رلى صفير.. إبتسامة على وجه العدلية/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
مجتهدة، ونشيطة، وقديرة في إدارة محكمتها، وراقية في تعاملها مع الآخرين من زملاء ومحامين ومتقاضين. أربعة عناوين مفيدة تختصر رلى صفير.
لا تكلّ هذه القاضي المرأة من عقد الجلسات والتدريس الجامعي. تحضر باكراً إلى قصر عدل بيروت وكأنّ مفتاح “بيت العدالة” في جيبها، ولا مبالغة في هذا الوصف على الإطلاق. قبل الساعة السابعة صباحاً تركن سيّارتها في الباحة الخلفية للمواقف الخارجية، وتُنْزل حقيبة زاخرة بالقرارات والأحكام والملفّات وتتجّه على الفور إلى مكتبها في الطبقة الثانية حيث تنهمك في إعدادها وترتيبها وإلقاء نظرة تحقّق أخيرة على مجمل سطورها ومضامينها قبل أن تجلس على قوس المحكمة إيذاناً بقول الحقّ في المكان الصحيح، وإيماناً منها بهذا الواجب حتّى ولو ارتفعت فوق “القوس” جدارية كبيرة تقول بالخطّ العريض: “قلّ الحقّ وإنْ كان عليك”.
عند الساعة التاسعة من يومي الثلاثاء والخميس من كلّ أسبوع، تفتتح رلى صفير جلساتها في الملفّات المعروضة عليها. الأولوية لتلاوة القرارات المتعلّقة بالدفوع الشكلية، واتخاذ موقف منها، ثمّ تسيير الملفّات بالتدرّج وصولاً إلى الاستجوابات الطويلة والمرافعات لئلاّ تتعارض مع مواعيد جلسات أخرى للمحامين في محاكم مختلفة في بيروت أو خارجها. تُعطي مهلة زمنية للآتي من البعيد تحسّباً لزحمة سير معتادة في وطن يضجّ بالفوضى في كلّ شيء، وبهدف إتمام المحاكمة بالصورة الوجاهية كونها الدليل الأمثل على نقاوة العدالة وإلاّ لما كانت هناك ضرورة لتأمين حقوق الدفاع لكلّ أطراف النزاع.
تدقّق إبنة كفردبيان في كلّ شاردة وواردة من تلقاء نفسها. لا تنتظر إشارة من أحد. القاعة مُلْكها والموجودون فيها ضيوف بوجوه مختلفة. تنادي المتخاصمين بصوت ثابت لا يضعف ولا يتبدّل حتّى ولو تغيّرت الهيئات الشاخصة إليها. تتحقّق بنفسها من وكالة المحامي إذا ما كانت مبرزة في الملفّ، وكم من محام يغافل نقابته فيتغاضى عن تسجيلها ودفع الرسوم المتوجّبة عليها. لا تقبل إلاّ بإبراز بطاقة هوّية المدعى عليه الحاضر بالذات فتُمْعن نظرها فيها، ثمّ تعيدها إليه لتطمئنّ إلى المجريات، وهي شكليات تصبّ في صميم العمل القضائي.
وإذا ما صدرت جَلَبة من بعض الحاضرين أو الواقفين عند مدخل القاعة تراها تتعامل معهم بحزم لا يخلو من الإحترام. وإذا تكرّر الأمر، ترفع وتيرة الصوت:” الحكي مش هون. برّات القاعة”، فيعمّ الهدوء.
جاءتها إمرأة مسنّة في إحدى الدعاوى في جلسة علنية وفي موضع المدعى عليها من جارتها، وشكت لها حالها وأبدت خشيتها من لازمة “الواسطة” التي لا يتوانى اللبناني عن تردادها أكثر من اسمه يومياً، فما كان من صفير إلاّ أن قالت لها وبالحرف الواحد:” ما بدي اسمع كلمة وسايط. انت هون بمحكمة والقانون بياخد مجراه”. المرأة لم تسكت. تبدي استياءها من وصفها بـ”المجرمة”. لهذه الكلمة الفظيعة وقع على أُذن المجرم الحقيقي ليس سهلاً فكيف على امرأة مُسنّة تُحاكم بدعوى عادية وجنحة بسيطة قد تشهد المحاكمُ الكثيرَ منها؟ مخاوفها كثيرة من النتيجة. هذا ما يرويه احتكاك كفّيها ببعضهما، مع أنّ المناخ العام خريفي مائل إلى الحار، ونادراً ما يتسلّل الهواء من النوافذ المشرّعة لتحريكه وإنعاشه ولا أثر للمكيّفات في قاعة المحكمة المفجوعة بسقف مهترئ. القاضي صفير تصغي للمرأة جيّداً، تعطيها الكثير من الانتباه وتذكّرها:” أنت لست مجرمة. أنت مدعى عليك وكلّ مدعى عليه بريء حتّى تثبت إدانته”. القاعدة واضحة إلاّ على مَنْ يجهلها.
ليس لدى هذه المرأة محام. أو بالأحرى” المحامي قبض مني تلات آلاف دولار وما حضر معي ولا جلسة وشكيتو لنقابة المحامين وبعد ما صار شي” تقول المرأة بحُرْقة. ربّما استعطافاً لحالتها، لكنّها تزوّدت بمستندات كثيرة قدّمتها للقاضي صفير أملاً في حكْم “يُعْجِب خاطرها”، وهذه العبارة حمّالة أوجه!.
ويصدف أنّ على هذه المرأة دعوى أخرى من الجارة نفسها. تمرّر صفير ابتسامة سريعة، فبعدما كانت الإلزامات المالية المُطالَب بها مئة مليون ليرة في الدعوى الأولى، إنخفضت إلى النصف في الدعوى الثانية، وتقول للمحامي:”شو مخفّفين هون؟”. تسمع المرأة هذه الأرقام وتُجنّ:” مْنَلي؟! يا حسرتي.. إي حْبِسُوني!”، فتقفز ابتسامات ملوّنة من وجوه الحاضرين لترطّب أجواء القاعة.
يحاول أحد المحامين الذي فاته حضور جلسته، استعادة ملفّه. لا تقبل “الريّسة” معه: “الرُول عم يقلب”، وبالتالي لا رجوع إلى الوراء إلاّ بعد انتهاء جلسات بقيّة الحاضرين في قاعة المحكمة صوناً لوقتهم وحقّهم. وهذه خطوة تثلج صدور المحامين والمتقاضين المنتظرين.
تحدّد صفير وقتاً قريباً قدر المستطاع، لإصدار الأحكام وفق برنامج عمل يوازي بين قرارات الدفوع الشكلية، والجلسات وما فيها من استجوابات ومرافعات. ختمت المحاكمة في إحدى الدعاوى وفاجأت المحامي بأنّ الحكم بعد أسبوعين. قرار يريح المتقاضين أو على الأقلّ من لديه قناعة بأنّه على حقّ!.
يرفع محاميان صوتيهما على بعضهما في دعوى أخرى. يحتدان. يتعاركان كلامياً أمام صفير. ترفض هذا الأسلوب في التعاطي بين زميلين وتسارع إلى الردّ:”ما تتخانقوا”، لكنّهما لا يتوقّفان، فتزجرهما لعلّهما يرتدعان:”ما بقا تحكوا”. الرجلان أكبر منها سنّاً، ولكنْ لا رضوخ للأعمار في معرِض إحقاق الحقّ.
تملك رلى صفير ذاكرة لا تنسى. تدير محكمتها بجرأة وتعرف أين تبتسم، أو تمرّر ما ينتزع ابتسامة تلطّف بها الأجواء وتخفّف من الاحتقان القانوني والنفسي لكلّ الموجودين. تعطي محامياً شهراً بانتظار صدور قرار نقابة المحامين بمنحه الإذن للترافع بوجه زميلة له. يتبيّن من مفكّرة الأيّام أنّ 20 تشرين الثاني 2018 هو عيد المولد النبوي الشريف، فتبادر صفير إلى تحديد 27 من الشهر المذكور موعداً للجلسة المقبلة، وتقول للمحامي وهو في موضع الدفاع: “طلِعْلك أسبوع كادو”.
تقلّب صفير ملفّاً آخر، تفتح صفحاته وتلفت نظر محامي الجهة المدعية إلى أنّ المدعى عليه غير الحاضر من مواليد العام 1934 أيّ أنّ عمره 84 عاماً وتبتسم.
نخرج من قاعة المحكمة مثقلين بهموم الملفّات، ونردّد ما أحوج المحاكم إلى ابتسامة اسمها رلى صفير.
(الصورة المرفقة بالنصّ بعدسة المصوّر الزميل جوزف برّاك)
(نشر هذا النصّ في النسخة الورقية من مجلّة “محكمة” – العدد 35 – تشرين الثاني 2018)