فادي صوّان والإستقالة من الجرائم الهامة و”تسييس” التحقيق بانفجار المرفأ/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
هل عندما فرض القاضيان سهيل عبود وغسّان عويدات بالتضامن والتكافل في ما بينهما، زميلهما القاضي فادي صوان محقّقاً عدلياً في قضيّة انفجار المرفأ بعدما رفضا توجّه وزيرة العدل في حكومة تصريف الأعمال ماري كلود نجم إلى تعيين أحد القاضيين سامر يونس وطارق بيطار على التوالي، بحجج واهية، وقعا عن غير قصد، في محظور التحقيق البطيء، أو بالأحرى “تسييس” التحقيق العدلي؟!
فكما ذكرت “محكمة” في مقال سابق ونشرت لمحات عن ابتعاد صوّان عن الخوض عميقاً في الملفّات الدسمة من دون وضوح أسباب هذا النأي، فإنّه لم تعرف الجرأة عن صوّان في محاكاة الملفّات الكبيرة ذات الجرائم الهامة، ومع ذلك وقع خيار عبود وعويدات عليه، علماً أنّ جريمة كتلك التي وقعت في مرفأ بيروت تحتاج إلى مَنْ يكون مقداماً ولا “تسكّ” ركابه مهما كان الثمن.
بينما صوّان تخلّى عن الجرائم الهامة خلال تولّيه مركز قاضي التحقيق العسكري الأوّل بالإنتداب بعد استقالة القاضي رياض أبو غيدا في تشرين الأوّل 2018 حيث لم يقم مجلس القضاء بانتداب قاض درزي لهذا المركز بحسب التوزيع الطائفي المعتمد، بينما سارع في شهر نيسان 2019 إلى انتداب قاض ماروني هو المستشار في محكمة التمييز الجزائية مارون أبو جودة لترؤس محكمة الجنايات في البقاع عند إحالة رئيسها القاضي داني شرابيه على هيئة التفتيش القضائي والمجلس التأديبي ووقفه عن العمل.
ملفّات وجع الرأس
والجرائم الهامة ليست عبارة عابرة في متن قانون أصول المحاكمات الجزائية، بل تقصّد المشترع إيرادها في متن الفقرة الثالثة من المادة 51 من القانون المذكور حيث قال بالحرف الواحد:” يتولّى قاضي التحقيق الأوّل بنفسه التحقيق في القضايا الهامة ويوزّع القضايا الأخرى على قضاة التحقيق في دائرته”، غير أنّ ما فعله صوّان هو أنّه وزّع معظم القضايا الهامة على قضاة التحقيق العسكري وأبقى لنفسه دعاوى صغيرة لا تتساوى مع موقعه القضائي البارز، وهذا يدلّ عن عدم رغبة في مقاربة هذا النوع من الملفّات، أو فلنقل الملفّات التي”توجع الراس”!
وعند حلول العطلة القضائية في كلّ صيف من كلّ عام، وإعداد جدول مناوبة للقضاة، يتعمّد قاضي التحقيق الأوّل في المحافظات أن يذكر في متنه أنّ الجرائم الهامة من نوع القتل والمخدّرات من اختصاصه الحصري، وتضاف إليها جرائم التجسّس والتعامل مع العدوّ الإسرائيلي إذا كان في مركز قاضي التحقيق العسكري الأوّل، فإذا ما ورد ملفّ من هذا الصنف الممتاز، حضر شخصياً إلى دائرته ومكتبه وباشر النظر والإستجواب والتحقيق بشكل اعتيادي.
الفاخوري والخطيب وجريمة قبرشمون
إلاّ أنّ القاضي صوّان الموجود في القضاء الجزائي بشقّيه العدلي والعسكري الاستثنائي منذ العام1990 أحال على قضاة التحقيق العسكري ملفّات تحكي عن جرائم هامة، أو بالأحرى ذات طابع هام، فأبعد نفسه عن ملفّ العميل الإسرائيلي عامر الفاخوري في صيف العام 2019، وعن ملفّ جريمة قبرشمون- البساتين في العام 2019، وعن ملفّ العميلة كيندا الخطيب في العام 2020 وقبل انفجار المرفأ. فكيف لقاض تنازل مراراً عن حقّه القانوني في النظر في ملفّات وقضايا هامة خصّه قانون أصول المحاكمات الجزائية بها، أن يحقّق في انفجار كاد يبيد بيروت وسكّانها وقد قضى فيه أكثر من مائتي قتيل وجرح ستّة آلاف شخص ودمّرت أرزاق وممتلكات؟
الفارق بين مزهر وصوّان
وأكثر ممّا تقدّم، فإنّه عند وقوع جريمة 4 آب 2020 في المرفأ، نأى القاضي صوّان عن ممارسة دوره في جريمة مشهودة، إذ كان يفترض به أن يترك مكتبه أو منزله حيث كان موجوداً، وأن يتجّه بسرعة البرق، إلى مسرح الجريمة، وأن يشمّر عن يديه لبدء التحقيق فيها وهذا ما يقوله قانون أصول المحاكمات الجزائية أيضاً في المادة 55 ومن دون أن ينتظر وصول النائب العام، لا بل لا دور على الإطلاق لهذا الأخير عند وقوع الجريمة المشهودة باستثناء تقديم الطلبات، فلا يحقّ له الإشتراك في التحقيق، أو أن يجري تحقيقاً موازياً، فالتحقيق هنا من صلاحية قاضي التحقيق حصراً حتّى ولو كانت همّة النائب العام أسرع في الوصول إلى مسرح الجريمة، وبالتالي يتوجّب عليه أن ينتحي جانباً ويزيح من درب قاضي التحقيق.
لكنّ القاضي صوّان لم يفعل. لم يقم بدوره. تخلّى عن صلاحيته ووظيفته دون أيّ مسوّغ قانوني أو عذر شرعي، و”انتظر” تعيينه محقّقاً عدلياً، بينما من سبق صوّان في منصب قاضي التحقيق العسكري الأوّل خلال الفترة الواقعة بين العامين 2005 و2010 عنيت به القاضي رشيد مزهر، فإنّه لم يفوّت جريمة مشهودة من تفجيرات واغتيالات شهدها لبنان في حمأة التغيير السياسي بعد انتهاء مفعول الوصاية السورية بإيعاز أميركي سعودي مشترك، إلاّ وكان في مسرحها أو يقوم بمهامه فيها على أكمل وجه، وبما توجبه الذمّة القضائية المتطلعة إلى العدالة الحقّة من تسطير استنابات للأجهزة الأمنية ومباشرة التحقيق بسماع شهود وغير ذلك.
هكذا فعل مزهر عند اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ووليد عيدو وجورج حاوي وجبران تويني وأنطوان غانم ووسام عيد، ومحاولة اغتيال مروان حمادة ومي شدياق والياس المرّ. ولم يترك أحداً يحلّ مكانه ويقوم بدوره. ولا يمكن لأحد أن يتذرّع بأسباب سياسية دفعت إلى تحرّك مزهر، ذلك أنّ انفجار 4 آب 2020 أشدّ وقعاً على كلّ المستويات من جريمة 14 شباط 2005، ويكفي أنّ المواطن اللبناني ذاق فيها الويلات لكي يسرع القضاء إلى القيام بواجباته.
بينما صوّان لم يكلّف نفسه عناء التحرّك والنزول إلى مسرح الجريمة. وكذلك لم يفعل عند اندلاع الحريق الكبير في مسرح الجريمة يوم الخميس الواقع فيه 10 أيلول 2020 وتصرّف وكأنّه غير معني به، بينما الأمر يقع في صلب اهتماماته وصميم اختصاصه القانوني والقضائي وكمحقّق عدلي وكقاضي تحقيق عسكري أوّل.
إنّ دور القاضي يتمثّل في الدرجة الأولى والأخيرة في السعي إلى إحقاق الحقّ وإرضاء ضميره، ولا يهمّه تدخّلات وضغوطات من هنا وهناك وأحياناً تحت مسمّى إرضاء الرأي العام الذي تحرّكه الطبقة السياسية أو الذباب الإلكتروني على مواقع التواصل الإجتماعي من”فايسبوك” و”تويتر”.
تسريب التحقيق
وفي المحصّلة، لا يمكن للمحقّق العدلي في انفجار مرفأ بيروت أن يبتعد عن ممارسة دوره القضائي كاملاً وإنْ رغب في الإبتعاد عن الأضواء والإعلام، ولكن لا يجوز أن يقرأ الناس ملخّصات وافية وشافية وكاملة عن تحقيقاته الإستنطاقية السرّية في الصحف ووسائل الإعلام ويقف متفرّجاً وكأنّ الأمر لا يعنيه، فهو سيّد الملفّ وسيدّ التحقيق خصوصاً وأنّ التسريب المتعمّد لم يبتعد عن غايات سياسية، فضلاً عن أنّ استقلالية القاضي تكمن في أنّه سيّد ملفّه، فهذه الإستقلالية تفرض من القاضي نفسه، ولا تمنح له من أيّ شخص آخر.
كما أنّه لا يجوز للمحقّق العدلي أن يتمسك بتوقيف أشخاص لا علاقة لهم البتّة بالإنفجار المزلزل في المرفأ حيث دورهم معدوم في مسألة رفع “نترات الأمونيوم” ونقلها من العنبر رقم 12 كالضابطين في الأمن العام الرائد داوود منير فياض والرائد شربل كمال فوّاز، وبمن قام بواجبه وأبلغ السلطات التي يتبع لها هرمياً وحذّر من خطورة الإبقاء عليها كالضابط في أمن الدولة الرائد جوزف ميلاد الندّاف، وكرئيس المرفأ محمّد المولى الذي تنحصر سلطته بالمياه ويحتاج إلى إذن للمرور على البرّ، ورفضُه أن يكون حارساً قضائياً لا يقابل بالتوقيف.
وبدلاً من أن يصحّح صوّان موقفه هذا، لا بل أخطاء التوقيف الإعتباطي وليس الإحتياطي، عمد إلى الإدعاء على رئيس حكومة تصريف الأعمال حسّان دياب والوزراء الثلاثة غازي زعيتر ويوسف فنيانوس وعلي حسن خليل، وتغاضى عن استدعاء ضبّاط كبار من مختلف المؤسّسات العسكرية والأمنية، وتخلّف عن مواجهة وزراء آخرين، وقضاة تقاعسوا عن أداء دورهم، وعن التحقيق مع كلّ من اطلع على التقارير وتملّص من المسؤولية الوطنية والإنسانية، والأسماء كثيرة ويعرفها صوّان جيّداً ما دام أنّه هو المحقّق العدلي، فلماذا حرْفُ التحقيق عن مساره الوطني لاستخدامه في بحر سياسي أمواجُه متقلّبة، وتحقيق مصالح سياسية مَدُّها يقابله في لحظة ما، جزر يعيدها إلى “سيرتها الأولى” وحجمها الطبيعي، وعندها يكون القضاء قد دفع الثمن وهو الذي لا يحتاج على الإطلاق، إلى زيادة منسوب تراجع ثقة الرأي العام به؟!
ألا تستدعي كلّ هذه المعطيات إستقالة صوّان كمحقّق عدلي وترك المهمّة لقاض آخر يسمّيه ويعيّنه وزير العدل بناء على موافقة مجلس القضاء الأعلى، ولا يستفرد أحد في فرضه وتعيينه ولا يتحوّل وزير العدل إلى موقّع لقرار التعيين فقط لا غير؟
“محكمة” – الجمعة في 2020/12/1
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.