فادي صوّان الزاهد بالإعلام إلى ميدان المواجهة الأقوى بانفجار المرفأ/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
بعد نحو أسبوعين على الإنفجار المزلزل في مرفأ بيروت، وضع المحقّق العدلي فادي صوّان يده على ملفّ التحقيق الإستنطاقي وهو الذي استنكف من دون أيّ مسوّغ عن القيام بهذه المهمّة وهذا الواجب الوطني فور وقوع الكارثة في 4 آب 2020 بصفته قاضي التحقيق العسكري الأوّل ولو بالإنابة حيث كان يفترض به أن يبادر فور علمه وسماعه بالجريمة الكبرى المشهودة والموصوفة أن يتحرّك إلى مسرحها وأن “يدعس” أرضها لكي يعلن نفسه المسؤول الأوّل عن التحقيق ومن دون أيّ منازع.
هذا ما يقوله القانون(المادة 55 و56 أ.م.ج.)، وهذا ما تستوجبه المسؤولية القضائية والإنسانية والوطنية، وهذا ما فعله قاضي التحقيق العسكري الأوّل رشيد مزهر عند حصول سلسلة جرائم من اغتيالات وتفجيرات ومحاولات قتل بين العامين 2005 و2008، إذ كان يصل قبل كثيرين من مسؤولين ومعنيين في الدولة إلى مسرح الجريمة لكي يباشر تحقيقاته ويحيط بمجريات الأمور ويكون على اطلاع أوّلي بكلّ شاردة وواردة.
وما حاول صوّان الإبتعاد عنه كقاضي تحقيق عسكري، أعيد إليه بصفته قاضي التحقيق العدلي بعدما “فرضه” رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود على وزيرة العدل في حكومة تصريف الأعمال ماري كلود نجم كونه من المقرّبين منه والمحظيين لديه فوافقت عليه واقترحته بعكس الحالات المعمول بها في سنوات سابقة وعهود ماضية حيث كان وزير العدل يقترح اسماً معيّناً بناء على “اتفاق مسبق” لكي يكون محقّقاً عدلياً فيقبل مجلس القضاء الأعلى من دون أدنى تردّد. وبعدما سقط اقترحا نجم بتعيين القاضيين سامر يونس وطارق بيطار لأسباب مختلفة، حطّ القاضي فادي صوّان كخيار أوّل وأخير ضمن لائحة التعيين التي أعدّتها نجم وتضمّنت ما لا يقلّ عن ستّة أسماء قضاة من الطوائف المسيحية المختلفة تحديداً.
ويُعْرف عن صوّان زهده الإعلامي وابتعاده عن الملفّات الشائكة والدقيقة ورغبته في العمل خلف أبواب مغلقة ومن دون أيّ تواصل فعّال مع الإعلام باستثناء تقديم لمحات عن خلاصات قرارات أصدرها في قضايا محالة عليه. هذا ما فعله وهو قاضي التحقيق العسكري الأوّل بالإنابة منذ تشرين الأوّل 2018 في كلّ الملفّات الحسّاسة التي تعني الرأي العام اللبناني ووصلت إلى القضاء العسكري بحكم الإختصاص، فنأى بنفسه عن التحقيق في ملفّ العميل “الإسرَأميركي” عامر الفاخوري، وعن ملفّ الموقوفة بجرم التعامل مع العدوّ الإسرائيلي كندا الخطيب، وعكف في المقابل على دعاوى مهما كثر عددها لن تتمكّن من أن “تطبش” ميزان المقارنة مع الملفّات”الحرزانة”. ولذلك وجدنا صوّان ينظر في ملفّات مكرّرة تتعلّق بالتنظيمات الإرهابية في سوريا والإتصال بالعدوّ الإسرائيلي وترتبط بجرائم الرشوة والتزوير، كما أنّه أصدر قرارات اتهامية في قضايا عديدة أحيلت إليه كقاضي تحقيق منها على سبيل المثال قتل الرائد بيار بشعلاني والمعاون أوّل إبراهيم زهرمان في عرسال بعد دهم الإرهابي المطلوب خالد حميد في وادي الرعيان في البلدة المذكورة.
وكان كلّ القضاة الذين تناوبوا على مركز قاضي التحقيق العسكري الأوّل ينتظرون على أحرّ من الجمر وصول ملفّ دسم بالمعنى الإعلامي والقانوني، كونه يهمّ الناس لكي يحقّقوا فيه ولكي تذكر أسماؤهم في الإعلام وفي التاريخ القضائي، ولكي يضمّ الأمر إلى سجّل مسيرتهم في العمل القضائي. كانوا يقومون بهذا التصرّف صيفاً وشتاء وفي كلّ آن، وسواء أكانوا موجودين في مكاتبهم في المحكمة العسكرية أو خارجها، وفي أيّام السنة القضائية والعطلة القضائية فهم المسؤولون في الدرجة الأولى إدارياً عن توزيع الملفّات على قضاة التحقيق، ويتخذون القرار بترك هذا الملفّ لديهم أو يحيلونه على هذا القاضي أو ذاك. وهذا معمول به في القضاء العدلي، لا بل أكثر من ذلك فإنّ أيّ قاضي تحقيق يحلّ بالإنابة في مركز قاضي التحقيق الأوّل يتضرّع إلى الله كثيراً أن يسبغ عليه نعمة الملفّات والدعاوى الدسمة وذات الإهتمام الشعبي الكبير، والأمثلة في هذا المضمار كثيرة ولا تحصى.
ويملك صوّان خبرة طويلة في القانون الجزائي نتيجة الفترة الطويلة التي قضاها في مركز قاضي تحقيق في الشمال وفي جبل لبنان وفي القضاء العسكري، وهو وعد مراراً بترؤس محكمة جنائية في تشكيلات ومناقلات قضائية، غير أنّ الحظّ لم يحالفه ولم يبتسم له، إلى أن اختاره القاضي سهيل عبود ليكون رئيساً لمحكمة استئناف الجنح في بيروت في التشكيلات القضائية التي أنجزها مجلس القضاء الأعلى ورقياً في آذار 2020 ولم تبصر النور وطويت نهائياً إلى غير رجعة، فبقي صوّان في مركز قاضي تحقيق عسكري أوّل بالإنابة كونه الأعلى درجة بين زملائه قضاة التحقيق هناك وهو مركز محسوب لطائفة الموحّدين الدروز ضمن التقسيمات الطائفية المعتمدة في توزيع المراكز القضائية الرئيسية.
ويفترض أن يكون القاضي صوّان متفرّغاً لإنجاز عمله بالشكل المطلوب أسوة بما حصل مع زميليه القاضيين الياس عيد وصقر صقر عندما كانا محقّقين عدليين على التوالي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وينتقل من المحكمة العسكرية إلى غرفة خاصة في الطبقة الرابعة لقصر عدل بيروت في الجناح المخصّص للنيابة العامة التمييزية لكي يكون قريباً من النائب العام التمييزي القاضي غسّان عويدات من أجل المزيد من التشاور والتنسيق واتخاذ القرارات المصيرية، فالملفّ كبير ويحتاج إلى عناية راشدة وساعات من الكدّ والجهد، وتحقيق لا يستهان به.
ولا شكّ أنّ مهمّة صوّان شاقة خصوصاً وأنّها المرّة الأولى التي يكون فيها محقّقاً عدلياً، وهو أمام تحدّ كبير في جريمة تدمير المرفأ بما يمثّل من دعامة إقتصادية للوطن، وفي جريمة مزلزلة أودت بحياة عشرات الأشخاص وجرحت الآلاف، وأضرّت بالكثيرين معنوياً ومادياً ونفسياً، وهذه الجريمة هي الأكبر والأفظع في تاريخ لبنان، فهل ينجح في مسعاه إلى إظهار الحقيقة كاملة أم يصطدم بتدخّلات وعراقيل وخطوط حمراء تخفّف من وهج اقتياد المتهمّين الكبار إلى المحاكمة أمام المجلس العدلي بما يمثّل من أعلى هيئة قضائية جزائية في لبنان؟
“محكمة” – الإثنين في 2020/8/17