فلماذا غلبه الأشرار؟.
قالت لي تمارا :إنّي مشتاقة جدّاً إلى أبي وأمّي، أمّا طارق وجوليان فقد صارا ملاكين، وأنا أراهما أحياناً، لكنّ جوليان ملاك وله عين واحدة، فهل لك أن تطلب من الأشرار أن يعيدوا إليه عينه كي يصبح جميلاً جدّاً مثل طارق، كسائر الملائكة الذين أراهم في صور القدّيسين؟!.
حاولت بدوري أن أقول أشياء يفهمها الأطفال، لست أعرف إلى أيّ مدى أحسنت الجواب، فأفهمت!! ذلك أنّ الغصّة كانت عالقة في الحلق، ولم أوفّق إلى حبس الدمع في المآقي!!.
قالت الطفلة تمارا ما معناه:إنّ الأشرار قتلوا البطل، لكنّهم لم ينتصروا عليه، وقالت أيضاً ما معناه إنّ البطل يملك سيفاً لا يقهر وهو الذي سينتصر، وكأنّها – من حيث لا تدري – عنت بذلك سيفكم أيّها السادة، سيف العدالة الذي هو شعاركم، يعلو ميزان الضمير.
أجل قالت تمارا أشياء كثيرة بهذا المعنى، وأصارحكم بأنّي ودّعتها وفي البال منها ألف سؤال، وعلامة تعجّب لن تزول: سبحان الله!! كيف تضع البراءة على لسان الأطفال كلمات، أين من بلاغتها الخطب، والشعر قصائد ومطوّلات وأجود المرافعات!!!.
أرجوكم سادتي: إسمعوا جيّداً ما قالته لي تمارا الطفلة الملاك، الطفلة التي أصبحت وحيدة يتيمة!! وعاقبوا الجناة الأشرار، بأقسى ما يستطيعه عدلكم، ويقطع به سيفكم. وفيما أكرّر المطلب المتعلّق بالتعويضات الشخصية، أرجو التفضّل بقبول أسمى مشاعر التقدير”.
• هل أثّرت هذه الدعوى على عملك السياسي؟.
هذه الدعوى أخذت الصدى الذي تستحقّه، ولكنّها أثرت على عملي السياسي إذ ربحت خصومات لم أكن أريدها، وأنا لست عدواً لأحد، ولكن أنا كنت أعمل بمسؤوليتي، وبمهنتي بوجه العدالة، ولم يكن لديّ أيّ خصومة شخصية مع أيّ طرف في هذه الدعوى، أو أيّ حالة نفسية لا سلباً ولا إيجاباً ولا أعرفه، ولم ألتق به. أنا كنت أقوم بدوري المهني، وليس السياسي.
مهابة بولس سلامة
• من هو بولس سلامة الأب والشاعر والقاضي؟ وأيّ وجه كان أقرب إليك؟.
هناك قاعدة عامة هي مهابة بولس سلامة الذي أفخر بكوني أحد أولاده. لقد كان الوالد المحبّ جدّاً والعطوف جدّاً، ولكنّه الرجل الذي يخفي هذه المزايا كونها تشكّل نقطة الضعف في شخصيته، وكان أيضاً معلّمي ومثالي الأعلى، وكنت أتهيّب فيه أيضاً منذ الصغر، صفته كقاضٍ، إلى درجة أنّني كنت أحتار أيّاً من صفاته أحبّها أكثر من غيرها، والجواب كان دائماً بولس سلامة هو والدي الذي لزم سرير مرضه طوال ثمانية عشر عاماً وخضع لأكثر من عملية جراحية حتّى لقّب بحقّ “بأيوب القرن العشرين”، إلى جانب ألقابه الأخرى “شاعر القضاء”، و”قاضي الشعراء”، ومنها أيضاً لقبه “هوميروس العرب” كصاحب أوّل ملحمة عربية، وربّما كان هذا اللقب الأخير أحلاها لدى بولس سلامة، فقد كتب على قبره “هنا يرقد هوميروس العرب”.
أمّا والدي كما عرفته، فقد كنّت أنا وإخوتي في المدرسة الداخلية، وكانت الليلة التي نحضر فيها كان يُقلِق والدتي، فطوال الليل كان يقول لها:”أدلينا بكرا جايين الولاد”، لكن عندما كنّا نحضر، كنّا نقبّل يده، وهو يقبّل كلّ واحد منا عالخدّين، ولا يظهر من تلك العاطفة التي ينتظر فيها كلّ الليل حضورنا.
• أعطى القاضي بولس سلامة عبرة قيّمة للقضاة حين تولّى منصب قاضي تحقيق في الشمال، وهدفها مراعاة حقوق الإنسان وحرّيتهم فهل تذكّرنا بها؟.
عندما عيّن والدي قاضياً للتحقيق في الشمال، طلب من رجال الأمن أن يدخلوه إلى السجن لكي يختبر عن كثب، قسوة السجن، إذ علم أنّه كقاضي تحقيق سيصدر مذكّرات توقيف ممّا يوجب عليه أن يعلم ما هو السجن، وقد بقي ليلة كاملة ولليوم التالي حتّى يراعي أنّ العدالة فيها قسوة، وفيها رحمة، وطبّق هذه القاعدة، فاستطاع أن يوازي بين التوقيف وعدمه.
• قال بولس سلامة “أنا مسيحي أبكاني حبّ الحسين”. كيف حصل ذلك؟.
هناك عدّة قصائد لوالدي بولس سلامة عن فاجعة كربلاء، فقد نظم إحدى قصائده حول مصرع الإمام الحسين في كربلاء، وأنا اختبرت شخصياً مدى تأثّر والدي وجدانياً بهذه الليلة، إذ قال:
بكيت حتّى وسادي نشّ من حُرقٍ
وضجّ في قلمي إعوالُ مُنتحِبي
أنا المسيحي أبكاني الحسينُ وقد
شرقتُ بالدمع حتّى كاد يشرق بي
لا يستوى في لقاء النار شاردُها
والمرتمي فوقها جذعاً من الحطبِ
دخلت يوماً إلى غرفته، وكان قربه الماء والأدوية وكان يضع ناموسية فوق سريره، فكنت ألقي عليه الصباح كالعادة أو أعيد الناموسية وراء المخدّة، فوجدت المخدّة مبلّلة، فسألته هل رميت الماء على نفسك؟ أو أنّك تصبّبت عرقاً مع أنّ الطقس في الخارج بارد جدّاً؟ قال: لا، ولكنّني الليلة نظمت قصيدتي في مصرع الإمام الحسين، أيّ أنّه عاش كربلاء خلال نظم القصيدة والدموع التي ذرفها حزناً على الحسين بلّلت وسادته.
• هل كان بولس سلامة يرى في كربلاء، الجانب المأساوي، أم ذروة انتصار الإيمان؟.
كان بولس سلامة يرى في كربلاء مثالاً للفداء، أيّ افتداء الإمام الحسين إيمانه بدمه، ودم صحبه وآل بيته، أيّ أنّه افتدى دمه بإيمانه وبحقّه، وطبعاً أرسى الإمام الحسين في كربلاء قواعد الثورة الحسينية المجيدة، أيّ ثورة المظلوم على الظالم، وانتصار الدم على السيف.
• أين يتجلّى التقارب المسيحي مع السيرة الحسينية؟.
يتجلّى في قصّة الفداء، فالإيمان المسيحي أنّ المسيح إفتدى على الصليب إيمانه، والحسين إفتدى إيمانه في كربلاء، والشهادة هي أحد وجوه التضحية، ممن يفتدي قضيّته بروحه ودمه. وفي الحالتين، هناك نوع من التعليم المجيد الذي يشكّل قدوة لكلّ العالمين، ولولا هذا الفداء لما كان للمسيحية من وجود في العالم، ولولا الحسين لما وجدت الثورة الحسينية.
أبي أوّل من غنّى فلسطين
• في حوار مع الشاعر بولس سلامة أجراه مصطفى الصبّاغ، ثمّة سؤال إستوقفني حيث سأله عن رأيه في المشاكل العربية وكيف يمكن حلّها؟ فقال: إنّ حلّ مشاكل العرب في اتحادهم، فمن الضروري أن يوجد العرب في الميادين الثقافية والاقتصادية والسياسية، لأنّ ذلك يحقّق لهم المنعة والسؤدد. واليوم أطرح عليك نفس السؤال كيف يمكن حلّ المشاكل العربية؟.
هو نفس الجواب بأن يكون العرب مؤتمنين على وحدتهم وعلى تراثهم وحضارتهم وعلى القضايا الكبرى وفي طليعتها قضيّة فلسطين. ولا بدّ من التذكير بأنّ بولس سلامة أوّل شاعر عربي نظم قصيدة مطوّلة عن قضيّة فلسطين سنة 1947 أيّ قبل اكتمال النكبة، أيّ عندما كانت إسرائيل تغتصب الأراضي الفلسطينية، كان بولس سلامة ينظم قصيدته ويدعو العرب إلى التآخي، وقد قال في هذه القصيدة: “وليحمل الغرب همّاً من تآخينا”.
لقد كان بولس سلامة مسيّساً جدّاً من حيث يدري أو لا يدري، بهذا المعنى، أيّ أنّه كان صاحب قضيّة، ولهذا السبب طالبني بعدم العمل في السياسة، ولكنّه عاد ودعم طموحاتي السياسية حين علم أنّ السياسة أصبحت جزءاً من شخصيتي. لقد كان يدعم القضيّة الفلسطينية، فليس هنالك من شاعر نظم قصيدة عن فلسطين قبل بولس سلامة الشاعر الذي أصبح أيقونة العيش المشترك في لبنان، وفي الوقت ذاته عروبته الخالصة والنقيّة، ترجمت بأن يكون أوّل شاعر عربي يكتب عن قضيّة فلسطين، هذه القضيّة التي ينبغي أن ينصرها كلّ إنسان يدافع عن الحقّ باعتباره قضيّته.
• سؤال أخير، ما هي النصيحة التي تعطيها لكلّ محام بدأ حديثاً مسيرته المهنية؟ وما هي الأمور التي يقتضي أن يكون المحامي محصّناً بها؟.
أوّل نصيحة هي أن يمارس المحامي جوهر مهنة المحاماة، وهو الدفاع عن العدالة، والسهر على تحقيقها، وألا يعتبر المهنة هي فقط وسيلة عيش، لأنّ المحاماة هي رسالة، وليست وسيلة للإرتزاق فقط، وأن يحرص على أن تكون المحاماة فعلاً الجناح الآخر للعدالة، وألاّ ينزلق في مجال أيّ إغراء يمكن أن يُفْسد صفة المحاماة، بمعنى أن يتحمّل مسؤولية الوكالة التي يتولاّها ويناضل من أجلها، ويبذل الجهد المطلوب حرصاً على مكانة المحاماة، وعلى تميّز المحامي، وخصوصيته على مستوى المجتمع.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 13 – كانون الثاني 2017).
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يرجى الإكتفاء بنسخ جزء من الخبر وبما لا يزيد عن 20% من مضمونه، مع ضرورة ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.